عاشت نصوص السيرة الذاتية السعودية في السنوات الأخيرة مرحلة جديدة. فخلافاً لمحدودية هذه النصوص على مدار عقود طويلة، بدأ في السنوات الأخيرة ظهور عدد كبير من السير. واللافت في هذا الجانب، أن كتاب هذه النصوص، لم يكونوا بالضرورة شخصيات سياسية، بل أصبحنا في هذه الموجة الجديدة أمام كتاب سير آخرين، أطباء، ومهندسين، وتجار، ونساء. وهذا لم يكن متوفرا في السابق. كما سنتعرف من خلالها على تواريخ يومية أوسع عن السعودية ومدنها، وربما من بين أهمها ما يتعلق بيوميات الطفولة في المنطقة، وهي يوميات لم تحظ بعد بالاهتمام الكافي. يلاحظ المؤرخ بيتر ستيزنز في كتابه «الطفولة في التاريخ العالمي» أنّ الطفولة باتت بمثابة مختبر لدراسة الاتصال بين العالمي والمحلي. فمن خلال التعليم وأفلام الكرتون وظهور الدولة وعالم روضات الأطفال، أخذت تتشكل معاني أخرى عن الطفولة والواقع المحيط بها.
وعلى صعيد التاريخ الاجتماعي السعودي، يبدو أن الاهتمام بتاريخ الطفولة ذو وجاهة، خاصة أن قسما كبيرا من السير الجديدة أخذت توفر لنا معطيات ولقطات جيدة عن واقع المدينة والعائلة السعودية آنذاك. وإجمالا تبقى هناك تحديات في ما يتعلق بهذا التاريخ، خاصة على صعيد الحاجة إلى وجود مصادر أخرى، مثل سجلات المشافي والمدارس والطعام مثلا وغيرها، وذلك يسمح برسم صورة أوسع. لكن يحسب لكتب السيرة توفيرها تمرينا ومدخلا أوليا غنيا لكتابة تاريخ الطفولة في السعودية، أو لنقل تاريخ السعودية اليومي لكن بعيون الطفولة، وهي تواريخ قد تتقاطع مع تواريخ أخرى، وقد تغنى منها أحيانا، وتكسبها معاني جديدة.
سيرة الطفولة
في كتاب صدر قبل سنوات بعنوان «الأطفال والطفولة في الدولة العثمانية: من القرن 15ـ 20» حاول عدد من الباحثين في التاريخ العثماني، كتابة تواريخ جديدة من خلال عالم الطفولة. وقد استطاعوا الكشف عن مصادر جديدة في قراءة تاريخ هذه المنطقة والطفولة، بدءا من الأطفال الصغار الذي زجّوا بالمعارك في الهرسك، أو الذين تعرضوا للعقاب الجسدي في إسطنبول، أو الفتيات الصغيرات الريفيات اللواتي عملن خادمات في بيوت إسطنبول، مرورا بمواضيع أخرى تتعلق ببدايات تعليم الأطفال في البوسنة ونابلس والقاهرة. وعلى الرغم من هذا التطور في الكتابة، لكن الملاحظ في الكتاب غياب مدن الجزيرة العربية مثل، مكة أو المدينة أو نجد، ولذلك يشكل الاطلاع على السير الذاتية السعودية المنشورة مؤخراً فرصة جديدة لإكمال قصة الطفولة في المنطقة.
سنعتمد على ثلاث سير نشرت مؤخراً، التي في رأينا تعكس محطات اجتماعية وسياسية في السعودية. الأولى هي سيرة فهد المارك 1910ـ 1920، التي تعكس مرحلة ما قبل تأسيس المملكة. وفيها تبدو الطفولة مرحلة مؤقتة فقط للبلوغ والانتقال إلى عالم الرجولة، كما تبدو الطفولة وهي تعاني من الأمراض والموت، وهو أمر سيستمر حتى الستينيات تقريبا في بعض المناطق. في المقابل نرى مع سيرة عائشة المانع، مدينة الخبر (1940ـ 1955) ظهور عامل جديد تمثّل بتطور المناطق الشرقية في السعودية، مع اكتشاف النفط، وقدوم أرامكو، ما خلق تعاريف وأوضاع جديدة للطفولة، وأهمها ربما ما يتعلق بتطور صحة الأطفال، وتراجع عدد الوفيات قليلا، وأيضا ظهور التعليم وتأثر الطفولة بهذا الواقع. أما المرحلة الثالثة فتتمثل في سيرة الكاتب السعودي خلف سرحان القرشي، الطائف، التي تكشف في تفاصيلها عن ظهور أوسع للدولة ومؤسساتها بعيد الستينيات. وسنقاطع سير الطفولة هذه مع تفاصيل مع سير أخرى تعود لعبد الله الطريقي، وللطبيب محمد المفرح (الزلفي) وسعيد السريحي (جدة).
الطفولة.. طريق الرجولة
في سيرة المارك، الذي عاش طفولته في مدينة حائل في فترة آل الرشيد، نرى والده وهو يفقد عددا من أبنائه الصغار بسبب الأمراض مثل الجدري، ولذلك تبدو الطفولة في هذه الفترة وهي تعاني من عدد وفيات عال، وهو أمر سيعاني منه التاريخ الاجتماعي السعودي لسنوات طويلة. إذ تكشف باقي السير أيضا ومنها سيرة عائشة (الأربعينيات) أنها سميت بذلك لولادتها بعد موت أخين لها سابقا. والشيء ذاته نراه في سيرة خلف الله (الستينيات) الذي سمي بذلك خلفا لأخوته الذي توفوا قبله. ويبدو أن موت الأطفال كان أمراً متوقعاً في حياة المجتمع آنذاك مقارنة بأيامنا هذه، ولذلك بقي جزء من ذاكرة حياة الطفولة في السعودية لعقود طويلة، وأحياناً كان بمثابة الحدث الذي يجري من خلاله التأريخ الاجتماعي للعائلة، إذ يحدثنا السريحي (مواليد 1952) في سيرته عن القصص التي سمعها من جدته حول وفاة تسعة من خالاته وأخواله في النصف الأول من القرن العشرين، بسبب الأمراض أو الوقوع على الأرض. ولعل في ذلك ما يذكرنا بملاحظات المؤرخ المغربي عبد الأحد السبتي، الذي بين كيف تلعب السير الشفوية التقليدية دورا في خلق تواريخ أخرى (تاريخ الوفاة، أو عام الوفاة) بديلة عن التواريخ الرسمية (التاريخ الميلادي).
ظل الموت، بسبب الأمراض، رفيقا ملازما للطفولة في مدن أخرى كذلك إضافة إلى السعودية، مثل بلاد الشام، حتى الأربعينيات والخمسينيات. من جانب آخر لا نرى في حياة الطفولة لدى المارك، أي دور للمدرسة أو الكتاتيب. وقد يعود ذلك لوالده، ولا يمكن تعميم الأمر على كامل حائل، إلا أنه عموما يمكن القول إن علاقة الأطفال في نجد بالتعليم ظلت محدودة لعقود لاحقة أيضا، وهذا ما نلاحظه في مذكرات الطبيب المفرح المولود سنة 1941 في الزلفي، إذ يشير إلى أنه لم تكن هناك مدارس سوى الكتاتيب. كان رجال حائل يكسبون رزقهم، كما يذكر المارك من خلال العمل كغزاة أو جنود، ولعل هذه الأجواء لم تكن تسمح بمساحة واسعة للطفولة، فالمرء لا يكون ذا قيمة إلا بقدر ما يكون فارسا مغوارا، ولذلك نرى الأهالي، وهم يدفعون أولادهم وهم في أعمار صغيرة للمشاركة في الحرب كطقس من طقوس التحول إلى عالم الرجولة. في مشهد آخر، نرى بعض الأطفال في نجد، وحتى الثلاثينيات، يخوضون غمار السفر نحو بلدان أخرى، وهذا ما نراه في حياة المارك الذي التحق بالجندية في جدة، وسافر لاحقا إلى السودان. وأيضا في حياة الطفل عبد الله الطريقي (مواليد 1918، الزلفي) الذي سافر في نهاية العشرينيات إلى بومباي في الهند وعمل صبي تجارة. وهذا ما يوحي بأن هناك ثقافة في العائلة كانت تعتقد بضرورة شروع الأطفال في تقديم المساعدة للاقتصاد الأسري في سن صغيرة نسبيا.
بكل الأحوال، مع المارك وباقي السير الأخرى نرى أن الطفولة في حائل، والسعودية لاحقاً حتى الثلاثينيات تقريبا، هي عبارة عن بوابة أو مسار قصير لعالم الرجولة، وهي ثقافة شملت عالم المتوسط أيضا الذي أبدى اهتماما أكبر بعالم الشباب والرجولة، لا مكان في هذه الطفولة للتعليم، كما يبدو أن الأطفال شاركوا في العمل بسن صغيرة.
الطفولة مع أرامكو
لكن يبدو أن هذا الواقع، وبالأخص على صعيد تعليم الأطفال، كان يشهد تغيرات جديدة، لكن هذه المرة في المنطقة الشرقية، التي ستشهد تحولات حضرية مع اكتشاف النفط بعيد الثلاثينيات. تروي لنا عائشة المانع (مواليد 1942) كيف أخذت تتحول مدينة الخبر في هذه الفترة من بلدة صغيرة إلى مدينة مخططة بأسلوب أمريكي. وعلى الرغم من أن الطفولة بقيت تعاني في هذه الفترة من تكرار حالات الوفيات، لكن يبدو أن هذا الأمر سيتراجع مع التطور العمراني والصحي، الذي عاشته المنطقة الشرقية، وظهور المشافي الجديدة (مشفى الدوسري 1955). تذكر المانع مثلا أنه في نهاية الأربعينيات ولدت والدتها في مشفى الإرسالية الأمريكي في البحرين، خلافا للولادات السابقة لها على يد القابلة القانونية. ولعل هذه التطورات الصحية ساهمت في الحد من تراجع الموت في أوساط الأطفال في المنطقة الشرقية على أقل تقدير. من جانب آخر، نرى الطفولة في الخبر وهي تتأثر بالتحولات المحلية – العالمية (قدوم النفط) إذ ساهمت حفريات شركة أرامكو في نمو المدينة، وتحسن أحوال العائلات، ما دفع ببعضها للتفكير بتدريس أولادها في أماكن أخرى. وعلى الرغم من أن والد الطفلة عائشة كان رجلا مثقفا وواعيا بأهمية التعليم، لكن لعل هذا الوعي بأهمية هذا الجانب ارتبط أيضا بتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعيشها المنطقة الشرقية عموما.
يذكر الصحافي الراحل عبد الله الشباط في كتابه عن مدينة الخبر، أن تطورا حدث في الأربعينيات تمثل في الانتقال من التدريس في الكتاتيب (منزل الشيخ عبد الحميد المبارك) إلى افتتاح مدرسة ابتدائية ذكورية عام 1941ـ42، بينما ستفتتح أول مدرسة للفتيات في الستينيات تقريباً. ولذلك أصبح من معاني الطفولة الالتحاق بالتعليم مقارنة مثلا بمرحلة المارك في العشرينيات. ولا نعلم إن بقي هذا الأمر مقتصرا على عائلات معينة، أم طال شرائح واسعة. خاضت الطفلة عائشة تجربة أخرى مع الطفولة بعد انتقالها للدراسة في مدرسة بريطانية في الإسكندرية في الخمسينيات. في الصور الملتقطة لها تبدو بالغة، مع أنها لم تتجاوز التسع سنوات. ستتمكن من التعرف على معان أخرى للطفولة مثل تعلم الموسيقى، والحصول على ألعاب أكثر. لكن في المقابل يبدو أن هذه الطفولة الارستقراطية لم يكن الهدف منها أحيانا توسيع عالم الطفولة، بقدر ما كانت محاولة تدريب هؤلاء الطفلات على أن يكن سيدات مجتمع في المستقبل، ولذلك نرى عائشة وهي تعترف بأنها كانت تحن أحياناً إلى اللعب في شوارع حارتهم.
تظهر الخمسينيات في المنطقة الشرقية أمامنا شكلاً آخر من الطفولة، وأهمها التعليم. ومن هنا تأتي أهمية هذه السير، في أنها قد تدفع الباحثين إلى البحث عن مصادر أخرى أيضا لرسم صورة أكثر وضوحا عن الطفولة. وأذكر هنا على سبيل المثال موضوع سجلات الطعام، وما المواد الجديدة التي أخذ يتعرف عليها الأطفال مثلا من خلال أرامكو مقارنة بمناطق أخرى. ويبدو أنها نقطة أثرت في ذاكرة الطفلة عائشة، ولذلك سجلت لنا مثلا عن تغير وجبة الفطور التقليدية، وظهور المربيات والأجبان والمعلبات، وهذا أمر سيتطور لاحقا وستغدو الطفولة لدى الطبقات العليا، وحتى المتوسطة في المنطقة مرتبطة بأطعمة مثل الكورنفليكس والشوكولاته وغيرها.
في هذه الفترة تبدو الدولة السعودية وهي تعيش حالة نمو وتطور، إلا أننا سننتظر، ربما حتى الستينيات لتظهر بوصفها اللاعب الأوضح، والأكثر تأثيرا في حياة الطفولة من خلال التعليم، إذ من الملاحظ مثلا أن كثير من المدارس التي افتتحت في الأربعينيات والخمسينيات في المنطقة الشرقية، كانت مبادرات أهلية أو فردية، وهذا ما سيتراجع لاحقا مع نمو مؤسسات الدولة بشكل أوسع مع الفورة النفطية في الستينيات والسبعينيات. لكن قبل الانتقال للستينيات، يجب التنويه هنا إلى أنه في سيرة المانع، لا نعثر على تعريف أو تحديد زمني لفترة الطفولة، وإن كانت هناك إشارات توحي بأنها قد توقفت عند الرابعة عشرة. كما يبدو أن فكرة المراهقة لم تكن بارزة آنذاك بعد، وهو مفهوم يبدو أنه سيتأخر حتى يظهر في المجتمع السعودي مقارنة بمجتمعات أخرى.
الدولة والطفولة
مع ذكريات خلف القرشي (المولود في الطائف 1962) يمكن القول إننا أمام مرحلة جديدة في حياة الطفولة، تمثلت بظهور الدولة وانتشار التعليم بشكل أوسع. وعلى الرغم من أن الطائف تبدو في هذه الفترة (أو بلدته) بلا كهرباء، وقاسية أحياناً، مقارنة بالكهرباء والتلفزيون في حياة الطفلة عائشة المولودة قبله بعشرين سنة قرب أرامكو، مع ذلك يبدو أن هناك محاولات ووعي أكثر من الأهل لجعل التعليم المدرسي هو الواجب الصميم للطفولة. كما أن التعليم ما عاد خاصا بجماعات أو طبقات معينة، بل شمل العائلات الفقيرة. وبحكم أن الطائف لم تشهد تحولات شبيهة بالشرقية على صعيد تطور الاوضاع الصحية، ولذلك نرى استمرار وفيات الاطفال هنا، لكن كما ذكرنا، تحتاج هذه الاستنتاجات إلى سجلات أوسع للمقارنة والتأكد من صحتها.
ولد خلف في عائلة تعمل في تربية الأغنام. يذكر قصة إرضاع والدته لأحد العقارب! في سياق توضيح مدى التضحيات التي قدمتها والدته. مع ذلك نعتقد أن هذه الصورة أيضا لا تنقل الواقع بالضرورة، فعلى الرغم من محبة الأم لأبنائها، واندفاعها إلى التعرض لقرصة عقرب كنذر، مثلما كانت المعتقدات تقول، إلا أن ظروف العائلات في الريف آنذاك، ربما لم تتح للأطفال الحصول على عناية كافية. فالوالدة لديها مهام يومية شبه مقدسة من رعي الأغنام وحلبها، وجلب الحطب والماء والطبخ والغسيل، ولذلك لم يتمكن الأطفال من الحصول على وقت واسع من الاهتمام والعناية مقارنة بأيامنا هذه.
بكل الأحوال يبقى التطور الأهم في هذه الفترة هو صعود دور الدولة في خلق تعاريف جديدة عن الطفولة، وبالأخص على صعيد التعليم. ففي السابق، ظلت الأسر والمؤسسات الدينية أو الأهلية، هي التي تتحمل المسؤولية الأكبر، بينما تظهر الدولة بعيد الستينيات وهي تعمل على تحسين ظروف الطفولة، من خلال توفير تعليم أفضل وتوفير رعاية صحية أيضاً.
يذكر القرشي، أنه بعد ثلاثين سنة تقريبا من دخوله المدرسة، قررت وزارة التعليم تطبيق ما عرف بالأسبوع التمهيدي لطلاب الصف الأول الابتدائي. يسمح فيه لآباء الطلاب بالمجيء معهم وتقدم للتلاميذ هدايا وألعاب. وهذا يعكس كيف أخذت الطفولة في السعودية والمنطقة بعيد الثمانينيات تعيش مرحلة جديدة مع الطفولة، إذ غدت الطفولة بعد هذه الفترة، وبالأخص في العقدين الأخيرين الاعتراف بوصفها زمنا خاصا من اللعب والترفيه، وعدم القبول بفكرة أنها مرحلة مؤقتة للعبور نحو عالم الرجولة، أو البلوغ (للفتيات). كما أخذت تعني ضرورة اهتمام الوالدين بالأطفال أكثر من السابق. ويبدو أن هذا التطور في تاريخ الطفولة، سيتقاطع أيضا مع ظهور تحولات ويوميات جديدة في حياة المنطقة. إذ أنّه مع نهاية الثمانينيات، بدأ نعيش مرحلة أخرى في عالم الاستهلاك، ما ساهم في توفير أشياء جديدة للأطفال. وهذا تطور لا يعد سلبياً بالضرورة، بل ربما ساهم في توسيع مخيال الأطفال، بالإضافة إلى ظهور فكرة المراهقة، وتأخر سن الزواج، والسمنة، وعالم الروضة. وقد أثّرت كل هذه العوامل في عالم الطفولة في المدينة السعودية والعربية عموما، بما يدفعنا إلى توسيع النظر في هذا التاريخ ومصادره، بالشكل الذي يؤسس لتاريخ جديد للمنطقة، لكن بعيون الطفولة.