في سوريا وحدها أمكن تحطيم النظام بالكامل الذي قامت بوجهه ثورة 2011. لم يكن بالمتسع تحقيق ذلك لا في مصر ولا في تونس ولا في ليبيا ولا في اليمن ولا في البحرين.
في مصر ساهم العسكر في التعجيل بإزاحة حسني مبارك، وهم لم يعذروا له مسعى توريث الرئاسة في صلبه، ومن خارج سلكهم، أسوة بما نجح بتأمين السبيل إليه حافظ الأسد… هذا لأن عصبة الضباط الأسديين كان لديها مصلحة في حفظ الطغيان ضمن الشبكة اللامؤسسية الواحدة، بخلاف الجنرالات المصريين الأكثر انهماماً بحفظ السلطوية ضمن المؤسسة الواحدة.
وعليه، أدار العسكر في مصر المرحلة الانتقالية بعد تنحي مبارك، بالتنسيق مع «شباب الثورة» و«الأخوان» قبل أن تمضي المرحلة الانتقالية إلى جولات انتخابية تختتم بالنتيجة بانقلاب عسكري مدعوم شعبياً ضد أول رئيس عربي منتخب بالاقتراع العام المباشر في انتخابات تعددية. فكان قمع الإخوان، وتفريق «شباب الثورة».
في تونس، حصل الالتباس منذ البدء. هل هي ثورة على زين العابدين لوحده، أو على كامل النهج السلطوي الذي أسس له المحامي الحبيب بورقيبة. فظهر أن للبورقيبية قدرة على التجدد، بشكلين مختلفين تماماً، علماني – رحب في حالة الباجي قايد السبسي، ومحافظ – شعبوي في حالة قيس سعيد. فهي العمق الوطيد للسستام الذي ما استطاعت الثورة تجاوزه.
في ليبيا ما كان للثورة أن تحسم الحرب مع معمر القذافي لولا التدخل الأطلسي المباشر، لكن القذافية ظهر بعد ذلك أنها لم تزل حية ترزق بنموذجين مختلفين: سيف الإسلام، وخليفة حفتر.
في اليمن، أطاحت الثورة بعلي عبد الله صالح. فعاد من بعد مجافاة الرياض له، من بوابة التحالف مع الحوثيين، ثم تأخر في التمرد عليهم، فقضوا عليه، ولم تزل اليمن مقسمة، إنما ورث الحوثيون أشلاء نظامها، وورث أخصامهم القسم المتبقي من التركة. لا يمكن القول إنه حدثت لحظة «قطيعة» جذرية. وإنما يحدث هرج ومرج لا يعرف من نهاية.
أما في الجزائر، فانتفاضة الشعب على عبد العزيز بوتفليقة، وبدلا من تفكيك جبهة التحرير فقد أدت حتى الآن لترسيخ حكمها.
وفي السودان، كل الولع بتجمع المهنيين وحيوية المجتمع المدني لم يحل في المقابل دون وراثة ضباط عمر البشير له بعد خلعه، وانقسامهم بين فريقين لدودين متناحرين.
فقط في سوريا، حدث ما يعادل «القطيعة». انهار النظام بعناوينه الاستئثارية الطائفية، والعسكرية – المخابراتية، والبعثية. انهار بعد سنوات على تمكن الروس من الحجر على القوى المتمردة على هذا النظام وحصرها في ريف إدلب، هذا في حين قادت السويداء الحراك المنتفض على النظام في السنوات الماضية. ربما تكون سوريا هي أول حالة، غير كمبوديا من بعد بول بوت، الذي لن يشعر فيها أي جمع بالنوستالجيا لمرحلة بشار الأسد.
ما قام به بشار حافظ الأسد وحلفاؤه ضد المجتمع السوري ككل لم يقم به أي من الطغاة العرب الآخرين. تفوق بشار على الثنائي المشكل من والده ومن صدام حسين. تلاقت مصالحه في النهاية مع كافة عناوين الثورة المضادة للربيع العربي، وعلى هذا الأساس أعيد للجامعة العربية، كأن شيئاً لم يكن، ويبدو هنا أن زيادة المتقاطعين على إبقائه، ما بين الروس والإيرانيين «الممانعين» والأنظمة العربية «الأنتي ممانعة» ساهمت في القضاء عليه في آخر الأمر، فكانت النتيجة شبه التلقائية للحرب الأخيرة على «حزب الله» وتراجع النفوذ الإيراني في سوريا تهاويه الكاريكاتيري كنظام.
فقط في سوريا، حدث ما يعادل «القطيعة». انهار النظام بعناوينه الاستئثارية الطائفية، والعسكرية – المخابراتية، والبعثية
القطيعة الجذرية في الحالة السورية معطى أساسي، ليس بالمستطاع القفز عليه، وليس بالإمكان الاكتفاء به أيضاً. يأتي المتغير السوري بعد سنوات على تخلّع مسارات الانتقال نحو الديمقراطية في البلدان العربية التي أصابها الربيع، وعودة الروح للنظم السلطوية الأمنية في كل مكان، وللاحتراب الأهلي في ليبيا والسودان. يأتي هذا المتغير أيضاً بظروف مرتبطة بكل المسار الذي أعقب هجمات حماس في 7 أكتوبر والحرب التدميرية الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة والتي صبت رعبها على «حزب الله» وشيعة لبنان على امتداد الشهرين الماضيين. أما انهيار النظام البعثي فلم تفهمه إسرائيل إلا إجازة لها بتدمير الترسانة العسكرية للجيش السوري والتوغل أكثر فأكثر في الأراضي السورية. لا يمكن فصل المتغير السوري عن كل هذا السياق الحربي الكارثي الذي يكشف مرة جديدة حجم الانفصال بين الشعارات التي يخاض على أساسها الصراع مع إسرائيل وبين مجرى الأمور على أرض الواقع.
لأجل ذلك، القطيعة الجذرية التي يحققها الاندثار الكامل لنظام الطغيان الأسدي الفئوي الدموي تتعايش مع واقع كارثي إقليمي أتاح سقوط بشار الأسد في بضعة أيام، وسقوط حقبة كاملة من تاريخ المنطقة معه، لكنه لا يتيح بالقدر نفسه تأمين الطريق الانتقالي نحو نظام للحرية، خاصة إذا ما جرى الاستسهال، أطناباً، في الحديث عن «استثناء سوري» يعيد تركيب السردية المتداعية مع ضمور «الاستثناء التونسي».
منذ لحظة انفصالها عن دولة الوحدة مع مصر عام 1961 تعيش سوريا مفارقات «الحكم الإثنوقراطي» حكم قوم على بقية القوم. هذا في حين كان نظامها قبل الدخول في تجربة الوحدة يتآكل بفعل التباين الإقليمي بين الشام وحلب. عقب الانفصال، قاد العسكريون المحافظون «السنة» البلاد، ثم جاء انقلاب عسكري من قبل حزب البعث، وسريعاً تصدّر العسكرويون الأقلويون المشهد، وقد ظهر أن الأيديولوجية القومية العربية هي الأداة الأفضل لتغطية الحكم الإثنوقراطي. من وقتها، والكيان السوري يبدو وكأنه لا يستطيع أن يشكل نظامه إلا من خلال سيطرة «رهط من قوم على بقية القوم». منذ عام 1966 دخلت سوريا مرحلة الإثنوقراطية الأقلوية، وبعد ستة عقود نراها الآن تدخل مرحلة الإثنوقراطية الأكثروية.
الإثنوقراطية ليست محصورة في سوريا، بل لها أشكال متعددة في أنحاء العالم. فقد تكون الإثنوقراطية متعايشة مع آليات ومؤسسات ديمقراطية تمثيلية، أو قد تأتي في شكل سلطوي فظ، وقد يغلب عليها نشدان سلم أهلي يشذبها ويكرّسها في آن، أو بخلاف ذلك، كي تجد نفسها غير قادرة ولا حتى راغبة في إنهاء النزاعات المحلية.
المتغير السوري جذري من جهة أن ثمة نظاما لم يفضل منه شيء، لكن هذا المتغير يبدل القطب المتغلب، مع إبقاء السمة الإثنوقراطية للعبة ككل. في الأمر ما يبدو أنه غير قابل للرجعة إلى الخلف، فسوريا لن تحكم بعد اليوم إلا من قبل نخبة «عربية سنية» في المقام الأول. وفي الأمر أيضاً ما هو غير ميسر التقدم للأمام، فهل ثمة مجال لمأسسة الإثنوقراطية الجديدة وبالتالي تشذيبها وجعلها متساكنة مع موجبات إحياء الدولة وطي صفحات الاحتراب الأهلي؟ هذا من دون إغفال أن هناك نموذجا آخر. في أفغانستان، تمكنت حركة طالبان من فرض الإثنوقراطية الباشتونية، ولم تجد أي مقاومة من الطاجيك أو الأوزبك بعد الانسحاب الأمريكي. الأمور يفترض أنها أصعب في سوريا. في النهاية، هناك قطيعة جذرية مع نظام طغيان دموي يجعل أي محاولة لفرض نزعة سلطوية جديدة مصدراً للضعف والتفكك.
أيا يكن من شيء، يمكن أن تتوقع لمن ينادي بالديموقراطية التمثيلية وحقوق الإنسان أن لا يلتزم بها، لكن لا يمكن أن تتوقع لمن لا ينادي بهاتين المقولتين، أن يحققهما ضمنياً.
يبقى أن الدولة ـ ولا بأس بالخروج من «الفصل الميتافيزيقو ـ دستوري» بين مفهومي الدولة والنظام أحياناً، كانت، حتى دخول فصائل المعارضة إلى دمشق، دولة قائمة على إرهاب العدد الأكبر من السكان، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل سيعاد تأسيسها كدولة بشكل يرهب العدد الأقل، أو بشكل ممتنع منهجياً عن استقاء حيثيته من إرهاب أي شريحة من السكان؟
قامت دولة البعث الفئوي على تخويف السكان من البقاء الأبدي للنظام، ومن «كابوس» انهياره كنظام، على تخويفهم من بعضهم البعض أيضاً.
على أي خوف يمكن أن تقوم الدولة الآن؟ هل هناك من دولة أساسا تقوم على اللا ـ خوف؟ أم على تنظيم الخوف؟ تقطيعه، تقسيطه، تداوله؟
عدم إقامتها على الخوف من «رجعة البعثيين» فيه مصلحة أكيدة لجميع السوريين، وهذا لسبب بسيط: لم يبق من الأسدية شيء قابل لأن يرجع. كلما كان بالمقدور عدم رؤيتها مجدداً في المنامات كلما كانت الرؤية أكثر تروياً، ورحمة، وأوضح.
من الضرورة في الوقت نفسه، عدم إقامتها على وهم البحث عن «اللاخوف المطلق» أيضاً. قد يكون بالإمكان تنحية الكثير من تصورات توماس هوبز حول العقد الاجتماعي والدواعي اليه، إلا أنه لا يمكن تنحية دور الخوف، والخوف من الخوف، في المسارعة في اتجاه هذا العقد، وهو ما احتل مكانة أساسية في فكر هوبز.
كاتب من لبنان