هذا نصّ ستقرؤه ابنتي يوما ما… تسمّرت عينا الأمين العام للحزب في وسط المكتبة كأنه عثر على عنوان كتاب يبحث عنه منذ سنوات، للأسف مكتبته لا تشبه مكتبتي، لقد كانت عيناه تتابعان برنامجا سياسيّا تلفزيا. أحبب بها ثورة… ما رأيك؟ أتذكرون ‘جماعة أجنحة الضّوء’ كاد بعض سكان مقهى علي بابا(1) يخلعون سراويلهم في تلك اللّيلة الرمضانية، بعد أن اكتشفوا أن لهم علاقة بالأدب. بدأ الحلم وبتر سريعا ولم نغضب- كنت أحدهم- لأنها كانت البداية. أقمنا معا في صبراتة وصرمان والزاوية هناك اكتشفنا أنفسنا. في تلك الأيام وُجد على الأرض شخص جميل، هو شخصية روائية عظيمة أضاع مرتين نظّارتيه: مرة ـ أذكرها ـ على الشاطئ الليبي ومرة أمام كلية 9 أفريل أثناء مصادمة مع البوليس السياسي كان كثير الأسئلة، مازال طيبا. أذكر أن زياد عاشق الطّواف السياسيّ قد نزل ليلة ضيفا لاجئا لدى طرف سياسيّ يناقش أساليب التصدي لخصمه الأول في الجامعة… وقف زياد بين المناضلين القياديين وصاح فيهم أنا ابن الخطّ الذي تتحدثون عنه… ابحثوا عن زياد سيكمل لكم القصة. لا أنسى الطريحة الخرافية ‘للرّوج’ خليفة ‘خلف الأحمر’ في حديقة البلفيدير تحت لعاب الكلاب المفترسة. في ذلك اليوم كاد وليد الأحمر يموت وصدر بيان تنديد من اتحاد الطلبة. كان تهشيم بلور مقهى الأناقة حدثا اجتماعيا جللا ومع ذلك لم يتكلم أحد في الموضوع. ذات مظاهرة سطعت في وجه صاحب الخوذة كتلة رخام فسقط سقطة ميْت، لقد رماه السومري المتسلل من أسفل الدرج. السومريّ كان نجم رماية. لم يتمكن من التلذّذ بحركته الرشيقة داخل الحرم الجامعي، فقد اختفى أياما وعندما هدأ العالم عاد إلى هندسة الحياة لأنه فعلها واشتبك في حبّ الآخرين. أزعم أن القفصاوي في تلك الأيام قد خاط لحم كفّه بمحمل محفظته، لم أره دون محفظة حتى بعد التّخرج. بعد سنة رأيته يؤمّم كتابا ويضعه في تلك المحفظة التي كانت شاهدة على أكثر اللحظات حميمية في حياته. أسأله هل كان يحملها معه إلى الحمام؟ هي هي نفس المحفظة الجامعية ـ ربما غيرها ـ رأيته مرة أخرى، أنا أحترمه وأحترم محفظته. *** بينما كنت أستعدّ لدخول مقهى الأناقة في ظهر الحبيب بورقيبة سقط على رأسي مصطلح غريب ألا وهو ‘الفحولة’ تحسّست خصيتيّ. قبل أن ألج المقهى وجدتهما ـ هذا شأن خاصّ ـ خصيتيّ. فتأكدت أن هذا المصطلح قد نزل علي لأسباب أخرى. قلت في نفسي : لابد أن المسألة أعمق من الرجولة تجاهلت الأمر وانخرطت في احتساء القهوة وقراءة ‘صوت الشعب’ في ذلك الصباح وترسّخت في ذهني فكرة أن للفحولة علاقة ببالة مراد. أعتذر لمن لا يحبني فأنا لا أعثر على الوقت الكافي لأفكر فيه أو أتكلم عنه لأني حلقت لساني ومضغت السّواك الحلو. عندما ينتابني مغص في المثانة أفكر في البول عادة ولا أحاول أن أفكر في التفرغ للعداوات، خيط البول يعرف مساره، أما أنا فأجدني منهمكا في الإيقاع، الوقت لا يكفي المسؤولين أمثالي للقيام بكل شيء: أن أفعل الحب وأن أتعشّى دائما ـ لأني لم أعد أحب الجوع ـ وأن أقرأ وأن أكتب وأن أنصت إلى برامج الإذاعة الوطنية التونسية. هل خرجنا من المطْهرة؟ ربما خرجنا… *** حدثت كارثة يوم الأحد لم يسمع بها أحد، سألقيها الآن على مسامعكم: لقد مرّ يوم بكامله لم ألتق فيه الشاعر ‘ ايكاروس’، وهذه سابقة خطيرة، والعادة أن نلتقي و’مصير الرجال تتلاقى’ في اليوم التالي التقيته صباحا، احتسينا قهوة ـ لا أطيل عليكم ـ بدت عليه ملامح الحزن، وكأنّه فقد صديقا. ـ ‘فتوح’ ما بك؟ أجاب: (واغرورقت عيناه غضبا): ـ أضعت ملفّا به قصائد ومسودات نصوص جديدة. لا أخفيكم سرا أيها القراء إنه عبد الفتاح بن حمودة في سطور لا يزعجه شيء لا يزعجه الحقد والثلب والتعب ويزعجه نصّ ضائع. ـ عبد الفتاح نصوصك ضاعت… البلاد ضاعت! قال (واحمرّت عيناه ): القصيدة شيء آخر.(الرجاء ممن وجد مسودات قصائد الاتصال بالشاعر أو بأقرب شاعر من شارع الحبيب بورقيبة). هذا الرجل شاعر يعنيه الشعر وتعنيه البلاد، يقود حملة ضد الرّداءة ويتابع كل ما ينشر في تونس، فهمت مشكلته: ربما فقد النصوص التي ستحكم البلاد لآلاف السنين القادمة، مسحت ضحكة تتصبب من شفتي وواسيته قائلا: ـ لا عليك، ستتذكّرها يوما، ستعثر عليها، ستكتب أجمل منها وَجَمَ الرجل التقط سيجارة وأشعلها، أشعلت سيجارة. تحدثنا عن كل شيء إلاّ عن الشرّ، ولم نشعر بالرغبة في النميمة أوتفقد أعراض الناس أو متابعة الأحوال المدنية الشعرية. تحدثنا عن اليومي وعن التفاصيل وعن النصّ. في أيام مضت كنا نحتاج إلى أن نطلب سيارة إسعاف قبل أن نرمي على رؤوس الكتّاب خمسين دينارا من أعلى بناية في أحد شوارع النظام…سنعود لاحقا… الآن أنا أحب أن أتحدث عن أزمة الضمائر(2) في الكتابة التونسية(3) وأدب القفز بالمظلاّت والفصام الذي يعيشه الكاتب المعاصر… هو يحبّ أن يثبت أنه ليس زعيما وأن الساحة للكل من أجل الكل، أنا أريد أن أكتب مقالا بعنوان ‘جعلوك مجرما’. ـ فكّروا طويلا وجعلوك قضيتهم، لتخرجْ عليهم ولْتَقُلْ لهم إنك لن تكون رئيسا على أحد مهما ناشدوك لأن الرئاسة صعبة وتخلق الأعداء. إذا هدّدت مرة أخرى بأن تكون رئيسا فلتكنْ رئيس نفسك ورئيس غضبك. لماذا كلّما اعتنق شاعر ما نصّا جيدا أوْحَلَت الأرض وبدأ القصف العشوائي من جميع المقاهي… قل إنك أطرشُ أبكمُ ولن يسبّك أحد… أسكت فجأة، (صديقي الشّاعر الطيب يقهقه…). *** قديما كانت المظاهرات مهرجانات للتسوق السياسي وللاشتباك العاطفي وللتنشيط المالي، كانت الاجتماعات العامة عمليات استحضار للأرواح أما كرسيّ سقراط الخشبيّ المختلس من أحد المدارج فقد كان فرصة للتنمّر اللغوي وتَعَشُّقِ الميكروفونات، عشاق الفايسبوك المتأخرون هواة ثرثرة رقمية لا غير، أما أولئك الاندفاعيون فلم يكلفهم أحد بالنضال، ناضلوا من أجل الزعماء، أعرفهم ولن أكتب عنهم لأنهم مارسوا السياسة والقبح والغدر والمعاكسات الرديئة، كان يحسنون إشعال الحرائق… إذا مر عليّ يوم وأتذكّرهم فسأبول عليهم. أحدهم كان : يبيت اللّيل صحبتُه الذئابُ /ويبكي بكرةً حال الرّعاة وكان له تلاميذ(3)… فهل انتهت الطرائف السياسية المؤسسة حتى نلغي كل هذا ونبرز الأنف النضالي؟ من ليس له طرف ومغامرات فلا يزايدن علينا خاصة أن ‘كبار الحومة مازالوا حيين’. ما هذا؟ مؤتمر قطعني الواد، سحقا سحقا للرجعية عملاء الإمبريالية، غزة غزة رمز العزة، يطرد الطالب الفلاني لسوء فهمه السياسي، المندسّون، بوليس، انتهازي، ‘ياقف’ مع الحاكم، قارئ الجريدة، مشبوه، فنون الاستقطاب السياسي في المقاهي، طرق الإغاثة النظريّة، المحاكمة،الرفاقية، النقد الذاتي، الانتقال السّلس، المصافحة المصوّرة، الجوقة، الاستفزاز، ‘البهامة’، الخيال السّياسي الخصب، الرفيق الذي مات بسبب العنف، ‘الزين’ السياسي، مقترح لجنة مساندة الطلبة ضحايا العنف… هي شعارات ذهبت أدراج الرياح… بين قوسين، أنا مسرور بهذه العبارة :’ نحن لانزرع الشوك’. لكن ثمَّتَ (في لسان العرب) من يحبّ أن يزرع مؤخّرته حيثما اتّجهت أصابع الإشارة! *** أذكر لكم نكتة: سأل الطفل أمّه الحامل: لماذا بطنك منتفخة؟ فأجابته: لأنّي أحمل أخاك. في المدرسة سأله صديقه: هل لك إخوة؟ أجابه: كان لي أخ، لكن أمّي ابتلعته.(5) لن أحلّل أركان هذه النكتة وإنّما سأكتفي بالقول إن أهمّ ركن فيها هو فكرة قائمة على افتراض وجود أشياء لم تُوجد بعد بحكم المنطق ولكنْ أُوجِدَت في ذهن الطفل الذي أعاد صياغة بريئة لموجودات العالم، لقد صدق الطفل وجود أخ له رغم أنه لم يَرَهُ لأنه يصدق أمه… ومنه أقول إننا لم نتخلص بعد من الضّراط الفكريّ الطفولي الذي يبني موقفا من الموجودات انطلاقا من الأبوّة أو الأمومة أو محلاّت الصدق وجهات الثقة. لم تتشكل منظومة معرفية للطفل قادرة على الحسم العقليّ في الأشياء، وكذلك ‘الضّارطون الفكريون الشّبان’… سيُباع قريبا في الأسواق جهاز قيس الرّنين الثوريّ، إنه يمكننا عن طريق وخز إصبع السّبّابة بحقنة معقّمة من التّعرف على العمق الثوري للحيوان السياسي ويمكن قراءة الإشارات الطاغية لإصبع السبابة فيشهد ما إذا كانت أهمّ حركة للإصبع هي نكْش الأنف أو حكّ المؤخّرة أو لمس الأوراق أو الإشارة بالنّميمة أو توجيه الاتهامات أو من كثرة استعمال ‘البالة والبغْلي’ عن طريق تقدير حدّة التّشوّهات في بصمات الإصبع. أنا سعيد بهذا الاختراع. وحسب تقديري الشخصي ترجع الأنامل الرقيقة للرقيقين جدّا والنّظيفين جدا الذين يطلون كل يوم على شاشة التلفزة. يمكن جسّ نبض القلب والصفاء الذهني والراحة الأيديولوجية والتوتر الجماليّ من خلال المصافحة العفوية وعندي حديث في هذا الموضوع لكن سأنتظر وصول الجهاز، سأعترضه في المطار بأعلام التَّرحاب : سأصيح : ظهر الحقّ وزهق الباطل، سأكون أول العارضين أنفسهم على القيس، وبعد هذا سأفتق أكمام الحقيقة. كوجيتو جديد لم أسمع به: اصْنَعْ ثَوْرَةً وابْرُكْ عليها. أقول: ابرُك عليها ولكنْ لا تقْضِ حاجتك عليها. وبعد، هل استحالت الحياة؟ ــــــــــــــــــــــ هوامش: (1) علي بابا: مقهى عاصميّ يقطنه جماعة تونس قديما وحديثا ومستقبلا يؤمّه بعض أناس لا ينامون في أحضان آبائهم كلّ ليلة ـ إنها الغربة ـ وطلبة درسوا لدى الفقيديْن الطاهر الهمّامي وعبد اللّه صولة. (2) الضمائر: مفردها ضمير، منفصل ومتّصل (ثمَّت فرق) مثال: أنا/نحن/هو/هم تتداول في المقاهي كثيرا وقد يستترالضمير فيسمي ضميرا مستترا، والضمائر في هذا تعني غياب الإملاء الأخلاقيّ. وقد كانت هذه المفردةُ متداولةً قبل الثّورة وانتحرت بعدها ولم تطبع في لسان العرب بعد أحدثِ نشرةٍ له. (3) الكتابة التونسية: مصطلح ثوريّ اندثر (لم يعد موجودا) بعد ثورة 14 جانفي بفعل تحزّب الكتاب الزائد وخضوعهم إلى منطق الولاءات السياسية وانكماشهم الفكريّ والشعريّ… (4) التّلاميذ: ذكر في الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام: المناصف… واحدها منصفٌ ـ قاربْ بمنصف المزغني ـ تلميذ (مفرد) نحوه، والمُقْتَوُون (هم) الخدم وقال عمرو بن كلثوم : ‘تهددنا وأوعدنا رويدا متى كنّا لأمك مقتوينا؟’ التلاميذ هم الخدم ونحن لم نخدم أحدا، ونزيد فنقول: وعندما أذكر هذا أتذكر البيت: ‘ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا’. (5) نكتة مُقتطعة من جريدة (انظر معنى جريدة في لسان العرب).