الانتخابات الأمريكية تدخل مرحلتها الأخيرة، ومعها تتكشف مسارات تحمل مخاطر حقيقية للمجتمع الأمريكي وللعالم أيضا.. ذلك أن سيناريوهات متعددة ترتبط بإعلان النتيجة، وفقا لما نراه اليوم من عدوانية سافرة يتبادلها المرشحان، ومعهما الماكنة الانتخابية لكل منهما، ناهيك من التعبير المباشر للرئيس ترامب، بأنه المنتصر في الانتخابات، فالإصرار العجيب الذي يبديه ترامب بانه هو من سيفوز في الانتخابات تكمن دلالاته في تهيئة ناخبيه لعدم قبول النتيجة بفشله، لأن ذلك سيؤدي إلى فقدانهم كثيرا من المصالح العامة وعدم الاستقرار، وما يرتبط به من انتشار الفوضى والعنف.
ومن ثم فالتصور الأول أن ترامب قد لا يقتنع بفشله، ونجاح خصمه حال فوزه بالانتخابات، من هنا سيكون تبرير ذلك بالتزوير، أو تدخلات خارجية (الصين وروسيا) أو تحريض عنصري من جماعات معينة ضد ترامب. وإذا ما ذهبت النتيجة للمحكمة من أجل البت فيها، خاصة إذا كان الفارق في الأصوات قليلا، فإن أسبوعا إلى أسبوعين من الفراغ قبل الإعلان النهائي، ممكن استخدمه لإثارة شغب من أطراف عدة، خاصة أن هناك عوامل موضوعية من شأنها تعميم الفوضى في أكثر من ولاية أمريكية.
لكن الحملة الانتخابية ذاتها تتضمن أوراقا انتخابية قوية، يتم استخدامها بابتزاز من كلا المرشحين، ونقصد بذلك جائحة كورونا ومخاطرها الكبيرة، حيث كان الرئيس ترامب يعلم مسبقا عبر دوائر صحية بانتشار المرض، ومع ذلك ذهب للتقليل منه، وعدم اتخاذ الإجراءات السريعة، أي أن ترامب كذب على الشعب الأمريكي، وهذه نقطة مهمة في معارضته انتخابيا، ترامب الرئيس الأكثر عداء للصحافة، ودخل معها في نزاعات معلنة، وتلقى نقدا منها طوال فترة حكمه حتى اليوم، إضافة إلى استقالة مساعديه وفقا لصراعاتهم معه، وعدم تحملهم أسلوبه المستفز، وذهب هؤلاء جميعا لفضحه إعلاميا، أو من خلال كتب تضمنت وقائع مهمة، وتنزل تباعا إلى الأسواق في هذا الشهر الحاسم للانتخابات. السؤال كيف ينظر المراقبون من تخصصات شتى لأسلوب تعامل الرئيس ترامب مع السياسة الخارجية الأمريكية، بعد ما يقرب من أربع سنوات، وما رافقها من مشكلات مع مساعديه، ومع الصحافة، ومع حلفائه في أوروبا وحلف الناتو، بل مع أصدقاء أمريكا في الشرق الأوسط، وقد دأب على فضحهم، من حيث حاجتهم إلى الدعم الأمريكي مقابل الدفع المالي، وفقا لذلك تصاعد الخطاب المعارض لأمريكا، وقلّ اصدقاؤها، بل صاروا في موقف أضعف وفقا للسياسة التي اعتمدها ترامب، الذي جاء في سياق نظام سياسي متكامل، وإن كانت فيه بعض المشكلات، وعليه ملاحظات لكنه اليوم في أسوأ حالاته، وتشوهت صورة أمريكا عالميا، بل في الداخل وفقا لتصاعد حالات التمييز العنصري، وما رافقها من احتجاجات غاضبة.
الانتخابات الرئاسية الحالية ليست شأنا أمريكيا داخليا، بل هي شأن عالمي لما لأمريكا من تأثير سياسي واقتصادي وعسكري
تعهد بايدن برفض نهج ترامب إذا تم انتخابه، واعتماد التعاون الدولي، وتحسين صورة أمريكا خارجيا، بل استعادة القيادة الأمريكية العالمية، وهذا أمر حيوي لأمريكا ولا تراجع عنه، فالمصالح الكبيرة لأمريكا ترتبط بحضورها إقليميا ودوليا، ولا تستطيع الانعزال عن العالم الذي شاركت في صناعته، وتنفرد حاليا بقيادته ولو إلى حين، ومن ثم فالمنافسة بين أمريكا وآخرين، اقتصاديا وسياسيا، أمر طبيعي إضافة إلى أن التعاون متعدد الأطراف أمر لا مفر منه. مع العلم أن خصوم ترامب في الحزب الديمقراطي، لم تكن علاقاتهم الدولية والإقليمية نزيهة، بل ضمن مشروعات استهدفت زعزعة استقرار بعض المناطق، ومنها الشرق الأوسط باستغلال الانتفاضات الشعبية 2011 والتنسيق مع قوى تقليدية، بدلا عن دعم القوى المدنية الديمقراطية، ناهيك من ملفات «القاعدة» و»داعش» وغير ذلك. الداخل الأمريكي مُرتكَز بالغ الأهمية في اللعبة الانتخابية، من زوايا الاقتصاد والهجرة وكورونا والأمن، إضافة إلى ورقة التمييز العنصري، وهي ورقة جد خطيرة، كما تبلورت عمليا من خلال الاحتجاجات ضد العنصرية، التي اندلعت بعد مقتل جورج فلويد وغيره من الأمريكيين السود، وهي لا تمثل قضية ذات أهمية لجماعة سكانية محددة، بل أصبحت قضية وطنية تندرج ضمن الاهتمام بمنظومة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وما تثيره من أسئلة مشروعة حول دور الإدارة الأمريكية تجاه حقوق المواطن من أصول افريقية ولاتينية وغيرهم.. وهو أمر كان دائمًا يشكل هاجسا للغالبية من السكان، انطلاقا من أن أمريكا أمة من المهاجرين، أصبح لديهم وعي وإدراك كاملان بممارسات تمييزية لصالح فئة محدودة العدد، تحتكر امتلاك القوى السياسية والاقتصادية. وهذا الأمر يعيد الاعتبار للمشهد السياسي وقياداته، خلال ستينيات القرن الماضي، خاصة دور مارتن لوثر كينغ، ودعوته الصارخة بإنهاء التمييز العنصري لتحقيق الحلم داخل أمريكا لكل مواطن.
في هذا الصدد يمكن القول إن الخطابات المتوترة حول الهوية الوطنية، تزداد خطورة عندما يتم لعبها على خلفية الاستقطاب السياسي، وعدم المساواة الاقتصادية، وضعف أو غياب المشاركة للأقليات في دوائر السلطة التنفيذية، مع العلم أنه يتم بين الحين والآخر تعيين موظف كبير من الأصول الافريقية، ويتبارى كلا الحزبين والمرشحين بذلك، وتجلى أخيرا بترشيح نائبة للمرشح جو بايدن من أصول لاتينية.. كما حاولت الرأسمالية الأمريكية دعم أوباما للرئاسة، لتعكس صورة إيجابية عن النظام والإدارة الأمريكية. أما رؤية المرشحين والحزبين للعالم خارج أمريكا، فلا تعدو رؤية منافع ومصالح، من زاوية واحدة تغيب فيها مصالح الأطراف الأخرى، خاصة الدول الصغيرة.. فمنذ نهاية الحرب الباردة اعتمد معظم صانعي السياسة الأمريكيين مجموعة من الأوهام حول النظام العالمي، ونظروا إلى العالم كما يحلو لهم، وليس كما هو في الواقع. كما أن العلاقات الأمريكية الدولية نتاج تراكم في المصالح والملفات المعلنة والسرية، جاء ترامب من خارج البنية السياسية وبيروقراطيتها، ولا يعمل وفقا لنواظمها أحيانا، فأراد الخروج عن بعض محدداتها، وأراد تغيير بعض تحالفاته، عبّر عنها بأنه يريد إجراء تصحيحات طال انتظارها، زاعما أن سلفه أخطأ فيها، وأضر بمصالح أمريكا، كما رفض داخليا بعضا من الإجراءات لسلفه، تجاه قضية الصحة والهجرة، ولأول مرة تعلن أمريكا منع دخول مواطنين من عشر دول عربية وإسلامية.
مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، ألهم العدد المتزايد من البلدان التي تتبنى المثل الديمقراطية الفخر بالغرب، وآمالًا كبيرة في المستقبل. فتشكل الإجماع بأن التقارب على الديمقراطية الليبرالية، من شأنه أن يؤدي إلى نظام سياسي دولي مستقر. مع ذبول الاتحاد السوفييتي (انتهاء القطبية الثنائية) وانتهاء الحرب الباردة، دعا الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، إلى نظام عالمي جديد، مؤسس على القيم الليبرالية والحكم الديمقراطي والأسواق الحرة. بعد عدة سنوات، صاغت استراتيجية الأمن القومي للرئيس بيل كلينتون لعام 1996 سياسة المشاركة والتوسع الديمقراطي، الذي من شأنه أن يحسن «آفاق الاستقرار السياسي، وحل النزاعات بالوسائل السلمية، والمزيد من الكرامة والأمل لشعوب العالم» كل ذلك لم يحظ بدعم حقيقي من الإدارة الأمريكية في عهد بوش، أو كلينتون، أو أوباما، بل كانت أمريكا في نهجها السابق تحيك المؤامرات لإشعال بؤر نزاع، في أكثر من منطقة، وبدلا من دعم الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، التي رفعت شعار الدولة المدنية توجهت أمريكا نحو جماعات مناهضة للديمقراطية، لترفع مكانتها وتتحالف معها.. وحتى فكرة التقارب مع الصين وروسيا بعد انهيار التحاد السوفييتي، ظل الكارتل العسكري ضاغطا في صناعة سياسات تعزز الأزمات، أكثر مما تفتح آفاق التعاون والسلام، وفق مقولات الليبرالية ومنتدياتها التجارية، التي تشكلت في عصر العولمة، الذي أعلن بوش بداياته، وتم التعبير عنها بالانتصار الكبير للرأسمالية، ونهاية تاريخ الأيديولوجيات الأخرى.
الانتخابات الرئاسية الحالية ليست شأنا أمريكيا داخليا، بل هي شأن عالمي لما لأمريكا من تأثير سياسي واقتصادي وعسكري، ولما لسياساتها من تدخل مباشر وغير مباشر في أكثر من منطقة، وبؤرة نزاع، ومن ثم فالصورة العامة للإدارة الأمريكية المقبلة، تهم الداخل الأمريكي، كما الخارج أيضا.. ومن هنا نفهم تزايد الاهتمام الصيني والروسي والأوروبي، ومعه اهتمامات أخرى من مختلف دول العالم، وفق المدركات والوعي السياسي. صفوة القول نتائج هذه الانتخابات مثيرة للاهتمام داخليا، وما ستفرزه من تحالفات وتغييرات في المواقع السياسية، وفي الخطاب السياسي، أو ما ستؤول اليه من مشاهد احتجاجية، لأسباب متعددة، تؤسس لمسار يتم فيه تعميم الفوضى لبعض الوقت، حتى تتدخل المؤسسات الفيدرالية، وتحكم قبضتها على الشارع السياسي. والاهتمام أيضا له مشروعيته، بما ستؤول إليه السياسة الخارجية لأمريكا، خاصة أن هناك ملفات ساخنة تتعلق بالحرب التجارية مع الصين، واستفزازها من خلال قطع البحرية الأمريكية التي تتواجد بين الحين والآخر في بحر الصين، وعلى حدودها، وكذلك ملف الخلافات المستمرة مع روسيا والاتحاد الأوروبي، ناهيك من الخلافات الأمريكية الأوروبية تجاه الملف الإيراني، وتجاه بؤر النزاع في الشرق الأوسط، بل حتى ما صنعته إدارة ترامب من خلاف مع المؤسسات الدولية مثل، منظمة الصحة العالمية. وأخيرا هل تستطيع أمريكا من خلال الرئيس القادم أن تكون قائدة وزعيمة للعالم، في سياق نظام دولي أحادي القطبية، مع الإقرار بتنافس تعددي، اقتصاديا وسياسيا، هل تستطيع الإدارة الأمريكية أن تقدم صورة ليبرالية منضبطة في سلوكها السياسي تجاه ملفات متعددة، تعمل بها وفق مصالح متبادلة، بدون التدخلات غير المشروعة، وفقا لاستعراض قوتها العسكرية. وهل تستطيع أمريكا أن تخلق الأجواء المناسبة لنظام دولي فيه قدر من التوازن، وإعادة الاعتبار للمنظمات الدولية والمواثيق والمعاهدات المتفق عليها عالميا؟ أم ستكون الكلمة للكارتل الصناعي الرأسمالي، ونزعته المتوحشة تجاه الأرباح، ومن ثم تعزيز بؤر النزاع وتعميم الفوضى في أكثر من دولة وأكثر من منطقة في عموم الكرة الأرضية.
أستاذ يمني بعلم الاجتماع السياسي