سليماني ومغانم صيد الضواري

حجم الخط
21

ذات يوم كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد صنّف إيران في خانة “محور الشرّ”، على صعيد الخطاب والسياسة المعلنة؛ وفي الآن ذاته كان قاسم سليماني، أبرز ضباط “الحرس الثوري” الإيراني المسؤولين عن توسيع رقعة ولاية الفقيه في الشرق الأوسط، أبرز المنسّقين مع البنتاغون وأجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة في التفكيك المنهجي لنفوذ الطالبان في أفغانستان. تلك صيغة من التعاون الأمريكي ــ الإيراني كانت نادرة بالطبع، في عصور ما بعد انتصار الثورة الإسلامية؛ لكنها لم تكن الوحيدة، إذْ سوف تتكرر خلال رئاسة باراك أوباما حين سيقود سليماني التنسيق بين الميليشيات العراقية الشيعية وضباط “الحرس الثوري”، من جهة؛ والقوات الأمريكية التي استقدمتها الحكومة العراقية من جهة ثانية، في الحرب المشتركة ضدّ “داعش”.

هذه المفارقة، غير الغريبة البتة عن ثقافة التعايش بين الولايات المتحدة وخصومها، الافتراضيين والموسميين تحديداً، لم تكن السبب الأبرز وراء رضوخ بوش الابن وأوباما، ثمّ دونالد ترامب نفسه في الواقع، للحيثيات التي ساقها مستشارو مجلس الأمن القومي الأمريكي المتعاقبون، ضدّ وضع سليماني على لائحة صيد الطائرات المسيّرة. كان الناصحون على دراية كافية بما يمكن أن تسفر عنه عملية كهذه، بصرف النظر عن مغانمه؛ فالرجل تلطخت يداه بدماء أمريكية وافرة تستدعي الثأر والقصاص؛ لكنه، أيضاً، الرجل الذي كان مفيداً، ويمكن أن يفيد في قليل أو كثير عند أيّ منعطف مقبل. هذا إلى جانب مقدار الاستفزاز الذي ستنطوي عليه عملية إزاحته من المشهد، خاصة إذا تمت ضمن ملابسات استعراضية تظهّر شخصية التفوّق اليانكي السوبرماني وتجرح الوجدان الجَمْعي الإيراني خصوصاً، ثمّ الشيعي الكوني عموماً.

وهكذا فإنّ الاعتبارات التي حصّنت بوش الابن وأوباما من الوقوع تحت إغواء الذهاب إلى صيد الضواري، ظلت سارية المفعول عند ترامب نفسه أيضاً؛ خاصة وأنّ الطريدة، سليماني، لم يكن متوارياً في جحر على غرار اسامة بن لادن أو البغدادي، بل كان يسرح ويمرح في رابعة النهار. في ليل اليوم الثاني من السنة الجديدة 2020 بدت الإغراءات أشدّ جاذبية من أن تُقاوم، عند رئيس حشر ذاته في أكثر من معركة سياسية داخلية تستلزم قتال الضواري، بعقلية الضواري! الانتخابات الرئاسية على الأبواب، وخصوم الرئيس الديمقراطيون لا يوفرون جهداً لتضييق الخناق عليه عبر إجراءات عزل لا تقتل لكنها تصيب بالدوار، والتصعيد مع إيران بدأ من نقض الاتفاق النووي الأممي وانتقل إلى حرب اقتصادية قوامها عقوبات لا مثيل لها في التاريخ، وها أنه يعبر الحدود إلى العراق… تحت سمع وبصر، ثمّ تخطيط وإشراف، الجنرال الإيراني “المفيد” إياه: سليماني.

والسؤال المدرسي الذي يمكن أن يطرحه ذو البصيرة، فما بالك بأيّ محلل أو خبير أو مستشار في شؤون وشجون السياسة والأمن: هل التخلّص من الأفراد (إذْ هكذا بدت عملية اغتيال سليماني) يمكن أن يبدّل ستراتيجيات عداء كبرى متكاملة، تتفاقم كلّ يوم وتزداد اشتعالاً، بين واشنطن وطهران؟ السؤال المتفرع، والرديف، يتقدّم منطقياً هكذا: وهل الانتقام (إذْ لاح أنّ هذا هو الدافع الثاني، إذا لم يكن الأوّل) ستراتيجية سليمة، ولدى قوّة كونية عظمى على وجه التحديد؟ ولكن، استطراداً، متى كان هذا الطراز من الأسئلة يستولد دلالة كافية، فما بالك أن تكون رادعة، عند الدماغ الذي يحمله ترامب في رأسه؟

في كلّ حال، كان سليماني مجرم حرب، بامتياز، في يقين الملايين من أبناء سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفغانستان وأماكن أخرى كثيرة، ممّن أنزلت بهم خياراته الفاشية كوارث مأساوية دامية وبعيدة العواقب؛ وكان عند ملايين آخرين، في المقابل، رأس حربة كبرى لبسط نفوذ ولاية الفقيه، وشحن المقاتل في ميليشيات التشيّع بالغلوّ الأقصى والأشدّ تعطشاً إلى إراقة الدماء على مذبح التعصّب المذهبي. وغيابه لن يحول دون صعود خليفة سواه، أشدّ بطشاً وشراسة وفاشية، إذْ أنّ حراب الوالي الفقيه لا تُعدّ ولا تُحصى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الهاشمي:

    في اعتقادي ان ما حدث ويحدث بين ايران وأمريكا بالضبط كما يحدث بين شخصين مرتبطين ، يعني زواج كاثوليكي، من عتاب وشجار وغنج ودلال ومصالحة بعد ذلك ، مرارا وتكرارا ، ومن يدفع ثمن ذلك أقارب الطرفين والجيران الخ الخ الخ، ان ادعاء أمريكا ان ايران من محور الشر خدعة فاشلة ، والاحداث الاخيرة ليست شرطا أنهما أصبحا عدوين ان السياسة والمصالح اكبر من تصفية أشخاص ،ربما انتهت صلاحيتهم ، لتكون شماعة للجر الى أحداث اكثر أهمية للطرفين،

  2. يقول .Dinars. #TUN.:

    يبدو أن المجرم السليماني كان يريد أن يستأثر لنفسه بالعراق ثم الإستيلاء على إيران وسوريا ليتجه بعدها نحو الجنوب حيث نفط الجزيرة.
    الفرس وعمهم سام تنتظرهما قوة ناشئة سوف تحسم وجودها بعد معركة ليبيا المرتقبة بعدها سوف تقع الملحمة الكبرى بين مكون قوي ألا وهي تركيا وما جمعت حولها في مواجهة إيران وأمريكا والغلبة سوف تكون لتركيا وأتباعها لتعيد على إثرها سوريا إلى أهلها التي ستعمر أحسن مما كانت عليه من قبل بل وستكون دمشق مركز العالم من جديد.

  3. يقول أحمد طراونة - لندن:

    “شحن المقاتل في ميليشيات التشيّع بالغلوّ الأقصى والأشدّ تعطشاً إلى إراقة الدماء على مذبح التعصّب المذهبي. وغيابه لن يحول دون صعود خليفة سواه، أشدّ بطشاً وشراسة وفاشية، إذْ أنّ حراب الوالي الفقيه لا تُعدّ ولا تُحصى”

    توفر إراده سياسية عربية واحدة مستقلة ولو جزئياً عن دوائر الفعل الأمريكية كفيل بكل حراب الولي الفقية…. ألمفسد ألاعلى..
    لو نجت ديمقراطية مصر من الاغتيال لكانت تجسيداً لتلك الإرادة.

  4. يقول آصال أبسال:

    توصلت إلى يقين كامل، أو يكاد، من أن هناك خطة خفية بين أمريكا وإيران.. وكل ما يجري من طرف الأخيرة بالتوعد بالانتقام إلخ لا يعدو أن يكون مسرحيات.. !! أهداف هذه الخطة القريبة والبعيد هي تعضيد التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة بنحو أو بآخر.. !! ترامب، من طرفه، وبشعبويته الخاصة، سيعتمد على “تعاطف” أولئك الملايين من شعوب سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفغانستان وغيرها، ممّن أنزلت بهم خيارات المجرم سليماني الفاشية كوارث مأساوية دامية وبعيدة العواقب.. !!

    1. يقول آصال أبسال:

      وما يؤكد كلامي هنا هو ما أفادت به صحيفة ديلي ميل البريطانية وغيرها هذا اليوم بأن بريطانيا عززت أمنها في الشرق الأوسط وطلبت من قواتها في المنطقة الاستعداد لهجمات انتقامية ردا على مقتل قاسم سليماني.. وأنه إلى جانب تجهيز سفينتين حربيتين لمرافقة ناقلات النفط التي تحمل علم بريطانيا في الخليج، أوعزت بريطانيا لأربعمائة جندي بريطاني/أمريكي بأن يتحولوا من مهامهم الحالية لصالح “حماية” القوات والدبلوماسيين والأصول البريطانية/الأمريكية، وسط مخاوف من اندلاع “حرب مفاجئة” بين إيران وأمريكا.

  5. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    مقال هائل ، لكنني أشعر انه انقطع فجأة…
    و كأنه بحاجة إلى أجزاء اخرى من أجل فهم الصورة الكاملة.
    .
    ارجو ذلك.

  6. يقول تيسير خرما:

    عبر آلاف السنين لم يمر عصر بدون أن تغتنم تركيا أو إيران فرصة لغزو الشرق الأوسط ونهب ثرواته وقتل رجاله وسبي نسائه وتجنيد أطفاله حتى قبل الإسلام عندما كان العرب مزيج من اليهود وأتباع ملة إبراهيم ووثنيين وحتى عندما بات معظم العرب مسيحيين قبل بعثة سيدنا محمد (ص) وحتى بعد الإسلام ليومنا هذا، وقد استغلت تركيا وإيران ضعف مؤقت للعالم الحر بعهد إدارات أمريكا السابقة فانطلق ربيع تركي إيراني بالوطن العربي لكنه انتهى بانطلاق إدارة أمريكا الحالية واستفاقة العالم الحر وعودته للوقوف كلياً بجانب العرب.

  7. يقول ابو علاء:

    ولکن لو قارنا سلیمانی مع المنبطحین للصهیونیه العالمین والدول العربیه و بعض البقر منهم الذی تضرب امریکا من قواعدها فی بلدانهم دون اذنهم سنری سلیمانی المنجی البطل الذی اذل اذناب الشیطان

  8. يقول Ali:

    تحية خالصة للأستاذ صبحي حديدي. مقال بسيط لكن كم جيد و جدي بمكانة درس في العلاقات بين المصالح الأمريكية و النظام الملالي.

  9. يقول تاوناتي:

    الحراك الشعبي العراقي هو الذي قتل سليماني.فهذا الحراك بمطالبته بطرد إيران من العراق،وفشل المليشيات في اخماده رغم قتلهم ل600 عراقي وجرح الالاف،دفع سليماني إلى امر عملاءه بالتصعيد ضد أمريكا لجرها إلى رد يستغله سليماني ليخلط الأوراق ويخلق فوضى تمكنه من نسف ثورة الشعب العراقي ضد حكام طهران مليشياتها..وكاد ينجح بعد الرد الأمريكي العنيف على مقتل متعاقد امريكي، لكن سليماني ارتكب خطأ قاتلا بتحريض مليشياته على الهجوم على السفارة الأمريكية.الامر الذي أسقط كل أوراق ” اصدقاءه” داخل البنتاغون والCIA ، ولم يعد ممكنا حمايته من غضب ترمب.

  10. يقول بلحرمة محمد:

    ساختلف معك كليا يا سيد صبحي حديدي فالمرحوم قاسم سليماني ليس كما اشرت اليه بانه مجرم حرب فهدا الرجل لم يقد جيشا لاحتلال فلسطين او غزو العراق او تدمير سوريا او شن الحرب على ليبيا او تخريب اليمن واسقاط الصواريخ على رؤوس اهلها فمجرمو الحروب واضحون ومعلومون من القاصي والداني فهم يقبعون في واشنطن وتل ابيب وبعض العواصم الاوربية مع الاشارة الى خزائن النفط التي توفر لهم السيولة الهائلة لتنفيد مخططاتهم ومشاريعهم فيبدو ان كلامك يا سيدي يتناسب مع تصريحات ترامب لتبرير جريمته في حق سليماني والمهندس وغيرهم ولكن سيتغير الزمن فدوام الاحوال من المحال.

    1. يقول آصال أبسال:

      بلحرمة.. صبحي حديدي قال إن سليماني مجرم حرب، بامتياز، في يقين الملايين من أبناء سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفغانستان وغيرها، وأنه عند ملايين آخرين، في المقابل، رأس حربة كبرى لبسط نفوذ ولاية الفقيه، وشحن المقاتل في ميليشيات التشيّع بالغلوّ الأقصى والأشدّ تعطشاً إلى إراقة الدماء على مذبح التعصّب المذهبي..
      أنت إذن يا بلحرمة واحد من هؤلاء الملايين الآخرين، ولا يحق لك بأن تختلف مع صبحي حديدي كليا كما تزعم، أليس كذلك.. ؟؟

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية