غزة- “القدس العربي”:
عمل سكان قطاع غزة على استغلال أيام الهدنة الإنسانية، التي توقفت فيها لأول مرة منذ بداية الحرب الإسرائيلية المدمرة، أصوات المدافع والطائرات والغارات الدامية، والعيش بأقل الإمكانيات التي كانت متوفرة لهم قبل هذه الحرب، فاستمرت حركتهم في الشارع الذي حرموا منه كثيرا، وذهب الكثيرون إلى مناطق زراعية وإلى مقربة من البحر، للترويح قليلا عن أنفسهم، بعد أيام طويلة من الضغط النفسي والعصبي.
ومنذ صبيحة الجمعة دخلت الهدنة الإنسانية، التي يتخللها إبرام صفقة جزئية لتبادل الأسرى، حيز التنفيذ، وتستمر لأربعة أيام، فيما هناك حديث عن إمكانية تجديدها لأيام أخرى.
ورغم أن اليوم الأول شهد حركة حذرة لسكان قطاع غزة، خشية من خرق إسرائيلي مفاجئ لحالة الهدوء، إلا أن اليومين التاليين، شهدا حركة أكثر نشاطا، خاصة ما بين المدن، كما استغلها السكان للمشي في الشوارع، والخروج من المناطق السكنية إلى المناطق الزراعية وإلى مناطق البحر، بحثا عن رؤية أوسع للفضاء.
وعبر مواطنون قابلتهم “القدس العربي” عن أملهم كباقي سكان قطاع غزة، في أن تستمر هذه الحالة من الهدوء، وأن يتطور ذلك إلى وقف كامل للحرب.
وقال عماد قدرة، الذي كان يسير في منطقة زراعية، مليئة بأشجار الزيتون، ومعه أفراد من أسرته، إنه أمضى معظم أيام الحرب جليسا في المنزل، أو يقف على بوابته يتحدث مع الجيران، عن تدبير أمور حياتهم، في الحصول على الماء الصالح للشرب أو توفير الدقيق، وأنه كان يخرج مضطرا فقط إلى الأسواق في بعض الأيام، لشراء الأطعمة.
وهذا الحال كان يعيشه جميع سكان قطاع غزة، بسبب الهجمات الإسرائيلية التي كانت تنفذها الطائرات الحربية النفاثة، بشكل عنيف على كافة مناطق القطاع، موقعة في كل مرة عشرات الضحايا والإصابات.
وهذا الرجل الذي سار في تلك المنطقة الزراعية، كان إلى جانب ذهابه وأسرته إلى الترويح عن أنفسهم قليلا، برؤية المناطق الخضراء، بدلا من المنازل المكدسة جنبا إلى جنب، وبعيدا عن مناطق القصف والدمار، كان يريد أيضا الوصول إلى أرض زراعية يملكها مزروعة بأشجار الزيتون، وقد تحدث هذا الرجل كغيره من مزارعي الزيتون، عن خسارة كبيرة تكبدوها هذا العام، لمرور موسم جني الثمار خلال الحرب، دون قطف المحصول وعصره لاستخراج الزيت.
ومن المؤكد أن يواجه سكان غزة أزمة كبيرة في الحصول على زيت الزيتون، بسبب الحرب حيث لم تعمل المعاصر حتى اللحظة، رغم اعتماد السكان عليه كطبق رئيس يأكل مع غالبية الأطعمة الأخرى، خاصة في فصل الشتاء.
أما مصطفى الحداد، الذي سار برفقة زوجته في الطريق المؤدي إلى بحر منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة، قاطعا أيضا أراضي زراعية في طريقه، فأشار إلى السماء حين سألناه عن سبب خروجه، فقال “أنظر لا يوجد أي طائرات في الجو، ولا نسمع لها صوت”، ويشير إلى أن ذلك لم يكن متاحا طوال أيام الحرب.
ويؤكد هذا الرجل وهو في منتصف العقد الرابع ويعمل موظفا في أحد المؤسسات الأهلية، إنه مل كثيرا من روتين الحياة خلال الحرب، فلم يكن يخرج لعمله في مدينة غزة، كباقي السكان، وظل مجبرا على سماع هدير الطائرات وصوت القصف والانفجارات.
وقالت زوجته إنها كانت تخشى الليل أكثر من النهار خلال الحرب، وأن أصوات طائرات الاستطلاع التي تصدر أزيزا خلال طيرانها، كانت تتسبب لها بصداع شديد، وكانت ترتعب وأطفالها عند سماع صوت الانفجارات، لافتة إلى أنها طلبت من زوجها المشي طويلا في هذا الطريق وصولا لرؤية البحر، بعد تلك الأيام المريرة.
وقالت “مللنا الجلوس في المنزل، وخرجنا نجوب الشارع لتفريغ الطاقة السلبية التي سببتها الحرب”.
وفي ذلك الشارع المؤدي إلى البحر، وكذلك في طريق العودة من شارع آخر يصل إلى منطقة النصيرات القريبة، كانت هناك أسر كثيرة أخرى تسير في المكان، إلى جانب عدد كبير من الشبان.
ورغم وجود زوارق حربية تجوب البحر، وبرودة مياه البحر في هذا الوقت، إلا أن هناك شبان ممن خرجوا هربا من ذكريات الحرب المؤلمة، عملوا على وضع أقدامهم في البحر، فيما قام آخرون بالسباحة لمسافة قليلة.
وقال أحد الشبان الذي سار برفقة زملائه في طريق عودته من هذه الرحلة “لم نرى مناطق خضراء، وشممنا هواء برائحة البارود طوال الأيام الماضية، وجئنا للبحر لروية مدى بعيد”.
وهذا الشاب الذي يدرس في أحد جامعات مدينة غزة، سيواجه ظروف صعبة، خاصة بعد أن عملت قوات الاحتلال عل تدمير جامعته في مدينة غزة، ما سيحول دون قدرته على إكمال تعليمية والتخرج قريبا.
وكانت الحرب اندلعت يوم السابع من أكتوبر الماضي، وقامت خلالها قوات الاحتلال بشن أعنف الهجمات ضد الفلسطينيين منذ بداية الصراع، ووفق إحصائيات خرجت بعد التهدئة، فإن عدد الشهداء فاق الـ20 ألف، فيما هناك عشرات آلاف الإصابات، كما تعمدت خلالها إحداث دمار كبير في المنازل والمؤسسات على اختلاف أنواعها، وكذلك أحدثت دمارا كبيرا في البنى التحتية.
وفي هذا الوقت يعيد سكان قطاع غزة، عند ملاقاتهم أصدقاء أو أقارب لهم، الحديث عن قصص عايشوها خلال أيام الحرب، وعن غارات جوية قريبة، أو عن ذويهم الذين فقدوهم في الحرب، أو تعرضوا للإصابة، أو عن منازلهم التي دمرت أو التي تضررت.
ويتحدثون فيما بينهم طويلا عن أيام وليالي الرعب وخوف الأطفال من تلك الغارات.
وفي هذا السياق، فقد أكدت إحدى السيدات أن أطفالها الصغار، يفزعون ليلا من النوم حتى وقت التهدئة، وهو يصرخون، ويتحدثون بعبارات وجمل عن الخوف من القصف.
وهذا الحال تعايشه معظم أسر قطاع غزة، منذ الأيام الأولى للحرب، وتؤكد أن ذلك أصاب أطفالها إما بسبب وقوع غارات وهجمات قريبة، أو بسبب قيامهم مفزوعين في أحد الليالي على أصوات الغارات.
والسيدة التي تحدثت لـ”القدس العربي”، تؤكد أن أطفالها وعددهم ثلاثة وأكبرهم بعمر 10 سنوت، لا يخلدون إلى نومهم، إلا إذا وضعتهم ووالدهم بين أحضانهم.
وفي أيام الهدن، بات أمر البقاء خارج المنزل بعد حلول الظلام طبيعيا، وترى مارة يجوبون الشوارع، بعد أن كان الجميع يدخل منزله قبل غروب الشمس.
إلى ذلك فقد قامت الكثير من الأسر التي تقطن مناطق وسط وجنوب القطاع، إما بالعودة لمنازلها القريبة من الحدود الشرقية للقطاع، أو بالوصول إليها واستخراج بعضا من ملابسها وأمتعتها، فيما تفاجئ آخرون بتدمير منازلهم خلال نزوجهم إما عند أقارب لهم أو في “مراكز الإيواء”.
وفي مشهد محزن، قام الكثير من السكان الذين نزحوا قسرا من مدينة غزة ومناطق شمال القطاع، بالوصول إلى مناطق قريبة من وصول النازحين الجدد من تلك المناطق، ومحاولة التعرف على بعض من يقطنون في مناطق قريبة من سكنهم هناك، لسؤالهم عن باقي أفراد أسرهم أو أقاربهم، الذين تركوهم خلفهم، وقد انقطع معهم الاتصال منذ عدة أيام، ولم يعرفوا شيئا عن مصيرهم.
كما انهمك آخرون من السكان بالتسوق خشية من أيام قادمة تعود فيها الحرب من جديد، لا يقدرون خلالها الوصول للأسواق، لكن رغم ذلك ظلت البضائع شحيحة من الأسواق، وفي مقدمتها المواد الأساسية، والتي لم تعد تدخل إلا عبر قوافل المساعدات.
واصطف المواطنون في طوابير طويلة أمام محطات تعبئة غاز الطهي، التي عادت للعمل بطاقة قليلة، مع بدء وصول بعض الشاحنات المحملة بهذا النوع، ضمن قوافل المساعدات التي تصل إلى قطاع غزة.
وفي أعقاب زيارته الثانية إلى غزة، جدد المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” فيليب لازاريني، دعوته العاجلة من أجل وقف إطلاق نار إنساني طويل الأجل.
وجاء في تصريح له تلقت “القدس العربي” نسخة منه “إن الناس منهكون وبدأوا يفقدون الأمل في الإنسانية، إنهم بحاجة إلى فترة راحة، فهم يستحقون أن يناموا دون القلق بشأن ما إذا كانوا سيبقون على قيد الحياة في الليل، وهذا هو الحد الأدنى الذي يجب أن يتمتع به أي شخص”.
مفوض “الأونروا”: الناس يستحقون أن يناموا دون القلق بشأن ما إذا كانوا سيبقون على قيد الحياة
وأكد أن التوقف المؤقت لإطلاق النار “يعد أيضا فرصة للوصول إلى المحتاجين، بما في ذلك في الشمال، والبدء في إصلاح البنية التحتية المدنية”.
وأضاف “لقد عدت للتو من زيارتي الثانية إلى قطاع غزة منذ بدء الحرب، وإنني أقدم شهادة على معاناة الناس التي لا توصف”، وأضاف “منذ زيارتي الأولى قبل أسبوعين، أصبح الوضع الإنساني بالفعل أسوأ بكثير، ولا يزال النزوح مستمرا”. لافتا إلى أن “الأونروا” تستضيف الآن أكثر من مليون شخص في مدارسها ومبانيها في كافة أرجاء قطاع غزة.
وشدد على ضرورة إلغاء “العقبات البيروقراطية” والقيود المفروضة على “الأونروا”، حتى نتمكن من توسيع وتسريع عملية تقديم المساعدة الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها لأكثر من مليوني شخص.
هذا وقد بقي الحال صعبا في “مراكز الإيواء”، التي تكتظ بالنازحين، خاصة بعد رفض جيش الاحتلال لمن قدم من مناطق مدينة غزة والشمال، إلى مناطق الوسط والجنوب العودة إلى منازلهم.
وتعيش هذه الأسر أوضاعا صعبة جدا للغاية، ويشتكون من الازدحام في غرف الإقامة في الفصول، وهو أمر أدى إلى تكدس أعداد كبيرة منهم للإقامة في ساحات المدارس، في خيام لا تقيهم برد ولا أمطار الشتاء.
وفي تحديث جديد لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، ذكرت أنه نزح ما يقرب من 1,7 مليون شخص (أو ما يقرب من 80 بالمئة من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة منذ 7 أكتوبر.
وأوضحت أنه حتى 22 نوفمبر هناك أكثر من مليون نازح يقيمون في 156 منشأة تابعة لها في كافة محافظات قطاع غزة الخمس، بما في ذلك في الشمال، حوالي 896,000 نازح يقيمون في 99 مرفقا في مناطق الوسط وخان يونس ورفح. وأوضحت أن هذا الرقم يمثل زيادة بحوالي 190 ألف فرد خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية.
وأشارت إلى أنه حتى 12 أكتوبر 2023، كان ما يقرب من 160 ألف نازح يقيمون في 57 مدرسة تابعة لـ”الأونروا” في منطقتي الشمال وغزة، وذلك قبل أن تصدر سلطات الاحتلال الإسرائيلية أوامر الإجلاء، لافتة إلى أنها غير قادرة على الوصول إلى هذه الملاجئ لمساعدة أو حماية النازحين، وأنه وليس لديها معلومات عن احتياجاتهم وظروفهم.
وأكدت أنه تجاوز متوسط عدد النازحين لكل ملجأ 9 آلاف شخص، ما يشير إلى مستوى كبير من الاكتظاظ بالنظر إلى أن سعة المأوى القياسية التي تصل إلى 2000 شخص.
وقالت إنه في المتوسط، تستضيف ملاجئ “الأونروا” أربعة أضعاف ونصف من النازحين أكثر من قدرتها الاستيعابية المقصودة، لافتة إلى أن إحدى المدارس في المغازي بالمحافظة الوسطى، أبلغت عن معدل اكتظاظ يصل إلى 18,95 ضعف طاقتها الاستيعابية، حيث تم إيواء 37,900 نازح في منشأة مخصصة لما مجموعه 2000 فرد.