المنهج السيميائي الذي يعنى بدراسة أنساق العلامات أو الرموز فرض حضوره في مجال الدراسات النقدية الحديثة، ويعد من بين أهم المناهج النقدية التي تعتبر العلامات وأنساقها موضوعها الرئيس، وأهمية المنهج تأتي من كونه يحمل طابعا إجرائيا في التعامل النقدي مع النصوص. ومفاهيم السيميائيات السردية انتشرت اعتمادا على كثير من الدراسات التي أولت اهتماما كبيرا للجانب النظري والتطبيقي على حد سواء من خلال تحليلات تستثمر هذه المفاهيم.
تأطير المفهوم
السيميولوجيا حسب ما عرّفها دي سوسير: ”عِلمٌ يدرس الإشارات أو العلامات داخل الحياة الاجتماعية”. وتشير عديد الدراسات إلى أن السيمياء لم تصبح عِلما قائما بذاته إلاّ نتيجة لجهود فرديناد دي سوسير والعالم الأمريكي تشارلز سندرس بيرس، ومن وجهة نظر بيرس فإن السيميولوجيا أو علم الإشارات، يضم جميع العلوم الإنسانية والطبيعية، وبهذا الخصوص يقول ”ليس باستطاعتي أن أدرس أي شيء في هذا الكون كالرياضيات والأخلاق وعلم النفس وعلم الصوتيات وعلم الاقتصاد، إلا باعتباره نظاما سيميولوجيا” وعلم العلامات أو السيميولوجا يرصد العلامات المختلفة، ويصب اهتمامه بتصنيفها، وبيان دلالتها وكشف القوانين التي تحكمها، سواء كانت العلامة لسانية أو غير لسانية. وقد وجد المنهج السيميائي تطبيقات لأدوات اشتغاله في حقول نقدية متنوعة من بينها: الفن والشعر والسَّرد. ويعد ألغيرداس جوليان غريماس أبرز الأسماء التي وظفت السيمائية في حقل السرد، وجهوده الكبيرة في هذا الميدان جعلته يقف على رأس مدرسة باريس التي تضم أسماء مثل جوزيف كورتيس وجان كلود كوكي وآخرين.
حول الإصدار
الأكاديمي والمترجم د. عبد المجيد نوسي قدم لنا كتابا جمع فيه عددا من النصوص المتفرقة التي تعود لغريماس، صدر عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء/المغرب 2018 وحمل عنوان “سيميائيات السرد” وقد تولى ترجمة كل ما جاء فيه من حوارات ونصوص تنظيرية وتطبيقية، وجدها قد استوفت في مسألة انتقائها تقديم رؤية شاملة عن جوهر البنية الفكرية لغريماس في ميدان بحثه المتعلق بسيميائيات السرد، هذا إضافة إلى أنه كتب مقدمة مطوّلة سيكون من السهل على القارئ من خلالها ان يُمسك بمفاتيح دراسات غريماس، فيشير فيها إلى ان سيميائيات غريماس انتشرت بفضل كثير من الدراسات التي عملت على بسط المفاهيم وتقديمها والتعريف بها في سياق إنجاز دراسات تطبيقية وتحليلية.
ولأجل أن تكتمل الصورة أمام القارئ قدَّم توضيحا يتعلق بالهدف من هذا الإصدار مؤكدا فيه أنه أراد من خلاله تقديم سيميائيات السرد في مشروع غريماس وذلك عبر ترجمة النصوص التي تتسم بالتمثيلية، والأهم في هذا الجهد، تقديم تصور شمولي للنظرية يقف عند الاصول المعرفية التي غذتها، كما يقف عند الأسس النظرية التي يمثلها الجهاز المفاهيمي الذي صاغته السيميائيات من خلال نماذجها، إلى جانب ذلك يقدم نصوصا نظريا ودراسات تحليلية تبرز مدى إجرائية هذه المفاهيم في علاقتها بالخطابات التي تناولتها. ثم يعيد تأكيده مرة أخرى بأن اختيار النصوص لم يكن يرمي منها إلى تقديم نصوص ترسم تطور النظرية بصيغة أفقية وحسب، ولكن الاختيار ارتكز على تقديمها في بعدها الدينامي، أي في تطورها من الاقتراحات الرئيسية الأولى التي صاغها أ. ج.غريماس في علم الدلالة البنيوي إلى الاقتراحات التي غطت مستويات المسار التوليدي في جانب التركيب السردي والتركيب الخطابي، وخاصة في كتابه الموسوم “في المعنى”. وحتى في ما يتعلق باختيار الدراسات التحليلية فقد كانت هذه الرؤية هي التي وجهته في عملية اختيارها، فقد تعددت ما بين الدراسات التي تناولت الحكاية الشعبية إلى النص السردي المتمثل في القصة القصيرة إلى مظهر خطابي من مظاهر الخطابات الاستهوائية.
ضم الباب الأول من الكتاب نصّين، اتخذا شكل حوار اجري مع غريماس، الأول انصب على البنيات الأولية للدلالة، وفيه يعبر غريماس عن اعتقاده بأن التفكير حول البنيات الأولية للدلالة قد نتج عن التقاء نوعين من الانشغالات يبدوَان متناقضين، الأول: يتمثل في الجهد للحفاظ ما يعده أساسيا في الإرث السوسيري ويقصد بذلك المفهوم التأسيسي الذي هو البنية، وانَّ مستوى الدلائل يتحدد بالنسبة له، أولاَ بصفته مستوى للظاهر اللغوي، ويشير إلى أنه يخبرنا بالصيغة التي تتمظهر لنا بها الأنساق السيميوطيقية وليس بصيغ وجودها وتنظيمها، وإذا كانت الكلمات/الدلائل تعد خالية من المعنى وان علائقها الاختلافية وحدها تعد دالة، حسب سوسير، يجب القبول بأن السيميوطيقي يتموضع بين الدلائل، وبأنه مفترض وسابق على الدلائل. ومن هنا يرى البنية إذا ما تم تحديدها بصفتها شبكة من العلائق المحايثة للتمظهر، تصبح الفضاء الوحيد الذي يتحدد داخله التفكير حول شروط انبثاق الدلالة، كما أن غريماس لا يعتبر البنية مفهوما ابستمولوجيا يحقق امكانية معرفة العالم الدال وحسب، ولكنها مفهوم إجرائي يشترط ضرورة التماس بالنسبة إلى كل موضوع سيميوطيقي، شبكة علائقية تكون محايثة له. بذلك تحل البنية الأولية محل (أو تتطابق) مفهوم المقولة مع تجنيب السيميوطيقا العودة إلى الذرية.
أمّا نص الحوار الثاني فكان غريماس فيه موضع سؤال من قبل مجموعة من السيميائيين حول الاصول المعرفية، وتجلياتها على المستوى النموذج النظري، وصيغة ادماجها في الجسد العام للنظرية. وتعد هذه النقطة المتعلقة بالاصول المعرفية للسيميائيات السردية أساسية بالنسبة إلى هذه المدرسة من وجهة نظر المترجم الذي كتب مقدمة طويلة وهي مهمة كما يرى لأن قراءة إبدالات علمية متعددة هي التي أفضت إلى بناء النموذج النظري في تمفصلاته العامة ويرجع ذلك إلى تجاوز صعوبة مزدوجة تتمثل بالنقطتين الآتيتين: قدرة السيميائيات السردية على التركيب بين ابدلات علمية مختلفة وعلى خلق التجانس بينها. وثانيا القدرة على إيجاد مركز منظم داخل هذا الحقل من المفاهيم التي تتعدد وتتشعب على طول مراحل تشكل النظرية.
كما ارتكزت الاستفسارات في نص الحوار الثاني على نقطة التجذير التي سمحت بانطلاق التفكير السيميوطيقي. أنها تَهُمُّ التأثيرات النظرية والابستمولوجية التي تعرض لها غريماس. فيشير في معرض رده بأن كثيرا من الدراسات وجدها تبحث عن علاقة نسب تجمعه ببعض الحقول الفلسفية مثل الماركسية والهيغلية، انطلاقا من مفاهيم علاقات الاختلاف أو التضاد التي تسم النموذج التكويني، غير أن جوهر السؤال حسب غريماس هو مساءلة غريماس اللساني. ويتحقق هذا المظهر أولا خاصة من خلال تكوينه الفيلولوجي: هذا العنصر الذي جعله يقدّر النص والمرجع. كما جعله منهجيا، ويعتبر ان الخطوة السابقة على التحليل السيميائي هي التحضير الفيلولوجي للنص. ورغم أن المحلل يبتعد أثناء الوصف عن النص، فإن النص يظل العلاقة الوحيدة التي تربطه بالواقع.
اطروحة الدكتوراه ومعجم الموضة
أما عن العنصر الثاني في تكوين مشروعه السيميائي فيؤكد على أنه اطروحة الدكتوراه، رغم انه يصفه بعمل أنجز خلال المرحلة الرومانسية من مسار البحث، ويدرجه في سياق تكوين اللسانيين، ويتعلق الأمر بعمله في علم المعجم من خلال البحث الذي انصب على معجم الموضة. ويضيف غريماس بأن أهم نتيجة استشعرها من خلال هذا العمل هي ان علم المعجم لا يفضي إلى التحليل ولا يسمح بالبَنيَنَة. وعلى العكس من ذلك، تبين له حسب قوله من خلال التجربة هذه أن ما يحدث تحت الدلائل يعد من الأهَم، وان التحليل يقتضي تجاوز ظاهر الدلائل للنظر إلى ما يحدث تحت الدلائل.
وفي ما يتعلق بالفكر اللِّساني، فقد اعتبر اكتشاف فردناند دي سوسير ورومان ياكبسون، ولويس يامسليف أهم نقطة تجذير للسيميائيات، وقراءة أعمالهم كانت بالنسبة له حاسمة وتجلت في بناء المستويات الأساسية في النموذج الذي تنهض عليه النظرية.
ويؤكد المترجم د. نوسي في مقدمته على ان نصي الحوار الذي أجري مع غريماس قد مكَّنا من غضاءة عنصر هام بالنسبة إلى هذه السيميائيات وهو عنصر الاصول المعرفية، لأن إضاءتها تسهم في ابراز منهجية السيميائيات في البناء المفهومي، فهي تستند إلى إجرائيات الافتراض والاستنباط، استنباط المفاهيم النظرية في ضوء قراءة النماذج في عدد من الحقول المفهومية مثل قراءة فلاديمير بروب أو فيكو براندال أو فرناندو دي سوسير، كما انها تعبِّر عن البعد الابستمولوجي الذي تنهض عليه، ذلك ان قراءة وتبني عدد من المفاهيم تكون مواكبة أيضا بنقد المفاهيم، ويمثل هذا المظهر نقد مفهوم الدليل عند دي سوسير .
الأسس النظرية
أما في الباب الثاني فقدم المترجم دراسات تمثيلية شيدت الأسس النظرية لسيميائيات السرد، حيث قدم مبادئ النحو السردي متناولا السردية والنظرية السيميوطيقية، بدأها برؤية تاريخية، مشيرا إلى أن الاهتمام المتزايد بقوة بالدراسات حول السردية يؤكد على ضرورة أن يوضع بالتوازي مع مطامح ومشاريع سيميوطيقا عامة وهي مطامح ومشاريع تتحدد شيئا فشيئا كل يوم. ويضيف بأن نتائج الأبحاث المستقلة لكل من: فلاديمير بروب حول الفولكلور، وكلود ليفي ستروس حول بنية الأسطورة، وإتيان سوريو حول المسرح، سمحت بوجود مجال دراسات مستقل. وهناك تعميقات ميثودولوجية جديدة جاءت عبر أبحاث كلود بريمون لأنها أولت السرد صياغة منطق للقرارات أو لأعمال الان ديندس التي رمَت إلى إعطاء تنظيم المحكي شكل نحو سردي-على تنويع المقاربات النظرية.
تمثيلات تطبيقية
الفصل الثاني من الباب الثاني عنونه بالخطاطة السردية، وفيه يلاحظ غريماس أن جذور التفكير حول التنظيم السردي للخطابات يجدها في التحليلات التي أنجزها فلاديمير بروب حول متن من الحكايات الروسية العجيبة. ومن جهة أخرى تبيَّن لغريماس أن المحكي البروبي (نسبة إلى بروب) يمتلك تمفصلا فضائيا قويا، وأن الفضاءات المختلفة توافق أشكالا سردية مختلفة، والفضاء الذي تُنجز داخله الاختبارات، مثلا، ليس هو الفضاء نفسه الذي يتأسس داخله العَقد، ويتم فيه الحكم عليه، أما بالنسبة إلى العوامل فإنها تنسج علائق خاصة مع الفضاءات التي تنبثق منها (العامل-الذات، مثلا، لا يمكن ان يتحقق سوى داخل فضاء بؤري ومتسم بالوحدة). ثم تناول بعدها العوامل والفواعل والصور في التركيب السردي، فالعامل-الذات لدى غريماس يمكن أن يُنجِز في إطار برنامج سردي معيّن عددا من الأدوار العاملية، وهذه الأدوار تُعد مُحدِّدَا في الآن نفسه بموقع العامل في التسلسل المنطقي للسرد (تحديده التركيبي) وباستثمار (تحديده المورفولجي) وهو ما يجعل التقعيد النحوي للسردية ممكنا.
أما عن بنية الفواعل حتى تكون حاضرة داخل الخطاب السردي فإن البنية العاملية يجدها تحتاج إلى وساطة نمذَجة الأدوار العاملية المحدِّدة في الوقت نفسه، بشحنتها الجهيّة وبمواقعها المركبيّة على التوالي، ويمكن لوحدها ان تعطي بُعدا ديناميا للخطاب في كليته. ذلك أنه لاحقا فقط يمكن أن تنطلق سيرورة تفضي إلى تراكب بنيتين، بنية عاملية وبنية للفواعل، كما تؤدي إلى تمفصل العوامل داخل الفواعل. وفي ما يتعلق بالباب الثالث من الكتاب فقد جاء استكمالا للدراسات السيميائية التطبيقية التي أجراها غريماس على مجموعة من الحكايات الشعبية.
ترجمة وتقديم د. عبد المجيد نوسي: “سيميائيات السرد”
المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، الرباط 2018
270 صفحة.