سياسات الأكثرية: هل تنشئ معاداة المثلية أحلافاً مقدّسة؟

أثارت تصريحات حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني، حول المثليين، كثيراً من ردود الفعل في لبنان، البلد الذي يضمّ أكبر تجمّعات علنية للمثليين في العالم العربي. ليس المستغرب أن يكون موقف زعيم حزب ديني/طائفي، رفع منذ تأسيسه شعار “الثورة الإسلامية في لبنان”، معادياً للمثلية، ولكن المثير للانتباه أن قائد ميليشيا مسلّحة، ذات امتدادات دولية، تورّطت في نزاعات إقليمية، من سوريا وحتى اليمن، ولديها ما يكفيها من المشاكل والتحديات على مختلف الجبهات، يُفرّغ نفسه للإفتاء، بمواجهة فئة من المواطنين في بلده، و”دون أسقف”. إلا أن نصر الله لا يتحدث بوصفه زعيم طائفة فحسب، بل يحاول إنشاء ائتلاف عريض بين مختلف طوائف لبنان، مهما بلغت خلافاته السياسية مع بعض زعمائها، ضد المثليين. هكذا يلمّح بفخر ورضا إلى ما فعله “جنود الرب”، وهم ميليشيا مسيحية متطرّفة، تضيّق على المظاهر “الشاذة” في مناطق لبنانية معيّنة. ربما في ظروف أخرى كان يمكن اعتبار “جنود الرب” هؤلاء تمهيداً لمواجهة مفتوحة مع جنود حزب الله، إلا أن العداء للمثلية يمكن أن يصير فرصة لجمع الطرفين.

يرى كثيرون أن مثل هذا النوع من التصريحات محاولة من “الطبقة السياسية” اللبنانية للالتفاف على الأزمات السياسية والاقتصادية، التي تعجر عن حلّها، ففي بلد انهارت عملته المحليّة، واستولت مصارفه على ودائع المواطنين، ولا تستطيع قواه السياسية انتخاب رئيس جمهوريته، ليست المثلية أكبر المشاكل بالتأكيد، حتى بالنسبة لأشد المحافظين تطرّفاً، وبالتالي فالموضوع ليس أكثر من محاولة لـ”الإلهاء”، رغم هذا فمن العبث تحديد ماهية “القضايا الفعلية” في جو سياسي كهذا، فعندما يبدي مسلّحون استعدادهم لقتل الآخرين، وتجاوز خلافاتهم، في سبيل مسألة ما، تصبح تلك المسألة “أساسية”، بقوة ما يملكونه من سلاح. الأجدى البحث في الكيفية التي تجعل مسألة المثلية أسلوباً لبناء أكثرية سياسية، تتمتع بقدر لا بأس به من التماسك الثقافي والأخلاقي والأيديولوجي. لبنان ليس هولندا بالتأكيد، ولا يشكّل المثليون فيه جماعات ضغط تؤثّر في كل مناحي المجتمع، من القرار السياسي والتشريع القانوني، وحتى التربية والإعلام العمومي، بل هم مجموعات محدودة جداً، توجد في بعض الفضاءات المدينيّة الأكثر انفتاحاً، وتستفيد أحياناً من بعض المنح الدولية، المتعلّقة بدعم حقوق الإنسان، ولا يُتوقّع لها أن تحوز نفوذاً سياسياً، في بلد تسيطر عليه الميليشيات أصلاً، أو في بلدان الجوار التي تهيمن عليها حكومات ديكتاتورية. لماذا تُسبغ عليهم إذن هذه الأهمية؟ وكيف يمكن لوجودهم أن يبني ائتلافات وأكثريات غير متوقّعة؟

اختراع الأكثرية

لا يقتصر رفض المثليين على لبنان، أو غيره من الدول العربية وذات الأغلبية الإسلامية، إذ يبدو أن هنالك ائتلافاً عالمياً من اليمين الجديد والشعبوي، يضع نفسه في مواجهة “أمميات المثلية”، بأشكال مختلفة، بحيث صارت المعارك حول ماهية العائلة السليمة، والعلاقات الجنسية الصحيحة، قضية سياسية وأكاديمية وثقافية وإعلامية كبرى. يرى اليمين الجديد أن هنالك هجمة ليبرالية، مموّلة بشكل واسع، ضد قيم الأسرة، والحضارات الراسخة، مسيحية كانت أو إسلامية؛ فيما يرى اليسار الليبرالي أن “الهوموفوبيا” تتصاعد في العالم بأسره، ضمن موجة مرعبة من الشعبوية. وبالفعل يبدو وضع المثليين مستهدفا، حتى في أكثر دول العالم ديمقراطية وليبرالية، فهم أقلية مكشوفة أمام كل استهداف ممكن من مجتمع الأغلبية، ويجب حمايتها دائماً من ميل الأكثرية إلى اضطهادها. ولكن كيف أصبح المثليون مجموعة هوية واضحة المعالم، لها وضع أقرب للأقلية العرقية أو الثقافية المرفوضة؟ من المعلوم أن المثليين تعرّضوا لاضطهاد طويل من مؤسسة الطب والطب النفسي منذ مطلع الحداثة، إذ اعتُبر أداؤهم الجنسي شذوذاً عن “الممارسة السليمة”، وبالتالي فقد تم تصنيفه مرضاً، وليس مجرّد مخالفة أخلاقية ودينية؛ في الآن نفسه جُرّمت الممارسة المثلية في معظم المدونات القانونية، التي لم تقتصر سلطتها على الدول الأعرق في التحديث، بل فُرضت أيضاً على كثير من المستعمرات حول العالم.

يمكن ربط أداء المثلية المعاصرة بنشوء نمط جديد من السلطة البيروقراطية /التكنوقراطية في الغرب، قائمة على جعل الإدارة بديلاً عن السياسة، لا تعترف بجمهور يمتلك مشتركات، بقدر ما تنشئ ذاتيات مفردة، مسجونة في مساحاتها الخاصة، تدير مصالحها وحقوقها على خطوط التماس في ما بينها.

لا يعني هذا أن الشرائع قبل الحديثة كانت متسامحة مع المثلية، وإنما كانت تعمل بآليات أخرى، تختلف عن آليات القانون المدوّن والدولة الحديثة، وغير قادرة على تحقيق ضبط سياسي واجتماعي واسع النطاق، عبر أجهزة عنفيّة وأيديولوجية ضخمة، كالتي تمتلكها الدول المعاصرة. وبالتالي فإن مسألة المثلية، كما نعرفها اليوم، مرتبطة بالسياسة الحديثة، أكثر من كونها قضية دينية أو أخلاقية، إذ عمل مركّب من السلطة/المعرفة على إنتاج مجال للمعيارية، في ما يتعلّق بـ”الطبيعة” والصحة والعائلة ونمط الحياة والثقافة الوطنية، هو أساس السياسات الحيوية التي تقرّها دولة ما، أي السياسات المتعلّقة بإدارة شؤون حياة مجموع السكان. أُقصي المثليون من تلك المعيارية، واضطهدوا بشدة، إذ أن بعضهم كان ما يزال يتعرّض، في قلب أوروبا، لـ”العلاج” بالصدمات الكهربائية، حتى سبعينيات القرن الماضي على الأقل. خلق نموذج الدولة الحديثة “أقليات” كثيرة، وهو يبني “شعبه” الخاص، أي الأكثرية السكانية التي يُفترض أنها تحمل مشروعه، وإلى جانب الأقليات العرقية والثقافية، كان المثليون أحد أشد الفئات تعرّضاً للانتهاك. الحركات المثلية كانت جزءاً من حركة “الحقوق المدنية” في الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، كما كانت في أحيان كثيرة جانباً من الحركات العمّالية، بمعنى أنها سعت لتعميم الحقوق والحريات، المضمونة نظرياً للأكثرية، على كل الفئات التي تم إقصاؤها، كما اعتبرت أن المثليين ليسوا كائنات غريبة ومريضة، بل هم مواطنون، عمال، وفاعلون في الحيز العام، يحقّ لهم المشاركة في كل القضايا العمومية، والمطالبة بتغير الأوضاع غير العادلة، أي أنها حاولت المساهمة بإنتاج مشترك جديد، أكثر تحرراً، بين البشر على اختلاف ميولهم وأنواعهم، وبناء الأكثريات على أسس سياسية/ديمقراطية، وليس حتمية/هوياتية. ناضلت تلك الحركات إذن لإيصال أفضل ما في مشروع التحديث إلى نتائجه المنطقية.. كيف عاد المثليون أقلية من جديد، بعد عقود من العمل؟

تكثير الأقليات

حاولت الحركات المثلية، وغيرها من حركات الحقوق المدنية، تحطيم المعيارية السياسية – الحيوية، لحساب نموذج أكثر تحرراً للفعل الاجتماعي والفردي. إلا أنها، مع تقدّم سياسات الهوية في العقود الأخيرة، سقطت في معيارية جديدة، فقد نمذجت أداءات ومظاهر وسلوكيات جنسية معيّنة، واعتبرتها هوية متفرّدة، لها أعلامها ورموزها وتراثها الفني الخاص، بل إنها أنتجت مصطلحات وتصنيفات حول الجنسانية، أكثر تعقيداً مما أنتجته المؤسسة الطبية الكلاسيكية. أدى هذا لوضع غريب بعض الشيء، وهي أن المثلية عادت، باختيارها هذه المرة، إلى موقع الأقلية، والأهم أنها أعطت، طوعاً، للمختلفين عنها صفة الأكثرية. وبدلاً من السعي للتخلّص من آليات إنتاج الأكثرية والأقلية الهوياتية، كرّس كثير من الحركات المثلية المعاصرة تلك الآليات، وربط نفسه بسلطة حيوية جديدة، تفرز سكانها على أساس تصنيفات نوعية وثقافية، وتبني جانباً أساسياً من شرعيتها على قدرتها على منح “الاعتراف” بتلك التصنيفات.

 يمكن ربط أداء المثلية المعاصرة بنشوء نمط جديد من السلطة البيروقراطية /التكنوقراطية في الغرب، قائمة على جعل الإدارة بديلاً عن السياسة، لا تعترف بجمهور يمتلك مشتركات، بقدر ما تنشئ ذاتيات مفردة، مسجونة في مساحاتها الخاصة، تدير مصالحها وحقوقها على خطوط التماس في ما بينها. كل الأفراد باتوا جزءاً من أقلية ما، إذ لا جماعة سياسية في عصر الفردانية وتحطيم “الاجتماعي”، فقط أقليات متكاثرة بلا نهاية. ولكن ما علاقة كل ذلك بتنظيم ديني/طائفي في بلد عالمثالثي مثل لبنان؟

“الشعب” الجديد

يمكن القول إن قبول كثير من الحركات التحررية المعاصرة بسياسة تكثير الأقليات، أتاح الفرصة للشعبويين حول العالم لادعاء صفة الأكثرية الجديدة، بل واعتبار أنفسهم “الشعب الحقيقي”، في مواجهة أقليات من الليبراليين الممولين دولياً. قد يكون حزب الله متورّطاً بمشاكل طائفية مع كثير من فئات اللبنانيين، ولكن معاداة أقلية ضعيفة التأثير، مثل المثليين اللبنانيين، يتيح له إنشاء ائتلاف سهل مع بعض المتشددين في مكافحة المثلية في كل الطوائف، ويمكّنه من فرض مزيد من الهيمنة على ما تبقّى من فضاءات مدينية، وقطع طريق كل احتجاج ممكن على التركيبة السياسية اللبنانية الحالية، بحجة “الحفاظ على قيم المجتمع”. هكذا تنشأ “أكثريات” جديدة حول العالم، تهدد كثيراً من المكتسبات على صعيد الحريات الفردية والاجتماعية، وقد تكون مواجهتها بـ”تحالف أقليات”، على طريقة الحزب الديمقراطي الأمريكي مثلاً، غير مجدية، فقد أثبتت التجربة التاريخية أن بناء المشتركات بين البشر المختلفين، وليس تكثير الأقليات، هو ما ينتج تغييراً حقيقياً، وينتزع مزيداً من الحقوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية