ما أن أشرفت أرض الإنسان على عامها الحادي والعشرين بعد الألفين، حتى أصبح الزمن قادراً على إيقاف دموع الحزن والأسى المتكرر، لينقل رافع الناصري من دائرة الموت إلى وجود الحياة في ولادة جديدة، سجّلت وقوعها القاصة الشاعرة مي مظفر، منذ انتهاء مراسم التشييع، ومغادرة الأهل والأصدقاء في ساعة متأخرة من الليل، في تلك اللحظة أغلقت مي الباب لتختلي مع نفسها، تحيط بها وحشة أشبه ببئر عميق مظلم، وسؤال أكثر ظلمة: كيف سأكمل الرحلة من غيره، فقد ترك رحيله فراغاً مهولاً في حياة مي مظفر، وما من قدرة على انتشالها من هوّتها السحيقة، سوى الحفاظ على وجوده حياً معها، في سردية لا ينالها الزمن بالنسيان، أبلغ ما فيها أنها تعيد لنا الناصري كنجمة الفجر، نراها ونفتقدها في الوقت نفسه ، فقد رحل رافع من بيننا، إلا ان عمله الواهب المبدع، وكل ما أنتجته يده الماهرة، وعقله النير يظل خالداً مؤثراً.
سرد مبهر من الاكتشافات، والمتعة البصرية، والتجارب الطويلة المتأنية لأمير الكرافيك العراقي رافع، وبحث دائم في تطوير الأدوات، وتعدد الأساليب، واتساع الرؤى، إنها مقطع من حياة فنان، آثرت شريكته في هذه الحياة أن تقدّمه مثالاً فقط، في كتابها «أنا ورافع الناصري: سيرة الماء والنار» الصادر عام 2021، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بأكثر من 300 صفحة، تضمنت العشرات من الصور بالأسود والأبيض، وبالألوان.
تقول مي: استغرق استكمال فصول هذه السيرة قرابة ست سنوات 2014-2020. في استعادة لليوميات والمذكرات، والأوراق، وبطاقات المناسبات، ورسائل الحب، ورسائل الأهل والأصدقاء، وأشرطة الأغاني والموسيقى، ورحلات السفر، ومحترفات الناصري، ومغامراته، أساتذته، طلبته، وذكريات البيوت التي شيدوها، وتعلقوا بها وأحبوها، ثم هجروها، في بغداد، وعمّان، والبحرين، لم يتركوا فيها غير الحسرات. إنها سيرة مجتهد ومبدع تتداخل ذكرياته في منجزه الأدبي، مع أعمال سواه في نسيج ثري وفي، وبهذه الصورة والموقف تحقق مي مظفر حضورها في كامل ألقها، حضور المثقف العارف بإمكاناتها ومخزونها المعرفي، وفي تفاعلها وحوارها وتواصلها ومسارها، الذي اتضحت ملامحه الأولى في عام 1965، كعام حاسم في حياتها الأدبية، إذ تعرفت فيه إلى شخصيات عربية مرّوا في بغداد، مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وأحمد رامي، ومحمد مندور، ومحمود حسن إسماعيل، واحتفظت بصداقة قلة منهم مثل خليل حاوي، والشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب، ولنجيب المانع الفضل الأول في ترسيخ شخصية مي مظفر الأدبية. وهو من رسم لها خريطة الطريق المنهجية لامتلاك ناصية الثقافة بأوسع مدياتها، وتطوير مهاراتها اللغوية، ودلّها إلى الزبدة في التراث العالمي، كان نجيب عقلا جباراً كما تصفه مي، أسئلته الوجودية لا قرار لها، كعطائه الباذخ، شغفه بالثقافة مخيف بحجمه.
يقيناً أنه منطق الوفاء للينابيع الأولى، التي نهلت منها مي، وكل تلك الرحلات المضنية التي شكلت شخصيتها بإضافات نوعية. ومن خلال الرؤية الشفافة، المطلقة والمعافاة في رومانسيتها، تجعل من السيرة كتاباً مقروءاً، بذاكرة حاضرة بقوة ليشكل إضافة جديدة ومتميزة في عطاء مي مظفر الثري، وحين حاولت أن أجد نظيراً لهذه السيرة، تعثرت كثيراً في إيجاد طريقي بين المتناقضات والأضداد، ثم عثرت على جواب لسؤالي حين اكتشفت نبل المقاصد، في الكتابة، لتصبح في النهاية وعياً حضارياً وضرورة فنية.
منذ بداية السبعينيات، وفي إحدى زياراتها إلى منزل جبرا إبراهيم جبرا، تتوقف عند لوحة في المدخل، شفافة بالأبيض والأزرق، لم يظهر اسم الرسام عليها، وتتساءل مي: هل هي موجة بحر فيروزي، أم جسد امرأة في حالة عشق؟ وتسأل جبرا، لمن هذا العمل؟ فيجيبها باستغراب، إنه لرافع الناصري، كيف لا تعرفينه،
في مناسبة أخرى، وفي قاعة المتحف الوطني (كولبنكيان) تتساءل عمن يكون ذاك الذي يلاحقها بنظراته السرية، لتبدأ مرحلة الكر والفر، كما تسميها مي، التي امتدت على نحو سنتين، اتسمت بالحلو والمر، بالأمل وبالتهديد، بالوصل والقطع، لم يكن رافع نموذجاً أطمح له أو أتمناه، لكن نقطة الضوء التي حلّت في نفسي ذوّبت كل صورة وتصور، وسلبت مني كل إرادة للتراجع، وظل رافع حائراً متردداً، لا يسعى إلا للتشبث بحريته، ولا يشغل باله سوى السفر والهروب إلى أصقاع العالم، مع ذلك وجدت نفسي أنجرف في حبه انجرافاً لا عودة منه.
استطاعت مي مظفر النفاذ إلى أعماق رافع، إلى تلك الروح القلقة الحائرة، أفزعها بقدر ما عزز روح التحدي لديها، انطلقت معه بجرأة وتحدٍ، تجده أقرب من يدها إليه مرة، وتارة تراه أبعد من بنات نعش، هو الحقيقة والسراب معاً، الوضوح والغموض، الشك واليقين، التقيا، وعشقا، تبادلا الأفكار والأحلام والمعرفة والهموم والفرح، كانت مي الاستقرار الذي يبحث عنه رافع، ويهرب منه، يغريه مرة، ويرهبه مرات. هي الثنائية التي تجمع الضدين، اختيار بقصدية في عنوان السيرة (الماء والنار) سيرورة دالة على معطى ثقافي وميثولوجي، وحتى الخيال طافح بهذه الثنائية، وكلاهما يفضيان للحلم والموت والرغبات، ومعاودة الحياة ثانية، عنصران متضادان، متحدان، في التكوين، دونهما لا يمكن للحياة أن تستمر، وهل يرد النار غير الماء؟ وهل يرد الماء غير السدّ؟ والسد امتداد للأواصر، يرسل ومضة من كهرباء الروح.
تنتهي صولات الكرّ والفر عند قاضي المحكمة الشرعية في الكرادة الشرقية، لعقد قران بمهر متقدم قدره دينار واحد فقط، وشاهدان هما ضياء العزاوي، وطارق إبراهيم، كانت مي في غمرة الانتشاء، وفرح الكلمات العذبة، تصف ليلة الزواج: كنت بلا منازع أسعد مخلوقة على وجه الأرض.
إن عملاً غنياً كهذه السيرة، يقدم لنا ملامح جديدة لأثر أدبي بما يحمل من أضداد تتعلق بذاكرة حية توقظ روح الفنان، وتنسخ روحه ثانية، إن خصوبة التجربة هنا هي خصوبة حياة بكاملها، وإن ظهرت بهاجس مأساوي في بعض محطاتها، وتنتهي بقصة لحلم ترويه مي بحسرة وألم ووفاء: أرى رافع يعد حقيبته للمغادرة ويقول لي معتذراً: حان وقت انفصالنا، أريد أن أنطلق حراً كما اتفقنا، فلا أملك إلا الاستسلام لإرادته واحترامها كما وعدت نفسي منذ بداية حياتنا.
وقبل أسبوع أو أكثر من رحيله، كنا معاً في جبال لبنان، طلب من سائق السيارة أن يتوقف قليلاَ لتصوير المشهد، كان يحمل بيده الكاميرا، وعيناه سارحتان تتفحصان الموقع، طلب مني أن أنتظره ريثما ينتهي، بقيت أتابعه حتى توارى في عمق الغابة، ولم يعد. كان ذلك في السابعة من صباح السبت، السابع من كانون الأول/ديسمبر عام 2013.
أشهد أن هذه السيرة، تجاوزت الصمت الثقيل، وسأم الغياب، وعذابات الفراق، كانت عينا مي ترنوان للسماء، فتمد أجنحتها إليك، وصنعت من أحلام الشباب، وخيالات الليالي، سيرة كُتبت فصولها بدقّات القلب، أين مواسم الفرح المطل على العيون؟ حتى وهي محاطة ترنو للسماء، كانت في أغلب الصور حزينة، في قسمات الوجه رموز مجهولة، البورتريت الذي رسمه رافع للوجه الجميل يقول هكذا.
كاتب عراقي