بدعة سياسية يريد أن يكرسها الحكم السلطوي العربي، وهي أن يدير النظام الجمهوري بطريقة الحكم الملكي، وهذا لعمري مفارق لروح العصر ومنطق التاريخ ومناقض تماما للعقل في ابسط أبجدياته. ولعلّ المظهر المروّع لهذه المفارقة أن يأتي النظام عن طريق انتخابات مزورة، ويتمادي في تنظيم استحقاقات انتخابية، ليس لتداول الحكم مع المعارضة، بل لتوكيد وتكريس النظام نفسه في عملية ترمي إلى توحيد الحاكم مع نظامه، وتفصيل متواصل للدستور على مقاسه وشروطه.
تلك هي البدعة السياسية التي أوصلت العديد من الدول العربية والإفريقية إلى حافة انهيار كبير للدولة والمجتمع معاً، لأن النظام السلطوي أراد أن يُمَاهي بين النظام الملكي، الذي لا يحتاج إلى انتخابات ، لأنه قائم على العائلة الحاكمة بالوراثة، والنظام الجمهوري الذي يفترض فيه أن يمر الحاكم عبر انتخابات نزيهة وديمقراطية.
الحقيقة أن تداخلا بين الحاكم والنظام الجمهوري وانصهار الأول في الثاني أو العكس، لا يمكن أن يستقيم في الفكر السياسي المعاصر، ولا في الممارسة، فلا يمكن لتراث الأمة أن يتماهى مع الشخص الفرد، وأبداً لن ينصهر التاريخ مع الحاكم، كما أنه يستحيل أن يُقْرَن اسم الشخص الحاكم في النظام الجمهوري مع مقومات الدولة وأجهزتها. فأصل النظام الجمهوري هو الجمهور نفسه، وأن السلطة موجودة في كنفه، ومن ثم يجب أن لا يعاند الحاكم في استحواذه بالسلطة واحتكارها لنفسه ولحاشيته، لأنه سرعان ما تفصح الحقيقة عن نفسها، وتعود الأمور إلى نصابها، أي السلطة للجماهير، عبر حِرَاكات وأساليب شعبية ومدنية، تؤكد فيها قوى غير سياسية على قوتها التغييرية.
الحراك الذي يجري اليوم في الجزائر، يؤكد في أكثر من معنى، فساد المفارقة التي يريد أن يفرضها النظام السلطوي، والقاضية بضبط النظام الجمهوري على منظومة الحكم الملكي. فقد التمس الحراك الشعبي، وليس الشَّعبوي، الأسلوب المسالم للتعبير عن رفضه لتأبيد الحكم في الرجل الواحد، كما تبنى الطريق السلمي، بدل العنف، من أجل تصحيح مسار السلطة في الجزائر، والسعي بها إلى إرساء معالم الدولة التامة التي لا تزول بزوال الرجال والجماعات. الحراك في ذاته، ينطوي في ماهيته على تجاوز الأمر الواقع المفروض من قبل النظام، كما أنه يسعى إلى تخطي مرحلة الربيع العربي، التي شهدت العنف والإرهاب، وانهيار دول الحكّام. فالحراك الذي تدور رحاه اليوم في الجزائر، يستمد قوته من حالة السلم والمسالمة، التي صارت «عقيدة» لا يمكن التنكر لها. وكل عقيدة يعتنقها شعب عرمرم تصبح قوة مادية قادرة فعلا على التغيير. وهكذا، فإن ما يجترحه الحراك الشعبي في هذه اللحظة التاريخية الرائعة، هو تأسيس سابقة سياسية جديدة، يجب أن تنتصر فيها إرادة الشعب على سلطة النظام، أي سلطة السلم على سلطة التزييف واحتكار العنف، وإعدام متواصل لصوت وحكم المعارضة. ولعلّ أعظم نتائج هذا الحراك أن يدخل التاريخ بمعناه النبيل، الذي يجب أن يؤسس لما بعده ليس على مستقبل الجزائر كدولة ومجتمع فقط، بل على الصعيد العربي والإفريقي، خاصة في البلدان التي أخفقت فيها السُّلط الحاكمة في تحقيق الدولة التامة، التي تتنزه عن الأشخاص والجماعات الضاغطة. دخول الحراك السلمي إلى التاريخ يعني من جملة ما يعني إبقاء إرادة الشعب يقظة عبر ممثليه الحقيقيين في الهيئات المنتخبة، على اعتبار أن التأسيس للسلطة السياسية جاء فعلا عبر انتصار الجماهير في حراكها السلمي، وليس كما كان يحدث في الأنظمة السلطوية التي كانت هي التي تقوم بفعل الانقلاب، أو تطلب الخروج إلى الشارع وترتب نتائجه وفق مصالحها الخاصة.
ما يجترحه الحراك الشعبي الجزائري هو تأسيس سابقة سياسية جديدة، يجب أن تنتصر فيها إرادة الشعب على سلطة النظام
الحراكُ يشْعِر الجماهير بقوة حضورها في الساحات والميادين العامة، أي المجالات التي تصنع الحدث العمومي ليتراكم، في نهاية المطاف، في تراث الدولة ومؤسساتها. فالحراك، على ما يجري اليوم في الجزائر، يجب أن يحاط بكل العناية اللازمة، لتأسيس واقعته الشرعية، ليس بفعل السلطة وإنما بفعل الشعب، وهو في الميدان والساحات والجادات العامة. إن الشعب لحظة العولمة والزمن الفائق، تحوّل إلى جماهير لها قوة الحضور في كافة مناطق العالم، وليس فقط في البلد المعني وحسب، ولا تعوزنا الشواهد لكي ندلل على ذلك: أن كثيرا من عواصم العالم ومدنه تشهد حشوداً من الجزائريين يعارضون «العهدة الخامسة» للرئيس/الكَفَن ، ويهتفون بصوت مسموع وواضح إلى العالم كله، أن الشعب يريد أن يزيل دولة الحزب الحاكم، وإحلال مكانها دولة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، في عهدها السلمي الجديد وليس الجمهورية التي تمخضت عن ثورة تحريرية مسلحة، حيث عادت فيها السلطة إلى الجيش واستمات فيها إلى حد الانهيار في عهد آخر رئيس «ثوري». الحقيقة، أن ما يُحسب لهذا الحراك، أنه يتم في مواجهة، الحق فيها واضح وبديهي، بين إرادة شعب وسلطة تريد أن تفرض رئيسا يجمع العالم كله، وبلا استثناء، على أنه ليس عاجزا عن الحكم فحسب، بل لا يليق بدولة تنتمي إلى المجتمع الدولي وعضو في هيئة الأمم المتحدة أن تفعل ذلك، فالإهانة تطال الجميع وليس الجزائر فقط. ومن هنا شرعية الحراك ومعقوليته، واضح وبيّن منذ البداية، كل شعوب العالم تستنكره وتندد به. فلا يمكن أن نجمع بين حكم العَرْش وحكم النَّعْش، لأن الحكم للأحياء فقط وليس للأموات. فالحراك الذي يستمد قوته من نواته الحيوية السلمية، يؤمن شرعيته التي تعني سلطة الشعب حقيقة وليس مجازا، لأنها استوفت شرطها الداخلي والخارجي معا، أي أنها حازت استفتاء في الجزائر وفي العالم أيضا. ولعلّنا لا نجانب الصواب عندما نُصَرّح بأن أعظم إنجاز لهذا الحراك هو الإطاحة ليس بسلطة الحكم فحسب، بل الحذر من أن يطرق أو ينتاب النظام أي خلل ذهني أو بنيوي، على ما حدث في الجزائر، حيث أدى مرض «الرئيس» إلى ضعضعة مؤسسات الدولة وأجهزتها، وعطّل النظام عن الاشتغال بكامل قواه. فأي بوادر وإرهاصات لمرض الرئيس وجنونه وطيشه، يجب أن يسارع إلى تنحيته بالأساليب التي يوفرها النظام الديمقراطي في آخر تطوراته التقنية. فقد حكم «الرئيس» طوال عقدين من الزمن، نصفه في العرش والنصف الآخر في النعش، وأراد بذلك أن يحدث بدعة سياسية في الحكم تشفع له الحكم في هذه الدنيا، حتى لو هو في النعش، بعد أن قايض الله في الأمر وشيَّد له «مسجده الأعظم».
*كاتب وأكاديمي جزائري
إنه المال الذي شعاره يضمأ كل لهث من أجل حثوه دون عناء والسلطة هي أسهل الطرق التي تؤدي إلى غَرف المال دون حساب من على كرسي الحكم الذي جعلوه. معبدا حكرا على كل ماكر مُخادع مراوغ اتخذ له الإستبداد كسلاح لكل منازع للحكم مُتخذا من الغرب درعا له مقابل استنزاف شتى المجالات.
كلمات من الواقع المعاش.. أستاذي فقط سؤال وهو صانع الحدث في هذا الحراك الشعبي، كيف نطالب برحيل النظام كاملا ودفعة واحدة..؟ ألا يمكن أن تنتقل السلطة سلميا بفكرة المرحلية، حيث لا يضيع حق الحراك و لا تعبث بعض الأطراف بما حققه..؟ هل يمكن الاتفاق على نخبة تعمل على تسيير المرحلة القادمة ..؟ بعد أن تعالت المقترحات من يمثل الحراك الشعبي ومطالبه..؟؟؟
المشكل ليس في الحاكم المستبد الذي استغل ظرف ضعف الدولة و فساد بعض المسؤولين و معانات الشعب لبسط سلطانه بدون مراقب ، باختراق الدستور و تحطيم المؤسسات الرقابية و اختزال الدولة في شخصه و عائلته ، بل المشكل في وجود من يقبل بهذه التصرفات الغير شرعية و الغير قانونية بل حتى دعمها و التسويق لها من أحزاب و مسؤولين مقابل انتفاع مادي لا أخلاقي منحط.
مشكور دكتور