أي ضرب من الالتزام هذا الذي دفع كلا من ميشال بانسون وزوجته مونيك بانسون شارلوت، إلى أن يقضيا سحابة عمرهما في تأليف الكتاب تلو الكتاب عن البورجوازية؟ وأي صنف من الاستعداد النفسي والمعرفي خول لهما تدشين ما أطلقا عليه اسم «سوسيولوجيا البورجوازية»؟
الخلاصة التي ينتهي إليها قارئ كتاب «سوسيولوجيا البورجوازية» أن عنفا ذا أوجه متعددة يُجابَهُ به كل من يسعى إلى الاقتراب من «الطبقة» عنفا يحتمي بمسافة لا يَرى فيها البورجوازي نتاجا للثقافة بقدر ما يعدها طبيعةً. الأمر، في هذا السياق، أشبه ببنية الطوائف السرية: شيفراتٌ لا يُسمَح للدخلاء بمعرفة ما تشير إليه، استحواذٌ رمزي على العلامات. وفي كل الأحوال، فقد ضُرب بين الدخلاء وبين الطبقة حجاب سميك. الثنائي ميشيل ومونيك بانسون تقلدا إدارة البحث في المركز الوطني للأبحاث الاجتماعية (CNRS، وفي مختبر الثقافة والمجتمعات الحضرية من داخل معهد البحث حول المجتمعات المعاصرة في باريس. وبالنظر إلى ما قدمه هذا الثنائي من اجتهادات في الحقل الذي اجترحاه، وما سلكاه من طرق وعرة في تفكيك البداهات التي تنتشر حول نمط حياة البورجوازية، اجتماعيا واقتصاديا ورمزيا، وما حركهما من شغف الاستقصاء والمغامرة في أعمالهما، يغدو من الإنصاف وضع أبحاثهما ضمن «السوسيولوجيا المقاوِمة»؛ نظيرَ ما شقته أعمال بورديو ونربرت إلياس ورولان بارت (إذ يمكن النظر إلى سيميولوجياه بما هي مقاومة لما تحاول البورجوازية تثبيته في تمثلاتنا للسلطة والتاريخ) مقاومةٌ يمثلها مغربيا وعربيا بول باسكون وعبد الله حمودي، نقول نظيرَ هذه الأعمال مع حفظ التفرد المميز لكل مشروع.
صدر كتاب «سوسيولوجيا البورجوزاية» سنة 2000، عن دار لاديكوفيرت، تتويجا لمسار بحثي انطلق منذ ثمانينايت القرن الماضي. على أن ترتيب الكتاب ضمن مشروع هذه «السوسيولوجيا المقاومة» لا يمنع من النظر إليه باعتباره تكثيفا للأسئلة التي وجَّهت أبحاثَهما، ومن ثمة مدخلا لقراءتهما. تتردد في الكتاب أصداءُ رغبة محتدمة في كشف البنية السرية للبورجوازية. إذ يشير الباحثان إلى الألغاز والأسرار التي تحيط بالطبقة، ويدفعان بهذه الرغبة في الاستقصاء إلى حدودها القصوى؛ بتعرية ما به تتشكل الطبقة، وما يؤلف بين أفرادها من علاقات تمنح هذا التوليف «هويةً» متماسكة. ومع أن الطبقة تؤلف بين رجال الأعمال والبنكيين وأصحاب المناجم وكبار الفلاحين وأعضاء المعاهد والجنرالات، فإن تماسكا ما يوحد هذا التباين في النشاطات. صحيح أن الحديث عن هوية ملتئمة لمجموعة مركبة يصير أقرب إلى المستحيل، إن نُظر إليه من زاوية الإبدالات التي شهدها مفهوم الهوية في الفكر المعاصر، غير أن ما يوحد أفراد الطبقة مرتبط في الأساس بوحدة الغاية، نعني بذلك تحالف الرأسمال من أجل الاستمرار والازدهار. يشتكي الثنائي بانسون من ندرة الأبحاث في حقل سوسيولوجيا البورجوازية، على الرغم من أهميته في فهم المجتمع الفرنسي على وجه التحديد، هذه الشكوى من الدرجة الثانية تعلوها شكوى من الدرجة الأولى، حيث يشير الكتاب إلى سُمْكِ السر واللغز المحيطين بطبقة تمارس شعائر الكتمان والغموض تحصينا لوجودها الاجتماعي والرمزي. ولئن اتصفت السوسيولوجيا بالفضول و»الشغب» و»الإزعاج» عبر أعمال من التزموا بجعلها أداة لمقاومة البداهة والبلاهة والوثوقية، فإنها حسب هذا الثنائي تباشر صمتا مخلاًّ إزاء السرية التي تغلف البورجوازية. وأمام هذا الصمت المخل يحتج الثنائي بانسون، إذ هو صمت يفضي إلى نقص في إنتاج المعرفة العالمة لما يشكل «الطبقة» وبهذا الصمت تطمئن البورجوازية وتعيد إنتاج نفسها دون إزعاج.
هذا الفحص لجينيالوجيا البورجوازية وصلتها بالإرث الأرستقراطي، لا يمر في الكتاب دون إعادة النظر في علاقتها بالدِّين، هي علاقة مؤسسة على استغلالٍ يبوئ البورجوازية منزلة الخادم الوفي لقيم المحبة والإحسان والتضحية، ويهبها سلطةَ من يبشر بالخلاص.
يصور الكتابُ الجهدَ الهرقلي الذي يتكلفه الباحث في البنية السرية للبورجوازية، بدءا من صعوبة ضبط سلوكيات التعامل مع هذه الفئة. الباحث الذي يقتحم هذه البنية يجد نفسه أمام ضرورة إتقان فن الحوار وأضاع الجسد وكل الإتيكيت المميز للانتماء البورجوازي، ومنذ اللحظة الأولى تنقلب الأدوار: يصير الملاحظ ملاحظاً، وينخرط في لعبة سيميائية تضطره إلى الاغتراب عن تلقائيته. ولن يكون من السهل في مثل هذا الوضع أن يستخلص الباحث الإشارات التي تسمح له بالتطلع إلى ما وراء الأكمة. لن ينتزع ولو إشارة واحدة عن الثروة المتراكمة، ولن يفيده في شيء الوصول إلى سجلات المصالح الإدارية، مما يضاعف آلام الاستقصاء المواجَه بضرب من العنف الرمزي. تبعا لهيمنة الأيديولوجيا الليبرالية في تسعينيات القرن الماضي، تشكلت فكرة نهاية الطبقة الاجتماعية، حيث سعت هذه الأيديولوجيا في ظل سيادة خطاب النهايات إلى إحلال السوق الضامنة للتوازن الاقتصادي محل الصراع الطبقي، انطلاقا من تثمين المنافسة والعمل الفردي، نموذج كهذا يقوي إيديولوجيا الجدارة «Méritocratique» ويكرس أنظمة الرعاية والمنفعة والامتيازات المكتسبة. والنتيجة من هذا المنظور أن المجتمع الفرنسي في نهاية القرن العشرين هو في الأساس مجتمع اللامساواة، حسب الثنائي بانسون. هذا التحليل الذي يتنبه إلى المسارب التي تحفرها البورجوازية كي تظل في موقع الهيمنة، استدعى لدى الثنائي حفرا مضادا عن طبيعة العلاقة التي تجمع هذه الطبقة بالإرث الأرستقراطي، فضدا من الاستيهامات التي رأت في البورجوازية ثورةً على الإقطاع، يشير الباحثان إلى نوع من هُيامِ البورجوازية بنمط حياة النبلاء، ولا أدل على ذلك من المصاهرات التي وطدت العلاقة بين أفراد البورجوازية أنفسهم، ومن الأنساب التي جمعتهم بالنبلاء، ما يوسع شبكة التحالفات ويقوي سلطة البورجوازي، الذي يذكرنا بالسيد جوردان في مسرحية موليير «البورجوازي النبيل». البورجوازية إذن وريثة «أسرار» الأرستقراطية، إنها أرستقراطية تمدّنت، ولا غرو في أن فهمها للسلطة والتفاوت لم يتغير بتغير مجال الهيمنة وطبيعةِ المهيمَن عليه.
هذا الفحص لجينيالوجيا البورجوازية وصلتها بالإرث الأرستقراطي، لا يمر في الكتاب دون إعادة النظر في علاقتها بالدِّين، هي علاقة مؤسسة على استغلالٍ يبوئ البورجوازية منزلة الخادم الوفي لقيم المحبة والإحسان والتضحية، ويهبها سلطةَ من يبشر بالخلاص. ما أبعدنا عن تلك البورجوازية التي تصورها بعض الأدبيات التاريخية في هيئة الفكرة الثورية العاصفة بقيم الكنيسة وبسلطة رجال الدين. لا يتعلق الأمر هنا بنفوذ يتكئ على سند ديني وحسب، بل يطال أيضا ما تحقق للبورجوازية من نفوذ «كوني» عابر للحدود السياسية والثقافية. ولئن قيض للبورجوازية أن تُشيع في الناس تمثلها للفردانية بما هي عقيدة العصر الحديث، فإن ظَفر البورجوازية بالهيمنة آت من قوة النسيج الذي ينتظمها كمجموعة. نكون بهذا المعنى أمام فردانية في العلن وعمل منظم على تقوية نسيج الطبقة في الخفاء. نقرأ في الكتاب: «للبورجوازية وجود دائم، هي الوفية لموقعها، والمهيمنة. طبقةٌ في ذاتها ولذاتها، إنها الطبقة الوحيدة التي تملك صفة الطبقة الحقيقية» ونقرأ: «علة وجود البورجوازية هي علاقتها بغيرها من الطبقات. هذه العلاقة أساسها اقتصادي، وهذا الأساس هو ما يحدد مواقع مختلف الطبقات. باستغلالها للطبقات الأخرى تحوز البورجوازية لنفسها الهيمنة» ولا نعدم في الاقتباسين تردد طيف ماركس.
«البورجوازية هي الطبقة!» هو ذا المنسي الذي يضيؤه الكتاب. هي «الطبقة» لأنها تحوز وعيا بذاتها، توحدها عقيدةٌ تنبني على تحصين ما يحجبها عن باقي فئات المجتمع، وهي «الطبقة» أيضا لأنها استطاعت أن تنحت مجسماتٍ لمفاهيم السعادة والنجاح وقيم المساواة والكرامة، تتحكم في تمثلاتنا لهذه المفاهيم والقيم، فيتصادم في رؤيتنا للعالم الواقعُ والاستيهام. ولعل العلوم الاجتماعية مدعوة، كي تنسجم مع جدواها في عالم اليوم، إلى التوجه رأسا إلى تلك المجسمات بغرض تفكيكها وفضح ما تنطوي عليه من خداع «كوني».