سير الكتاب

منذ فترة أرسل لي شخص لا أعرفه، ولم أسمع به من قبل، يخبرني بأنه مغرم بتتبع والفنانين منذ فترة طويلة، وينوي الآن أن يكتب بعض سير أولئك في كتب، لتنشر تباعا، وأنني مدعو للمشاركة بمعلومات عني من أجل أن أدخل واحدا من تلك الكتب، إن كنت أريد، وسيقوم ذلك الشخص بمساعدتي، بأن يرسل لي حوالى مئة سؤال، تشمل كل جوانب حياتي تقريبا، وما علي سوى الإجابة عنها بأي أسلوب أراه مناسبا، وإرسال الأجوبة له، ليقوم بإعداد السيرة كما يليق. وإن قبلت سأكون ملزما بالإجابة على كل الأسئلة.
بالطبع هذا كلام غريب، ولا ينبغي الاستجابة له، ومنذ أصبح العالم مكشوفا في تلك الاتصالات التكنولوجية السهلة، والوصول إلى أي شخص حتى لو كان في قاع بدروم، أو قعر كهف في أي مكان من الكرة الأرضية، متاحا كما لو كان في غرفة مجاورة، أو بناية في الجانب الآخر للشارع، والغرابة تزداد، والصفقات غير المجدية تلاحق البعض، والاحتيال متوقع في كل خطوة يخطوها المتصفح لمواقع الإنترنت.
ما معنى تتبع سير الفنانين والكتاب؟
وإلى أي حد تهم تلك السير الناس ليلاحقها أحدهم ويصدرها في كتب، وهذا الكاتب أو ذاك حتى لو كان نجما فهل يتوقع صاحب تلك الرسالة، أن تحقق سيرته حضورا لافتا وسط سير من صنعوا الحضارة، وغيروا مجرى التاريخ بالاختراعات والاكتشافات العلمية التي من ضمنها، هذه الانترنت التي نستخدمها جميعا بحذر وبغير حذر، ولا ندري كيف كان اكتشافها، وتطويرها، وإيصالها إلى هذه المرحلة؟.
قلت لصاحب الرسالة، إنني لا أملك أي سيرة مهمة، ولن تكون لي سيرة فيها حتى عبر وعظات عادية، ناهيك عن فقرات يستفيد منها القارئ، وتنير له شيئا من ظلام الحياة، لقد لعبت كرة الشراب، وألعاب الاختباء، وقرأت مجلات ميكي وسمير، و ألغاز المغامرين الخمسة، أحببت وانهزمت وأحببت ولم أنهزم، وسافرت وعدت وسافرت وعدت، وطورت قراءاتي، وكتبت الشعر والروايات، ولا شيء آخر، وبالتالي لا سيرة مهمة، إلا تلك التي أوردها بنفسي داخل نصوص معينة، وهذه يتمسك بها القارئ باعتبارها شكلا روائيا وتدخل في جنس الأدب، ولن أقول بأن الأدب لا جدوى منه، لأنني تحدثت عن هذا الموضوع كثيرا، وقرنته بالمعرفة التي هي أقصى فائدة يخرج بها القارئ من لهفته للكتب.
هذا الموضوع يقودني للحديث عن السيرة الذاتية للكاتب حين يكتبها بنفسه، وحين يكتبها آخرون عاصروه، واستفادوا منه ومن أشخاص يعرفونه جيدا. وبغض النظر عن أهمية تلك السيرة من عدمها، أعتقد شخصيا إن الكاتب حين يضع سيرته أو بعضا من سيرت بنفسه، تكون أكثر عمقا، وأشد جذبا من الناحية الأدبية، كما أن الحوادث التي ستروى، ستكون صادقة إلى حد ما، كونها صادرة من المنبع، وليس من روافد صغيرة حوله.
أمامي نماذج كثيرة لمثل تلك السير، لكني سأورد نموذج سيرة العظيم ماركيز التي كتبها بنفسه وصدرت بعنوان: نعيش لنروي، أو: عشناها لنرويها، وتلك السيرة الأخرى التي كتبها الإنجليزي بروفيسور جيرالد مارتن، بعد مجهود كبير، وأسفار متواصلة لأميركا اللاتينية، وصدرت في كتاب ضخم منذ عدة أعوام.
في السيرة التي كتبها ماركيز بنفسه، لمست الإدهاش الحقيقي، لكاتب عاش حياته كلها مدهشا، وحتى تلك الوقائع الحقيقية التي يرويها، يحسها القارئ غير حقيقية، إو متبلة بالخيال، ذلك أن الكاتب هنا، يثرثر أدبيا، يسعل أدبيا، ويحك جلد اللغة بأظفار الأدب، فتأتي السيرة أدبا صرفا، وكما قلت حتى لو لم تكن مهمة في المحتوى، فهي مهمة في لسع الوجدان، وجعل القارئ ينغمس في قراءتها بكثير من النشوة.
السيرة الأخرى التي كتبها جيرالد، في رأيي أكثر أهمية من ناحية امتلائها بالمعلومات ليس عن ماركيز وحده، ولكن عن الحياة السياسية والاجتماعية التي كانت تتغير أثناء تتبع رحلة ماركيز، منذ كان طفلا، ثم صحافيا في بلاده، ثم مشردا في باريس إلى أن غدا نجما غزير اللمعان والثراء.
هذه السيرة، أعني سيرة جيرالد، بالطبع مادة تقرأ، لكن ليست أبدا في جمال تلك التي كتبها ماركيز بنفسه، وأضاف لها كساء الأدب، ذلك أنه حرص على اقتناص المعلومة، كما أنه باحث عظيم ولكنه ليس كاتبا أدبيا.
على أن ماركيز نفسه، كتب مرة سيرة لسيدة يعرفها اختطفها تجار المخدرات في كولومبيا، لتظل أسيرة الرعب زمنا طويلا، وخرجت أخيرا من محنتها لتروي له قصتها المثيرة، ليصيغها في كتاب سماه: اختطاف. وأقول بأنني للأسف لم أحس بوجود ماركيز الذي أعرفه، في ذلك الكتاب، ذلك أنه تعمد كما أعتقد، أن يكتب الوقائع الخاصة بتجار المخدرات بلا أي كساء أدبي، وكان يمكنه أن يفصل لسيرة السيدة ومافيا المخدرات، مئة ثوب براق لو أراد.
لكن برغم ذلك، اكتسب كتاب اختطاف، أهمية خاصة في كولومبيا، وأمريكا، بعد أن ترجم للإنجليزية، ذلك أنه من الكتب المهمة التي ألقت الضوء على نشاط إمبراطور المخدرات: أسكوبار، وغيره من ملاك مزارع المخدرات، وموزعيها، وكأن الكتاب فعلا جاء في شكل بلاغ كبير، يستحق الاهتمام به.
كان هذا غابرييل غارسيا ماركيز، وكانت سيرته استثناء بلا شك ليكتبها بنفسه، وليكتبها شخص آخر أيضا، ولا أظن أن هناك كتابا كثيرين في العالم، سيتهافت أحد على سيرهم، لو كتبوها أو كتبت نيابة عنهم.
لذلك أقول للشخص الذي راسلني يريد سيرتي، إن المشروع من بدايته لا يملك أي حظ في الوقوف على قدميه، وإن أحسست أنني بحاجة لكتابة سيرتي كاملة، بعد شذرات منها صدرت في شكل حكايات، أو نصوص روائية، سأتبلها جيدا قبل أن أخرجها للناس.

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية