لعلّ التفكير السّائد بشأن المرأة الكاتبة، شرقية كانت أم غربية، أنها لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه إلاّ بعد «تضييق» وقهر، وإنْ كانت المعطيات تؤكّد «القمع» الممارس بفعل السلط الاجتماعية والعقائدية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمهمة «التقويض» و»الفضح» اللذين تمارسهما الرواية، باعتبارها لسان الواقع، بكل تجلياته وخفاياه، وبذلك فالمرأة بتعبير الناقدة آنيس بارت نقلا عن سيناء أبي شرار «لا تمتلك الاستقلالية في الحياة العادية، وكذلك في عالم الكتابة، إذْ يُملى عليها ما يجب أن تكتب وما يجب أن لا تكتب.
إنّ تجربة المرأة الروائية تجربة خاصة بها، بينما تجربة الرجل تجربة للجميع.. لكن يبقى هذا الرأي قابلا للنقاش، على اعتبار وجود تجارب روائية نسوية «متمردة» كسّرت حاجز الارتهان، وأوصلت رسائلها بصوت عال، في مجتمعات كانت إلى وقت قريب من أشد المجتمعات العربية تحفظا، كالمجتمع السعودي مثلا. كثيرا ما يتمّ النظر في مجتمعنا العربي للمرأة «المتمردة» على أنها فاقدة للأنوثة. وتمثل هذا الاتجاه بامتياز الروائية المصرية نوال السعداوي، فالمرأة الكاتبة وُصفت بالقبيحة، على رأي توفيق الحكيم، لأنّ العقل يشوه جمال المرأة، والكتابة قمة العقل.
وتذهب مبدعات عربيات إلى أكثر من ذلك إذ يرين أن إطلاق تسمية «الأدب النسوي – الرواية النسوية – الكتابة النسوية» تخفي وراءها رغبة ذكورية في تهميش المرأة المبدعة، وهو ما تذهب إليه الكاتبة الكردية «فينوس فائق» في قولها: «لا أعتقد أن حصر النتاج النسوي في جبهة واحدة يخدم قضيتها، إن كانت هناك قضية، وإنما يخدم في النهاية مطامع ومحاولات بعض الرجال في إبعاد المرأة المبدعة عن المجالات الإبداعية، تلك المجالات التي من غير الممكن أن أظهر فيها بثوب المبدعة، إن لم أقف أمام الرجل وعلى نفس الأرض، وفي نفس حلبة المنافسة، وإلا فإني أضمن الخسارة لي والانتصار له.. لماذا أفسح المجال لأن يُسمي الرجل كل شيء باسمه».
وهي تعتبر أن تسمية «الأدب النسوي» محاولة من قبل الرجل، الهدف منها تهميش إبداع المرأة. وهو ما تذهب إليه مبدعات أخريات، ظنا منهنّ أن هذا التقسيم قسري، غرضه إخراج الأدب النسوي من الأدب الرسمي، أو بعبارة أخرى محاولة «مدروسة» من الرجل لقلب الطاولة على حضور المرأة الإبداعي، وإدخاله في عالم الأدب المنزلي، الذي يُشرف عليه الرجل. لكن هذا لا يمنع من احتفاء الرجل أو المجتمع بنص أدبي جديد تكتبه امرأة، كونه يشكل ظاهرة، وإن كان على حساب القيمة الفنية والإبداعية لهذا النص.
ولعلّ هذا الموقف الراسخ في ذهنية المرأة المبدعة تجاه الرّجل يجعل من الصعب تخلّصها من هذه الخلفية، رغم أنّ الظروف اختلفت، والوسائل تطورت، غير أنّها، رغم ذلك، لم تتخلّص من عقدتها السوسيو-نفسية، التي جعلت منها كيانا منقسما إلى نصفين، نصف إبداعي، والنّصف الآخر بيولوجي يحرّكه شعور الأمومة، الذي يفرض عليها التفكير ضمن الأطر الاجتماعية، التي لا تهرب منها إلاّ لتعود إليها، فلم يعوِّدها المجتمع، كما تقول نوال السعداوي، على التميز إلا في مجال الجمال الجسدي. هذا هو المجال الأساسي، الذي أعطى للنساء حق التنافس فيه، والتميز من أجل إرضاء الرجل.
ومع ذلك، فلا يمكن إنكار نجاح كاتبات عربيات في التوفيق بين النّقيضين، واستطعن تشكيل «كوكتال» «سيوسيو-أرتستي» بل وتشكيل ثنائيات تصنع الاستثناء الجميل، مثل «خالدة سعيد/أدونيس» «واسيني الأعرج/زينب الأعوج» و»أمين زاوي/ربيعة جلطي». لكن أغلب «الزيجات الإبداعية» تتكسّر بفعل عامل الغيرة، كما يذهب إلى ذلك شوقي بزيع. والأمر لا يقتصر على الكاتبات العربيات، فهناك ثنائيات غربية لم يُكتب لها النّجاح، باستثناء الفرنسيين «إلسا تريوليه/ أراغون». إذ يخبرنا شوقي بزيع أنهما أصدرا الأعمال السردية المشتركة، وقد كتبت إلسا تقديمًا لها لتكون الكتابة تكليلا لعلاقة الحب الأسمى، الذي جمعهما لعقود.
إنّ التجربة المريرة التي أودعتْ «مي زيادة» مستشفى الأمراض العقلية بالعصفورية، ما زالت تلقي بظلالها على المحمول الفكري والسوسيولوجي للكاتبات العربيات. فقد افتتن بهذه المبدعة كتّابٌ كبارٌ وعلى رأسهم العقاد، وكانت نقطة استقطاب لكثير منهم، بفضل جرأتها وحراكها الثقافي «صالون مي». ومع ذلك لم تجد الدّعم المناسب من كثير منهم، بعد أن انتهى المطاف بالحجر عليها في المستشفى، نتيجة نزاع مفتعل من قبل «ذكَرٍ» آخر، ادعى قرابتها، للاستيلاء على أموالها..
إنّ المعطيات الحالية تؤكد بالأرقام أنّ حضور المرأة العربية الكاتبة صار مشهودا بفعل تلاشى «صنمية» هذه الفكرة، التي عشّشت وما تزال آثارها في وجدان المرأة الشرقية، كما هو الأمر بالنسبة للرجل الشرقي، حبيس ذكوريته. فقد أخذت المرأة المبادرة فعلا، وأصبحت منافسا قويا للرجل، وهو ما تبرزه بوضوح نتائج جائزة «كتارا» للرواية العربية، وجائزة الطيب صالح العالمية للرواية. فعلى مدى دورات عديدة سجّلت الروائية العربية حضورها اللاّفت، ممثلة، بالنسبة لكتارا، في الروائيات (منيرة سوار، ناصرة السعدون، ميسلون هادي، إيمان حميدان، سميحة خريس، نجاة حسين عبد الصمد، هيا صالح عودة إبراهيم، ثورة حوامدة، ثائرة غازي قاسم حسين، ليلى الأطرش، عائشة عمور، منى الشيمي، وفاء علوش..). وعلى امتداد دوراتها الخمس الأولى (2015/2019) فازت 13 روائية عربية.
وبالنسبة لجائزة الطيب صالح، فقد فازت بها (هاجر قويدري، توفيقة خضور، رامية عايد إسماعيل، ملكة الفضل عمر، دعاء جمال فهيم) وما تزال القائمات مفتوحة، والأمر نفسه ينطبق على جائزة البوكر، فلم تخل قائمتها القصيرة للموسم 2019 منهنّ، إذ سجّلتْ أربع روائيات حضورهنّ مقابل روائييْن اثنين، أيْ ضعفيْ حضور الرجل، وهنّ (شهلا العجيلي، كفى الزعبي، إنعام كجه جي، والفائزة هدى بركات). واللاّفت أنه على امتداد دورات الجائزة الاثنتيْ عشرة لم يغب تمثيل المرأة في القائمة القصيرة إلا عن الدورة الخامسة (2012). وحطمت الروائية العراقية إنعام كجه جي الرقم القياسي بدخولها القائمة القصيرة ثلاث مرات (2009، 2014، 2019.(
إنّ القراءة الدقيقة لهذه المعطيات تؤكّد بجلاء «ثورة» الكتابة النسوية، وكسرها عصا الطاعة و»الهيمنة» الذكورية، التي كانت وستبقى هاجسا يؤرق الأنثى الكاتبة، حتى وإنْ تلاشت أسباب هذا الشعور، حتى وإن كانت هذه النسب المسجّلة لا تعبّر عن زخم السّرد المنجز، خصوصا مع بداية الألفية الثالثة. ويكفي التّأكيد على أنّ تمثّل «الطابوهات» لم يعدْ حاجزا «يمرغها» أو يضعها في عداد «المهدور دمها» أو من «المحرم» عليهنّ «دخول الجنّة» كما في السابق.
كاتب جزائري