هذا كتاب مهم عن تطور الصراع الذي نشب بين عدلي يكن السياسي المحنك وسعد زغلول زعيم الأمة بعد ثورة 1919. الكتاب من تأليف عمرو سميح طلعت، ونشر دار الشروق، كأي كتاب علمي رصين لا يدّعي الانفراد بالرأي، لكن يقوم بتحليل كل ما توفر للبحث عن كتب أو صحف أو مذكرات لمناصري سعد أو خصومه، ومن كتبوا في ذلك في ما بعد، من الباحثين والمؤرخين، بهدوء ومناقشة للأمر من كل جوانبه. الكتاب ضخم، ستمئة صفحة من القطع الكبير، وهو لا يدخل في الأمر مباشرة، بل يتقصى في البداية تاريخ حياة سعد زغلول وعدلي يكن منذ النشأة ، وكيف جمعت بينهما المحافل السياسية والحياة الاجتماعية، حتى يدخل في صميم الخلاف، بعد ما اتضحت لك خلفية كل من الاثنين الاجتماعية، فيبدو الأمر كأنك ترى كل منهما أمامك.
المؤلف يتمتع بلغة أدبية جميلة، رغم تحليله السياسي، فهو يجمل حديثه عن الصداقة التي جمعت بين الرجلين بأنها صداقة تنطوي على ود، مع بعض من غيرة، على مواءمة وبعض من مواجهة، على اتحاد وبعض من منافسة، صداقة وصلت بطرفيها إلى السلطة فصرعتها السلطة وانشطرت الأمة. يتكرر تعبير وانشطرت الأمة بعد أكثر الفصول، ليشير إليك بما قد يكون خفيا مما طرحه من حادثة أو موقف، وتشعر أن هذا الانشطار وراءه ما تقدم، وإن شيئا فشيئا، فلم يكن عدلي ولا سعد بعيدا عن النضال من أجل تحقيق الاستقلال، ورفع الحماية على مصر. هذه النقطة بالذات تجدها في كل تحليل لمواقف كل منهما، ورغم ذلك انشطرت الأمة.
تبدأ دراما الكتاب بعد استعراض حياة كل من الرجلين، بإعلان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن مبادئ السلام، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي أكد فيها على حق تقرير المصير للشعوب فبدأت في مصر حركة التوقيعات الرهيبة، بين الشعب لاختيار وفد يمثل الأمة، وتم ذلك في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 وكان حسين باشا رشدي رئيسا للحكومة وعدلي يكن وزيرا للمعارف العمومية، وكانا من مؤيدي الوفد بقوة، والتنسيق معه للمطالبة بسفر الوفد إلى باريس، حيث سينعقد مؤتمر الصلح بعد الحرب لعرض القضية، فرفضت إنكلترا سفر الوفد، فتقدم كل من حسين باشا رشدي وعدلي يكن باستقالتهما احتجاجا على هذا الرفض. وفي 8 مارس/آذار يتم القبض على سعد زغلول وحمد الباسل وإسماعيل صدقي أعضاء الوفد المختار من الشعب ويتم نفيهم، فانفجرت الثورة في التاسع من مارس. في الثامن من إبريل/نيسان، أُفرج عن سعد ورفاقه وسمح لهم بالسفر إلى باريس لعرض مطالب مصر في مؤتمر الصلح العالمي، الذي سيقام في قصر فرساي وزاد عدد الوفد. وهنا بدأت لعبة الإنكليز.
في الكتاب أيضا نوستالجيا وإن كانت ليست الموضوع، لكنها مؤثرة حين يذكر القصور الخاصة ببعض الباشوات مثل، هدي شعراوي أو عدلي يكن، وكيف ضاعت من أجل أبنية حديثة لا معنى معماري لها
ماطلت بريطانيا في منح مصر الاستقلال، بل استطاعت أن تأخذ موافقة الدول الأخرى، بما فيها أمريكا صاحبة وعد ويلسون الشهير على عدم استقلال مصر، ما أصاب الوفد بالإحباط، لكنهم استمروا في فرنسا ولم يعودوا. أوفدت بريطانيا اللورد الفريد ملنر وزير المستعمرات في مايو/أيار 1919، فيما عُرف بلجنة ملنر لتحقيق أسباب الاضطرابات التي حدثت في القطر المصري، كأنها لا تعرف. لم يجد ملنر أحدا يتفاوض معه، فالشعب لا يرى ممثلا له إلا الوفد المصري برئاسة سعد زغلول، ما اضطر ملنر إلى العودة إلى إنكلترا. بدأت مرحلة جديدة من المفاوضات في لندن كان فيها عدلي الوسيلة الأولى في التفاوض، فقد سافر إليهم وكان سعد زغلول مشجعا لذلك، حتى فشلت المفاوضات، وطال الوقت وتغير ملنر، وفشلت المفاوضات أيضا لأن بريطانيا كانت تلقي بشيء وتخفي شيئا ومبدأها فكرة «ضبط التنازلات» التي قام المؤلف بشرحها، أي الموافقة على شيء لا قيمة له وتجاهل الشيء الأهم في الاستقلال التام. المهم أنه زمن استمر وبالطبع كان لابد أن يحدث انقسام بين أعضاء الوفد نفسه. بعضهم لطريقة تعامل وحدِّة سعد في النقاش، وبعضهم لحاجته المالية ووراء ذلك طبعا سياسة إنكلترا في التطويل وضبط التنازلات. لقد قرأنا كثيرا كيف أن الانقسام كان على رأسه عدلي يكن، الذي لم يكن مع الوفد من البداية، بل سافر إليهم بموافقة منهم، وترحيب، ومن ثم هذا لم يحدث. لقد استمر للنهاية.
كان عدلي يكن لا ييأس من المفاوضات، بينما سعد زغلول لا يرى أملا بسرعة، ولعل طول بال عدلي يكن هو ما أثار الشك في نواياه، لكن في النهاية وقبل أن يصدر تصريح 28 فبراير/شباط 1922 يعود عدلي يكن يائسا من المفاوضات، ويقدم استقالته الثانية من الوزارة التي كان هذه المرة رئيسها، والتي سماها سعد زغلول في البداية وزارة الثقة. ويعود سعد زغلول الذي لم تر بريطانيا حلا معه إلا نفيه مرة أخرى، أي أن الاثنين دفعا ثمن تصريح 28 فبراير، أحدهما بإرادته وهو عدلي يكن والآخر مرغما وهو سعد زغلول. في الأشهر الأخيرة قبل هذا التصريح كان سعد زغلول الذي يخفي هواجسه قد ضاق صدره وراح يعلنها ويتهم عدلي يكن بأنه غير حريص على أهداف الأمة، بينما عدلي يكن عاد رافضا تقاعس بريطانيا وقدم استقالته.
الجهد العلمي الذي قام به عمرو سميح طلعت جهد فائق الروعة والصبر وليس غريبا عليه هو صاحب موسوعة باشوات مصر، والكاتب الذي ينشر أحيانا على موقع «راوي» مقالات رائعة عن تاريخ مصر، ولديه مقتنيات نادرة ووثائق تاريخية ورثها عن جده عبد الوهاب باشا طلعت رئيس االديوان الملكي في عهد الملك فاروق لابد كان هذا من أثرها.
عمرو سميح طلعت يشغل الآن منصب وزير الاتصالات في مصر، وهذا أمر عجيب كيف لرجل بارع في علوم الاتصالات حاصل فيها على شهادات كبرى، أن يكون على هذه البراعة والصبر في البحوث التاريخية. الدرس العظيم من هذا الكتاب الذي يحتاج أكثر من مقال لعرضه هو، كيف انشطرت الأمة واستفاد الأعداء فتصريح 28 فبراير، رغم أهميته إلا أنه ليس كل ما كان يريده الشعب. هذا درس الثورات دائما للأسف، فحين لا يتفق الثوار معا يستفيد من قامت ضدهم الثورات.
في الكتاب أيضا نوستالجيا وإن كانت ليست الموضوع، لكنها مؤثرة حين يذكر القصور الخاصة ببعض الباشوات مثل، هدي شعراوي أو عدلي يكن، وكيف ضاعت من أجل أبنية حديثة لا معنى معماري لها كذلك الفنادق التي كانو يتقابلون فيها في مصر ومنها كلاريدج في الإسكندرية والكونتننتال وشبرد وغيرها مما ضاع. الكتاب رغم الجهد العلمي العظيم لا يخلو من حنين إلى زمن. يفسر لك مثلا كيف تأخر عدلي يكن عن العودة إلى مصر، بعد فشل المفاوضات وقيل إما كان مريضا، أو كان يخشى العودة من هجوم الناس، أو كان يشتري أشياء من أوروبا فيقول عن الأخيرة إنها غير معقولة، لأن كل ما في أوروبا من أشياء كان في مصر. ولقد كان هذا حقيقيا. متابعة الكتاب لخروج الناس في وداع سعد إلى المنفى وفي عودته من أوروبا شيء يفوق الخيال حيث كانت الناس بالآلاف المؤلفة تقف في الشوارع وتستأجر البلكونات والبيوت والمقاعد، وبلغ إيجار البيت عشرين جنيها والبلكونة ثمانية جنيهات، والمقعد جنيها واحدا وقتها. من الكتاب تشعر بأن عدلي يكن ظلم كثيرا وهذا طبيعي، ففي الثورات لا يكون التفاوض بالعقل الرشيد. كان سعد قويا والشعب كله في ظهره، وكانت قيمة عدلي في أمله بالعودة منتصرا، ولم يعد منتصرا للأسف. إنه كتاب جدير بالقراءة لأنه يوضح كثيرا مما خفي في هذه العلاقة التي كانت حميمة وانشطرت، ويحافظ فيه الكاتب ليس بنية مسبقة، بل بدراسات عميقة لكل ما صدر في زمانها وبعدها بقيمة عدلي يكن ويا له من جهد فائق عظيم.
٭ روائي من مصر