كما كان متوقعا من قبل المراقبين والمتتبعين للشأن السياسي العربي والدولي، أقدم الجيش المصري على الانقلاب على أول رئيس انتخبه الشعب ديمقراطيا، عبر انتخابات نزيهة وذات مصداقية في عرف الهيئات والمؤسسات الأجنبية المحايدة، بدعوى أنه تدخل لحماية الشرعية الشعبية وترجمة لصوت الجماهير التي ملأت الميادين، مطالبة بإسقاط النظام. والواقع أن المؤسسة العسكرية تخلت عن الحياد المطلوب في الصراعات المجتمعية، وانحازت كل الانحياز إلى الدولة العميقة المتمثلة تحديدا في، رموز بقايا نظام حسني مبارك سيىء الذكر، ولوبيات الفساد والمسيطرين على اقتصاديات البلد.. فضلا عن بعض الأحزاب السياسية الميكروسكوبية فاقدة الصلاحية. ولئن تمكنت حركة ‘تمرد’ الشبابية من استقطاب جموع غفيرة من المواطنين في أكثر من موقع، فإن ذلك يعود بالدرجة الأولي إلى الإحساس بالإحباط والشعور بان الأفق لا يحمل اي علامة لتغيير إيجابي، وان الاقتصاد في تدهور مريع، وان الحياة المعيشية أضحت لا تطاق.. بيد ان تراجع مستوى العيش وانتشار الجريمة بسرعة رقمية وبطء اتخاذ الإجراءات الدستورية والقانونية والعملية للإجابة على اتنظارات الراهن المصري.. كل ذلك لا يعود إلى مؤسسة الرئاسة وحدها، انها تتحمل قسطا وافرا من مسؤولية فشل إدارة شؤون البلاد، بقدر ما يعود وبدرجة أكبر إلى فلول نظام مبارك المخلوع وزبانيته الذين يتحملون المسؤولية المعنوية الكبرى في عرقلة عملية الانتقال الديمقراطي، فقبل أن يتقلد السيد محمد مرسي مقاليد الحكم بعد أول انتخابات وطنية ديمقراطية، حكمت عليه المعارضة التلفزيونية بالفشل، أما الإعلام المصري العجيب، فإنه عقد العزم على قصف التجربة الجديدة وتشويه الحقائق، وفبركة التهم لاستدراج الإخوان لاقتراف سلوك غير سليم.. كل ذلك مع تواطئ الجيش المصري ‘العظيم’. وبمجرد أن أنهى الرئيس محمد مرسي خطابه الأخير الذي أكد فيه على استعداده الدائم والمتواصل للحوار الوطني الشامل داخل نطاق الشرعية الدستورية والقانونية والانتخابية، أقدم الجيش على ضرب قيم الديمقراطية المتعارف عليها دوليا عرض الحائط، وتم القبض على رمز الدولة بطريقة مهينة ووضع في الأقامة الجبرية، لتتوالى الاعتقالات وقمع الأصوات الحرة، عبر احتجاز الصحفيين، وإيقاف قنوات بأكملها لإسكات الرأي الآخر، وتطويق أنصار الرئيس مرسي والاعتداء عليهم بالرصاص الحي، وتعطيل العمل بالدستور وتكليف رئيس المحكمة الدستورية بإدارة شؤون البلاد.. وفي الآن عينه شاهد العالم وبالصوت والصورة عالية الجودة الملايين من المواطنين يرقصون فرحا وسعادة بطي صفحة ديمقراطية فتية، وعودة حكم العسكر! لقد قدم المصريون مرة أخرى للعالم درسا ‘بالغ الأهمية’، حول الطبيعة الاندفاعية والوجدانية للإنسان العربي، وغياب الوعي والمقاربة العقلانية في التعاطي مع أبجديات الفعل السياسي والحراك الاجتماعي بمفهومه العام. ندرك الأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبها مرسي، بسبب قلة التجربة والحماس الزائد على اللزوم في حل معضلات فرعونة، عمرها أزيد من خمسين سنة، بعيدا عن إشراك كل الفرقاء بغض النظر عن انتماءاتهم الأيديولوجية، والطبقية والثقافية.. وطالما أكدنا على أولوية الإئتلاف الوطني أثناء مرحلة الانتقال الديمقراطي. إن فوز الإسلاميين في الاستحقاقات البرلمانية والرئاسية يستدعي تكوين حكومة وطنية موسعة تضم مختلف الأطراف السياسية حتى التي لم تنل رضي المواطنين، لأننا نؤسس لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة لأول مرة في تاريخ الأمة العربية. و بناء على ما سبق يمكن القول من السهل القيام بانقلاب عسكري والإطاحة برئيس الدولة، ولكن من الصعب جدا بناء نسق سياسي محكم، يستند إلى أسس الدولة الديمقراطية الحديثة، أهمها صياغة دستور متوافق عليه من قبل كل الحساسيات والفعاليات المجتمعية، والتداول السلمي على السلطة، في ظل انتخابات دورية حرة ونزيهة، والفصل الحقيقي بين السلط، وإقامة إعلام ديمقراطي تعددي يعكس كل التوجهات الفاعلة داخل المجتمع دون إقصاء واستثناء، من أجل المساهمة في حل الإشكالات العالقة، والتعبير الحر عن المواقف السياسية، وقبل ذلك وبعده، لابد من توفير السبل الكفيلة بإحداث الثورة التي انتظرناها طويلا، إنها ثورة على العقل العربي ذاته! (فهل يمكن أن نبني مجتمعا ديمقراطيا بمسلكيات غير ديمقراطية !؟) رحم الله منظر العقلانية العربية : محمد عابد الجابري. الصادق بنعلال المغرب