عرف المنخّل اليشكري وهو شاعر عربي جاهلي الأفذاذ برائيته التي اختارها له الأصمعي في مختاراته. وليست قيمة الرائية في ذاتها، بل في ما نسج حولها من أخبار أهمّها أنّه قالها في المتجرّدة زوجة النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وتزعم الأخبار أن المنخّل لقي مصرعه من أجلها، في حكاية من حكايات الخيانة الزوجية التي يذهب فيها الشعراء بما هم عشاق خارج النواميس.
ما يعنينا في هذا السياق، أن النصّ الشعري يتعامل مع النصّ الخبري لا في الفهم أو في الإنتاج، بل في ضرب من الإحالات البينية التي تساهم في صناعة معنى ثيمة من ثيمات الشعر، كالجمال وفي تحميله بالدلالات الحافة. فالجمال مثلما سنرى يصبح علامة تفكّ شيفرتها بالإحالة على سياق سردي فيه قصة عاشقين تنتهي بشكل ما من أشكال المأساة.
بداية من البيت الثالث عشر (في نصّ الأصمعيّات) يبدأ السرد الآثم الذي هو جوهر العلاقات العشقية، التي تنتهي بالموت بقول المنخّل متحدّثا عن هتكه الستر بدخول لصوصي إلى خدر المعشوقة: (ولقد دخلتُ على الفتا/ةِ الخدر في اليوم المطير) هذا البيت مؤسس لسرد شعري خيالي يمكن أن يؤتيه الشاعر في ملاحمه الغزلية، دون أن يثير الانتباه، إن لم يكن هناك مرجع سردي في نصّ خبري يعضده. تقول الأخبار إن المنخّل كان فائق الجمال فتستعمل هذه المعلومة مفتاحا من مفاتيح السرد الشعري، تضاف إليه هويّة كانت ضبابية لمن هتك خدرها فأكسبها السرد في الأخبار دقة حين سمّاها وقال إنّها المتجرّدة، وكانت حسب الأخبار فائقة الجمال على النقيض من زوجها. تشاء الأخبار أن تجمع في المغامرة الغرامية بين جميلين على وجه ما من وجوه الاجتماع، التي لن يكون مآلها غير الموت. لا شيء يوحي في البيت أعلاه بالجمال غير عبارة (فتاة) التي لا يمكن أن تقرأ في هذا السياق من النصّ الشعري خارج دائرة الحكاية المحبوكة مسبقا أي خارج دائرة من الجمال الباهر والمخدومية والرفعة، حتى تصبح الفتاة وسما مليئا بالإحالات، التي يأتي جزء كبير منها من الأخبار. الفتوة لدى الشباب عمليّة آنية، أو قيمية مورثة، لكنّها في الأنثى مرئية على سطح الوجه متحركة بحركة الجسد لا تحتاج تاريخا لإبرازها، لكنّ الشرف الذي يرتبط بها هو شيء من ضمنيات الجمال.
لكن ماذا لو كان الفتى جميلا أيضا، وليست فتوّته كفتوة طرفة أو عنترة. يبدو أن بين طرفة بن العبد والمنخّل قواسم مشتركة، ربما صنعتها الأخبار، فهما متعاصران، إذ عاش كلاهما في القرن الميلادي السادس، ومات كلاهما بتدبير من ملوك الحيرة، باختلاف الأسباب والحكايات، لكنّ الجمال كان السبب المركزي في مقتل المنخّل بعضادة من الأخبار. في الرائية يتدرّج بناء الجمال تدرّجا لا يفهم خارج سياقات سيميائية فهي كاعب حسناء ترفل في الدمقس والحرير. لوصف الجمال في هذا السياق مفاتيح سيميائية تبدأ من علامات جسدية أو مرتبطة بالجسد. مركز الانطلاق هو ما يرى ويسمع. العين ترى النهد وقد ارتفع وأشرف حتى إنّه لا يمكن أن يكون شيئا خافيا عن عين تتصيّد مكامن الجمال المرئي، وتحبك ذهنها خيوط المغامرة. سيميائية الجمال الجسدي التي تبنى سردا ليس في أن تترجم المرئيّ إلى علامة: أن تقول لنا بواسطة «كاعب» ما يقوله الجسد لطالبه، بل تكمن سيميائية الجمال الجسدي أيضا في كيفية اصطياد ذلك الجميل. فإن يقول إنّها كاعب فذلك يعني أن الرائي صنع ما يعرف باسم الصيد الإجمالي للمشهد الجميل، وهو صيد للمنظر الجسدي العام يختزله في أبرز عناصره.
ذلك أن العين تترك الجسد يتحرّر قليلا لتعيد اصطياده من جديد، بأن تأخذه أخذة واحدة من ركن ما من أركان ما يعدّه الرائي جميلا. عين كهذه «ترمي» و»لا تصمي» أي لا تترك فريستها تفرّ منها، بل لا تترك لها إمكانا لذلك الفرار. يريد الرائي أن يذهب في رحلة من القنص لا تقع إلاّ على الجميل المميز، لذلك تترك عينه النهد تلقي نظرة لا على الجسد بما هو مادة خام ونحت من رخام؛ بل يسدل البصر ستاره على كسائه الرفيع، الذي هو من أغلى الأنسجة المطرزة بالزخارف، قطنا وحريرا في عصور يندر أن يكسى جسم بهما دون أن يكون مضيفا شيئا من الجمال على جسد من المفترض أن يكون في أصله جميلا. هنا يتسرب السردي الذي في الخبر عن المتجرّدة إلى السردي الذي في النصّ الشعري الذي يحدّثك عن مكسوّة يراد لها أن تتجرّد.
هذه الرؤية تقتضي بدورها تصريفا سيميائيا لما يرى فيها يكون اللباس وما نسج منه والأشكال التي عليه أمارات على الجمال. يريد الشاعر أن يقول بلغة عصرنا إن اللباس فاخر وهو من أغلى الماركات العالمية ولذلك هو مستورد.
ما أيسر اللغة في عصرنا، لأنّها مباشرة لكنّها كانت عسيرة ثمينة في عصر هذا الرائي الواصف، تتطلب ثقافة تعرف الحرير والدمقس وتميزهما تمييزا لا بالنظر وحسب، بل باللمس أيضا.
ما أيسر اللغة في عصرنا، لأنّها مباشرة لكنّها كانت عسيرة ثمينة في عصر هذا الرائي الواصف، تتطلب ثقافة تعرف الحرير والدمقس وتميزهما تمييزا لا بالنظر وحسب، بل باللمس أيضا. الحرير اسم مدلوله يدرك بالملمس أكثر ممّا يدرك بالمنظر، وكذا القطن في اليوم المطير. الجهل بالحرير إدراكا هو ضرب من الفقر الذي يفوق درجات أكبر من الحصول عليه. كثيرون إلى اليوم لا يعرفون الحرير في عصر يسهل الظفر برؤيته لكن يعسر ملمسه.
جمالية الحركة نجدها في بيت موال: (فدفعتها فتدافعت/مشي القطاة إلى الغدير) ولثمتها فتنفست/ كتنفس الظبي البهير). يمكن أن ندخل إلى جمالية الوصف من التشبيه الذي يصوّر لنا بدويّا كاد يقنعنا بحضريّته، وبما وصفه من دمقس وحرير. القطاة يمامة صحراوية تضع عشها على الأرض، فهي طائر وسائر في آن؛ قرب المأخذ والمنال هو الذي يشدّ إلى هذا الطائر.
وأن يمشي اليمام إلى الماء ففي ذلك المشهد جمالية بدوية أخرى، لا تركز على المشية بل على النفس الماشية وهي لن تردّ خائبة عطشى، إذ هي تهفو إلى ماء قريب إليه تسرع خطوها حتى لكأنها تمزج المشي بالطير، في سرعة لا يعرفها إلاّ العطشان الواثق من حصولها على الماء، ثقة من يكون الماء قريبا منه كأنّه بين منقاره. الحركة البدوية في المستوى البشري فيها جمالية عنيفة (دفعت) ومجاراة في ردّ الفعل أو التظاهر به (تدافعت) كان من الممكن أن تكون الحركة الغزلية جاذبة لكنها كانت نابذة ولا يمكن فهم جمالية هذه الحركة النابذة إلا سيميائيّا في سياقها الثقافي وفي زاوية نظر معلومة من المداعبة وطلب الأنثى وفق جمالية يعتقدها الرجل كذلك. جمالية النبذ هي جمالية مزدوجة سيميائيا، بمعنى أن الحركة فيها لا تعبر عن حركة النفس؛ فحركة النفس في الغزل واللقاء هي حركة جاذبة أو اتحادية، لكنّها في هذا السياق حركة دافعة، فهي عكس حركة الإرادة الباطنة، لكنّها حركة تقود إليها عبر إذكائها: أنا أريدك فتعالَ، تعبر عن جمالية بينما أنا أريدك فابتعد عني فسرديّة لها جمالية أخرى.
أنا أريدك أن تذهب ظامئا أكثر إلى عين الماء، فهذا يعني أن للعطش دورا في عذوبة المشرب. جمالية الثقافة الصحراوية هي جمالية من يكون صاديا ويطول به الصدى، حتى ينال به كريم المشرب. هذا المعنى يمكن أن يدرك في صورة الظبي البهير: ظبي منقطع النفس من الجري، أمنية النفس أن تطارد ظبيا في آخر مراحل مطاردته. جمالية المطاردة هي جمالية لا تنفي عن نفسها خلفية ثقافية إدراكية يكون فيها المطارد في أوج فتوته فاعلا، ويكون فيها المطارَد على قاب قوسين أو أدنى من الانهيار عطشا أو تعبا. جمالية الحركة هي في هذا الضرب من الغزل جمالية مقصودة، لا تعكس فقط جمال المرأة بل جمال الرائي وكيف يراها.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية.