«شارب الجنرال» لسمير البرقاوي… شؤون وشجون

لا تزيدك قراءة قصص المجموعة إلا ألمًا وقهرًا، واتساع جرح ما زال ينز منذ لحظة وعي تمنيت أحيانًا لو لم تكن؛ فقصة غصة، وقصة جرح، وقصة حزن، وختامها قصة رعب.
في قصة «إذعان» تتحول المعلمة إلى أداة قمع بحق طفل، يستأذن للذهاب إلى دورة المياه، لكنه يتجه صوب المراجيح، يلعب بسعادة، ولا يأبه بشيء. هددته وضربته، ولما لم يثنه ذلك عن شغفه بالمراجيح، كتبت لجهات مراقبة الإذعان القومي، محذره من خطورة تمرده مستقبلا، وسرعان ما اعتقلوه، وبعد شهرين عاد مذعنًا مذعورًا. وما أسوأ المدرسة عندما تتخلى عن مهمتها في التعليم وتعديل السلوك، وتتحول إلى أداة بوليسية، وتحكم على سلوك بريء لطفل محروم بأنه يشكل خطرًا على الوطن.
وقريبًا منها قصة «شارب الجنرال» حيث يتحول فعل عفوي إلى تهمة شنيعة تمس كرامة الجنرال، وهذا لا يحدث إلا في ظل أنظمة هشة تحسب كل صيحة عليها، فوليد أخطأ في أثناء نوبة غضب بحلق جزء من شاربه، ولما عجز عن إصلاح الأمر، قرر حلقه كليًا، ولما سألته زوجته أجابها: «عندما أعود رجلا، حينها فقط يحقّ لي أنْ أطلقه» وكلما سأله أحد ذكر العبارة نفسها، فما يعيشون فيه من انهزام واحتلالات ومجازر وغيرها ينتقص من رجولتهم، فأيده كثيرون، وحلقوا شواربهم، وذات ليلة اعتقل بتهمة إنشاء تنظيم مسلح، وبعد تعذيب شديد، أخبروه أن تهمته الشنيعة هي الانتقاص من رجولة الجنرال، الذي يفتخر بشاربه، فأخبرهم حقيقة الأمر، إلا أنهم لم يصدقوه، فاعترف بما يريدون، وعاد إلى بيته جثة هامدة.

«هل أنت راضٍ عن نفسك؟»

في قصة «المرآة» لم ينتظر الرجل الفقير صعود السلم بالتدريج، بل قفز سريعًا معتمدًا على الكذب والنفاق وامتهان الكرامة، وعلى الرغم من غناه، إلا أنه لم يتخل عن أسلوبه الذي أصبح جزءًا من شخصيته، وكان ينظر إلى صورته في المرآة كل صباح يسألها: «هل أنت راضٍ عن نفسك؟» فتلقى ذات صباح بصقة على وجهه، لم تكن حلمًا، بل حقيقة، تيقن منها وهو يمسح البصاق الدبق. هذا الرجل ضحية واقع شرس، لا يؤمن إلا بهذه الأساليب الملتوية للوصول ومغادرة مربع الفقر، لكنه أصبح أسير هذه السلوكيات الشائنة، التي ارتدت إليه في النهاية، مذكرة إياه بالعاقبة، وأن من يسلك الطريق القذر، لا بد أن يتلوث به مهما احتاط.
يبتعد الناس عن بسطة الرجل مشوه الوجه في قصة «الدميم» وتتجنب النساء والأطفال النظر إليه، ويصاب بعضهم بالذعر لرؤيته، ولذا حرص أن يتزوج من امرأة عمياء، واشترط أن لا تلامس وجهه، وعاد ذات مساء إلى بيته حزينًا مهمومًا، فاستقبلته طفلته تطالبه بالرقص، فرقص معها، ثم انضمت زوجته، فرقصوا بفرح وسعادة. وما أجمل العائلة عندما تكون بلسمًا للجراح، وطاردة للهموم والأحزان، وجالبة للفرح والمسرة، وهي الملجأ والملاذ في هجير الحياة وصقيعها، وتبقى الطفولة ببراءتها، صانعة للبهجة والسعادة، راسمة للابتسامة، مفجرة للضحكة، باعثة على الأمل، ومزيلة للتعب وأدران الحياة.
في قصة «النور والعتمة» يراودهما الأمل للحصول على شيء ثمين للخروج من واقعهما المزري، ووظائفهما البائسة، فيقود مرسي سعيدًا ذات ليلة مظلمة إلى منطقة صحراوية، حيث شاهد براميل تدفن هناك، ولما حفرا طويلا، عثرا على البراميل، ولما تبينا ما كتب عليها، هربا مذعورين لا يلويان على شيء، فقد كانت براميل نفايات نووية. صحيح أن الخيبة التي مني بها الصديقان مؤلمة، لكن الحقيقة المرة التي كشفاها أشد وأنكى بما تشكله من خطورة على البشر والكائنات، وخسارتهما لا تقارن بخسارة الوطن المنتظرة. ومن يقف خلف هذه المدافن المدمرة، يقامر بالوطن، ويذبحه من أجل مصلحته الشخصية وأنانيته المتوحشة.
يمل صديقه في قصة «المسيرة» من المسيرات، وينزوي جانبًا، يتبعه ليثنيه، إلا أنه يرفض، ويغادر معاكسًا اتجاه المسيرة، يتبعه في محاولة لإقناعه، لكنه ما يلبث أن يستوقفه ليرافقه. تشير هذه القصة إلى عبثية بعض المسيرات، وأنها فارغة لا هدف لها، وما هي إلا مهرجانات صاخبة للشعارات والهتافات، لتلبية رغبات ما يطلبه المراقبون من على الشرفات وخلف النوافذ.

في القصة الأخيرة «المتحولون» رمزية عالية، ورسالة تحذير قوية، فسوء الأوضاع الاقتصادية، والحرمان الذي يعيشه البعض، قد يحولهم إلى كائنات خطرة، فالإنسان أمام غريزة البقاء، على استعداد لفعل أي شيء ولو كان أكل أخيه، يتحول إلى وحش مرعب يلتهم كل شيء أمامه.

يتغيب الخطاط عن عمله وبيته في قصة «لافتات» ولما يسأل عنه الغني ليكتب له شعاراته الانتخابية، تخبره زوجته أنه غادر؛ فهو يشعر بالعار لأنه يقوم بكتابة الشعارات لا أكثر، وأن عليه أن يفعل شيئًا. هذه القصة تثير قضية إشكالية حول زيف الشعارات وخداعها، وتأنيب الضمير الذي يصاب به بعض الخطاطين؛ عندما يشعرون بأنهم يشاركون في ذلك، وبأنهم يكتبون ما لا يؤمنون به، ولكن الخطاط كما يبدو، لا يتقن عملا آخر، فقرر تغيير المكان ليس إلا، ضاربا عرض الحائط بإحساسه وضميره الذي عاد للنوم.
في قصة «لنصر» عاد إلى بيته منتشيًا بفوز فريقه، بعدما احتفلوا به، ووجد زوجته تضع كمادات على جبين طفلته المريضة، فتسأله عن الدواء، فاعتذر أن ليس لديه مال كافٍ، وغدًا سيتدبر الأمر، فهو عاطل عن العمل منذ ثلاثة أشهر، وحضر المباراة على الشاشات المجانية المتوفرة. وأي نصر يحتفل به هذا الرجل، وهو مهزوم حتى النخاع؛ عاطل عن العمل، لا يستطيع شراء دواء لطفلته، ولا الهرب من توسلات زوجته، إن شعوره بالخذلان أمام نظرات طفلته هزيمة لا تمسحها آلاف الانتصارات الوهمية الكاذبة.
تلتقي الأم بولدها بعد طول انتظار، جثة في ثلاجة الموتى في قصة «امرأة من زمن آخر» تخاطبه بحنان، كأنه حي، وتخبره أنها عندما تلقت نبأ استشهاده زغردت كما أوصاها، وقبل أن تغادر، طلبت من الموظف أن لا يدخن بالقرب منه، فابنها لا يطيق رائحة السجائر. إنها الأم، التي تمتلك كل حنان العالم، تتماسك أمام جثة ابنها، وتخاطبه كأنه بين يديها، تسأله، وتطمئن عليه، وترفض أن يكون ابنها قصة إخبارية، كما تأمّل بذلك المصورون والصحافيون الذين كانوا ينتظرونها. إنه الشموخ والإيمان بابنها وقضيته، وأن استشهاده محل فخر واعتزاز لا بكاء وعويل.
يرافق الأب ابنه إلى المستشفى لإجراء عملية في قصة «حالة» وكان يتملى وجهه، ويطلب منه أن ينظر إليه ويحتفظ بصورته جيدًا. ودعه بحزن إلى غرفه العمليات، وحاول أن يبث فيه روح الشجاعة والأمل، ولما رأى الطبيب المختص، سأله لاجتراح حل آخر، ولكن الطبيب قال له: «أخبرتك أنّ المرض استفحل أكثر من اللازم، ونخاف أنْ ينتشر، لهذا ليس هنالك حلّ سوى أنْ نستأصل عينيه». ما أصعب هذا على أب يرافق فلذة كبده لاستئصال عينيه، موقف هربت منه الأم، فهي أعجز من أن ترى مشهد كهذا يكلم قلبها ويفت في عضدها. وكل ما يصيب الأبناء وإن شوكة يؤذي الوالدين ويجرحهم ويدمي قلوبهم.
في قصة «ليس الآن» يشتري العجوز كيس شيفرات قدّر أنها تكفيه شهرين وعشرة أيام، وفي طريقه إلى البيت، تذكر أولاده الذين تفرقوا في أصقاع الأرض، ولم يبق له إلا زوجته العجوز التي تعد له العشاء الآن، وفي أثناء سيره، عادوته آلام القلب كسكين، فاستند إلى شجرة وهو يقول: «ليس الآن» ولما خف الألم، تابع سيره، فغزاه الألم ثانية وثالثة، فاستسلم «لموت لا يستجيب لنداء رجل عجوز يخاطبه بـ(ليس الآن)». إنها القصة التي تتكرر؛ حيث يتفرق الأولاد، ويخلو البيت، وتهاجم الأمراض، ويبقى الأمل بطول العمر مسيطرًا، وعندما تحين اللحظة الفاصلة، لا يجدي معها أي رجاء أو طلب إمهال. ولعل هذه القصة عظة للأولاد بأن لا يتخلفوا عن زيارة والديهم، فعندما أجلت ابنته زيارتها إلى عام مقبل، قال لها حزينًا: «وهل سأبقى للعام المقبل؟». إن صقيع الحياة لا يرحم الوالدين صيفًا وشتاءً، وتبقى قلوبهم معلقة بانتظار الآتي.

«المتحولون»

في القصة الأخيرة «المتحولون» رمزية عالية، ورسالة تحذير قوية، فسوء الأوضاع الاقتصادية، والحرمان الذي يعيشه البعض، قد يحولهم إلى كائنات خطرة، فالإنسان أمام غريزة البقاء، على استعداد لفعل أي شيء ولو كان أكل أخيه، يتحول إلى وحش مرعب يلتهم كل شيء أمامه.
إن «شارب الجنرال، دار البيروني، 2021 » مجموعة قصصية مشغولة بحرفية عالية، ولغة جميلة، وسرد ماتع، وطرقت موضوعات ذات شؤون وشجون، وأرسلت رسائل تحذير، وقرعت أجراس الخطر. وهي المجموعة الثالثة للقاص سمير البرقاوي بعد مجموعتيه «ذاكرة الرماد» 1992 و«الدقائق الخمس الأخيرة من عمر الكون» 2008.

كاتب أردني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية