سينما مصرية وعربية أخرى… الرقابة الشعبية تُغلظ العقوبة للتأديب

على مدى العقود والعهود لم تتوقف الاشتباكات بين السينما المصرية والمُجتمع، حيث العلاقة بين الطرفين تتسم بالحذر، وعدم الثقة في كثير من الأحيان، فالسينما من جانبها تخشى ردود الأفعال الشعبية والجماهيرية إزاء خروجها عن النسق المألوف، وتجرؤها على طرح قضية ما تمس الثوابت الاجتماعية، أو تتعرض لها بالنقد، وعلى هذا لم يرض المُجتمع عن أداء السينما الرضا الكامل، فالثقة من جانبه محل اختبار وشك وتهديد، وعادة ما يلعب المجتمع المحافظ دور الرقيب القاسي الذي يُمعن النظر والتدقيق في المحتوى الفني والإبداعي، آخذا في المقام الأول بمقاييس الشكل قبل الجوهر، وهو ما يُمثل مُعطيات الأزمة في كل الأحوال.
وقد تلجأ السينما إلى مبدأ التملق الاجتماعي في كثير من الظروف ليس من باب الخوف الرقابي وحسب، وإنما من باب الحرص على بقاء النوع السينمائي وتفادي الضربات الاقتصادية، التي من شأنها تعطيل الصناعة وإضعافها لفترة طويلة أو تشويهها بما يؤثر في فقدان الثقة بالكامل، وهناك حالات كثيرة في هذا الصدد لم تكن أزمة الأخلاق وحدها هي البطل الرئيسي في المعركة، لكن تمثل الممنوعات الثلاثة الموضوعة بين قوسين « الدين والجنس والسياسة « خطوطا حمرا حقيقية، لا تستطيع السينما تجاوزها، حتى إن سمحت بتجاوزها الرقابة القانونية المعروفة بالرقابة على المُصنفات الفنية، وكم من نماذج سينمائية مختلفة كانت سبباً في إشعال الفتنة بين السينما كوسيط والجمهور كمُتلق.
ولنذكر فقط الحالات القريبة الدالة على اضطراب العلاقة بين الطرفين المذكورين، وإن بدت متميزة في قليل جداً من الأوقات، فعلى سبيل المثال فيلم «ناجي العلي» الذي استقبله الجمهور المصري استقبالاً سيئاً للغاية لاختلاف في وجهات النظر السياسية حول شخصية رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، وآرائه السياسية الصادمة، التي لم ترق لأصحاب الحملة الصحافية الشرسة التي دُبرت في ليل، وأدت إلى تهييج الشارع المصري ضد ناجي العلي كشخصية محورية للأحداث، ونور الشريف بطل الحكاية النضالية، علماً بأن الكثيرين ممن تبنوا الموقف الرافض لم يُشاهدوا الفيلم!
كذلك جاء فيلم «سكر بنات» للبنانية نادين لبكي مُترجماً للأزمة بين المُشاهد التقليدي، الذي يقيس العمل الإبداعي من زاويته الشخصية فيقبل منه ما يوافق ثقافته وآراءه ويرفض ما يتعارض معها، وهذا الفيلم آثار ضجة استمرت طويلاً ورفضت بعض الجهات الثقافية في مصر عرضة خوفاً من البلبلة وإثارة الرأي العام.
وبالمقاييس نفسها تم التعامل مع فيلم «دنيا» للمخرجة اللبنانية جوسلين صعب عند عرضه في القاهرة، وكالعادة تعرض الفيلم لهجوم عنيف، احتجاجاً على الرؤية التي حملت نقداً اجتماعياً لبعض السلبيات، فهناك ثمة حساسية لدى جمهور العوام من المصريين تجاه التمويلات الخارجية، حيث يحدث دائماً ربط بين الصورة السينمائية الناقدة أو السلبية، ونية الممول، فالشكوك تحوم حول العملية الإنتاجية وتساور بطبيعة الحال المُتلقي، الذي لا يثق في معظم المًصنفات الوافدة، اللهم إلا إذا برهن صُناعها على سلامة قصدهم في التعبير عن رؤاهم، شريطة أن لا يكون هناك تعارض واضح في وجهات النظر، وهو ما حدث مع فيلم «باب الشمس» على سبيل المثال.
وحول فيلم «الآباء الصغار» للنجم دريد لحام، انقسمت الآراء المصرية نصفين إبان عرضه عرضاً خاصاً في القاهرة، بحضور البطل والبطلة حنان تُرك، التي أتاح لها دريد فرصة ذهبية للوقوف أمامه كنجمة في واحد من أدوارها المُتميزة، ورغم نجاح الفيلم الاجتماعي السياسي الهادئ في رسالته وأحداثه، إلا أنه لم يحظ أيضاً بالتأييد الكامل، وتم التفتيش في ثناياه وتفاصيله.

وفي ما يخص النماذج المصرية ـ المصرية فناً وإبداعاً وإنتاجاً، تعرضت عدة أفلام للمذبحة الجماهيرية، وكاد أبطالها يفقدون شعبيتهم تماماً، ومن أبرز الحالات الشهيرة التي صدرت ضدها أحكام قاسية من جانب الجمهور، وبعض المُتخصصين فيلم «درب الهوى» وفيلم «خمسة باب» و»شوارع من نار» و»سوق المُتعة» و»أبو الدهب» و»للحب قصة أخيرة» و»هي فوضى» ليوسف شاهين و»حين ميسرة» لخالد يوسف و»احكي يا شهرزاد» والأخير بالتحديد قامت ببطولته منى زكي، حيث جسدت فيه دور مُذيعة تستهدف القضايا الاجتماعية المسكوت عنها، وتعمل على إثارتها، ولعل هذا الفيلم الذي كتبه الراحل وحيد حامد، كان باكورة الصدام بين منى والجمهور، على خلفية الجرأة التي نقلت بها موضوعاتها الشائكة على الشاشة، داخل برنامجها الافتراضي في سياق العمل والدور، لكن الجمهور لا يجزئ أحكامه فقد طالتها ألسنة اللهب التي طالت المؤلف وحيد حامد والمخرج يسري نصر الله بوصفهما صُناع العمل الرئيسيين.
ولم يقتصر الرفض الشعبي على النوعيات التي ذكرناها فقط، وإنما تجلت مظاهره في التعامل مع أفلام أخرى، ربما من أهمها فيلم «مولانا» فقد اعتبره البعض تشويهاً مُتعمداً لصورة الداعية الإسلامي، ينسحب بالضرورة على الدين ذاته من وجهة نظر الرافضين، واستمر سجالاً طويلاً حول هذه الإشكالية بين كاتب الفيلم إبراهيم عيسى، والمُنتقدين، وحدث ذلك أيضاً في فيلم «طلق صناعي» بطولة ماجد الكدواني كونه تناول بسخرية بعض القضايا المُتصلة بالهجرة إلى أوروبا وشروطها وأسبابها الاجتماعية والسياسية، ومن قبله بسنوات أثيرت ضجة كبرى حول فيلم «ليلة سقوط بغداد» وفيلم «بنتين من مصر» و»فبراير الأسود» والأفلام الثلاثة للمخرج محمد أمين صاحب المنهج النقدي الحاد، في الكشف عن المُشكلات المؤرقة للمجتمع، لكن مع التمسك الكامل بحق النقد، لم يستخدم أمين ككاتب ومخرج في أفلامه المُشار إليها اللغة الدارجة في الحوار، ولم يهبط بالقيمة الإبداعية جراء الإثارة أو الصدمة، فالأهمية عنده تأتي دائماً من جوهر الفكرة، لذا حظيت أفلامه القليلة بتقدير خاص، ولم يقف منها أحد موقف الرافض أو حتى المُتحفظ.
ونحن إذ نرصد النماذج السينمائية التي قوبلت بالرفض، فنحن لا نشجع الرفض في حد ذاته، ولا ندين الرافضين، وإنما نحاول الوقوف على الظاهرة والتأمل في مضمونها وأسبابها ونتائجها، كنوع من التسجيل المحض لإيقاع السينما المصرية المتراوح ما بين الصخب والهدوء، ومدى العلاقة التأثيرية بينها وبين التجارب العربية المُشتركة والمماثلة لها في الموضوعات والحيثيات.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية