سعيد عبد الغني الوصية واللون الأبيض والوجه الآخر للحداد

كمال القاضي
حجم الخط
0

سُئل الفنان الراحل سعيد عبد الغني ذات مرة عن سر ارتباطه باللون الأبيض، الذي لازمه طوال حياته حتى صار مميزاً به، فقال إنه قطع على نفسه منذ وقوع نكسة يونيو/حزيران عام 1967 أن لا يرتدى سواه في معظم الأحيان، وذلك حداداً على زملائه الذين استشهدوا في الحرب، ومن هنا نلحظ تباين مفهوم ومعنى الحداد عند الراحل، الذي كان يرى أن الحزن يسكن القلب، وأن الشارات السوداء ليست دليلاً عليه، بل العكس هو الصحيح، فالعزيز الذي نفقده نستحضره دائماً في أحسن صورة واللون الأبيض هو رمز النقاء اللائق بمن تركوا الدنيا ومضوا إلى رحاب الله، حيث الراحة الأبدية والنعيم المقيم.

تلك كانت فلسفة سعيد عبد الغني الإنسان، في رؤيته للموت وفهمه للفراق، وها هو ذا يرحل مرتدياً اللون نفسه الذي ظل يذكر نفسه به، حتى لا ينسى اللحظة الفارقة التي سيلقى فيها وجه ربه، في غمرة انهماكه وانشغاله بالشهرة والأضواء.

 لقد ترجم بقناعته الشخصية، الصورة الأهم في الزهد والإيمان بحتمية الغياب وفناء الدنيا وذهاب العرض الزائل من دلائل الثراء والاستمتاع والاستغناء، وربما يتسق ذلك مع ما تردد عن وصيته التي أوصى بتنفيذها بعد موته، حيث ذُكر أنه تبرع بمبلغ سبعة ملاين جنيه للمشروعات الخيرية، فهذا إن صح يكون دليلاً قاطعاً على أنه أراد أن يترك الدنيا آمناً مطمئناً راجياً حُسن الختام.

هذا الجانب من حياة الفنان الراحل هو الغائب عن الجمهور، الذي كثيراً ما يقع في إشكالية الخلط بين حياة النجوم الشخصية وطبيعة أدوارهم على الشاشة، بتصور سطحي أن الحياة الفنية انعكاس لحياتهم الواقعية، بدون الأخذ في الاعتبار أنه كممثل مجرد ناقل لصور الواقع بتناقضاته واختلافاته وجماله وقبحه، فعلى سبيل المثال نجد أن سعيد عبد الغني قدّم خلال مشواره الفني العديد من النماذج التي تراوحت بين أدوار الشر وأدوار الخير، في محاولة لتجسيد الصراع الطبيعي بين القوتين، فلا يمكن أن ننسى دورة في فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” الذي جسد فيه ببراعة دور المحقق المتجني على المتهمين السياسيين، وفق الرؤية السينمائية المكتوبة بغرض أو بتوجه حسب سياق المرحلة في سبعينيات القرن الماضي.

وهو نفسه الذي لعب دور الرجل المتحرر المتأثر بالثقافة الفرنسية في فيلم “حبيبي دائماً”، أيقونة الرومانسية في السينما المصرية وأحد أفلام الثنائيات الناجحة بين نور الشريف وبوسي، وكذلك كان لسعيد عبد الغني إطلالاته المميزة في أفلام مثل “العصفور” و”المذنبون” و”أيام الغضب” فلم يكن أقل توهجاً ولمعاناً من الأبطال الرئيسيين، بل لعله تفوق عليهم في بعض الأحيان، ولنا في “أيام الغضب” المثال الدال، حيث حصل على جائزة أحسن ممثل (دور ثاني) أمام نور الشريف وهو البطل المُطلق للفيلم.

وفي الدراما التلفزيونية كان اكتشافه الحقيقي مرتبطاً بأهم أدواره على الإطلاق في مسلسل “الغربة” الذي كان فتحاً مبيناً بالنسبة له بتقمصه المقنع لشخصية هراس ذلك الرجل الريفي الطاغية، الذي يشبه إلى حد كبير شخصية عتريس في فيلم “شيء من الخوف” التي قدمها النجم محمود مرسي، وأعاد تقديمها للتلفزيون الممثل القدير عبد الله غيث، في مسلسل “البركان” وتلك مقارنات تحتمها وحدة الموضوع والقضية، إذ انصبت الأحداث في الأعمال الفنية الثلاثة حول شخصية الديكتاتور في الريف المصري، وهي شخصية رمزية لها أبعاد ومستويات وإسقاطات سياسية يمكن قراءتها على أكثر من محمل وكلها تُفضي إلى معنى واحد.

كان الفنان عبد الغني واعياً في تجسيده لشخصية هراس بكل التكوينات النفسية والإنسانية والثقافية للنموذج الاستثنائي الفريد الذي اجتمعت فيه صفات الكبرياء والغرور والبطش، ولم يخل أيضاً من نقاط ضعف أظهرها البطل من خلال أدائه التمثيلي المتباين والمُتقن، وقد ظل الفنان الراحل يعتز أيما اعتزاز بهذا الدور، ويعتبره نقله مهمة في حياته الفنية وعلامة رئيسية في مشواره، رغم تعدد أدواره التلفزيونية في ما بعد، وتفوقه أيضاً في مسلسل “الفرسان” وهو نوعية تاريخية لها الأهمية ذاتها.

لقد جرب عبد الغني حظه في المسرح، وقدم بعض الأعمال القليلة من بينها مسرحية “كنت فين يا علي” للمخرج عصام السيد في أوائل التسعينيات، ومن خلالها كانت الرؤية الناقدة للواقع السياسي المصري في فترة الأربعينيات، وتميز الأداء التمثيلي للنجم الراحل كالعادة، ولكنه لم يواصل مسيرته المسرحية كما كان يطمح، وركز في السينما والتلفزيون باعتبارهما بديلين مهمين أكثر جماهيرية وشعبية.

حصل الفنان والصحافي والحقوقي سعيد عبد الغني على امتيازات أدبية تليق بفنه ودورة الثقافي على مدار حياته التي امتدت إلى 81 عاماً، فحصل على وسام الدولة في الفنون من الطبقة الأولى، وكان هذا التكريم بمثابة اعتراف رسمي بأهميته وتأثيره كممثل موهوب أبدع في ما قدم وتميز فصار نجماً كبيراً.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية