صار شايلوك النمط الأشهر لشخصية اليهودي، منذ أن أحضره شكسبير إلى الوجود الحي في عالم الدراما، من خلال مسرحية تاجر البندقية، إحدى المسرحيات التي اختتم بها القرن السادس عشر، قبل أن يفتتح القرن السابع عشر بأعجوبته المأساوية «هاملت».
على الأرجح أن مسرحية «تاجر البندقية» كُتبت عام 1597، ويقال إن شكسبير استمد أحداثها من عدة مصادر، كأسطورة الصناديق الثلاثة، وأسطورة رطل اللحم، ومسرحية يهودي مالطا لكريستوفر مارلو، وواقعة إعدام الطبيب اليهودي الخائن، الذي حاول قتل الملكة إليزابيث الأولى بالسم. تعد مسرحية «تاجر البندقية» من القطع الأدبية المشهورة في قائمة أعمال شكسبير، ولا تصنف كمأساة وإنما كملهاة جادة، ليست مأساة لأنها تخلو من فواجع الأقدار، والمصائر الأليمة والحلول المحزنة، وهي ملهاة لطرافة حوادثها وتدخلات الصدفة، وتنكر النساء في زي الرجال، وقصص الحب اللطيفة، والحلول المفرحة، حيث يسعد الجميع في النهاية، أما جدية هذه الملهاة فتكمن في أبعاد شخصية شايلوك، وطبيعة صراعه مع أنطونيو، والأثر الذي تركته منذ زمن كتابتها وعلى امتداد العصور اللاحقة.
جاء شايلوك لينضم إلى أهم الأنماط الدرامية العتيدة التي أبدعها شكسبير، واختلقها بخياله، وصورها بكلماته الشاعرة على أتم وجه وأدق معنى، صحيح أن شايلوك يقف إلى جانب هاملت وماكبث وعطيل، لكونه من الأدوار التمثيلية التي يتسابق إليها الفنانون، وبها يؤرخ مجد الممثل، إلا أن لشايلوك شأنا آخر، فهو يختلف عن تلك الشخصيات الشكسبيرية الأخرى.
حيث إن هاملت وماكبث وعطيل أبطال مسرحياتهم، التي تتخذ أسماءهم عناوين لها، أما شايلوك فلم يجعله شكسبير بطلاً، ولم يُخرج اسمه إلى الواجهة، وإنما جعل عنوان المسرحية «تاجر البندقية» وتاجر البندقية هو أنطونيو التاجر المسيحي النبيل، لم يجعل شكسبير من شايلوك بطلاً، رغم أنه عندما يتم ذكر المسرحية يُذكر شايلوك على الفور، بينما يظل أنطونيو طيفاً هادئاً، وشخصية أقرب إلى النموذج الأخلاقي النادر، فلا نجد ممثلاً يفتخر بأنه لعب دور أنطونيو، لأنه لا يشكل تحدياً أمام الممثل. لا يعني ذلك أن شكسبير تعمق كثيراً في نفس شايلوك وتشعب في خباياها، فهناك الكثير الذي لا نعرفه عنه، لكنه وضع في هذه الشخصية من أسرار عبقريته، ما يجعلها ذات تأثير مستمر، رغم أنها شخصية كريهة إلى أقصى حد، يمقتها من يتفق مع رؤية شكسبير، ويمقتها كذلك قوم شايلوك، الذين لم يتمكنوا حتى الآن من حل تلك المشكلة، التي أهداها إليهم شاعر الدراما الإنكليزية العظيم وليم شكسبير، سواء عن طريق منع المسرحية أحياناً، وتحريم تدريسها لطلبة المدارس في بعض الدول، ووصمها بأنها عمل يعادي السامية، أو عن طريق الدخول المتعمد في حالة من الإنكار، والتظاهر بتقبل ما فعله شكسبير، ومحاولات تحريفه وتحويره إلى رسم إنساني للشخصية، يتعاطف معها، ويظهر ما تتعرض له من اضطهاد، أو على أقل تقدير أن شكسبير تعامل مع هذه الشخصية كأي من شخصياته الأخرى، ولم يكن يقصد شيئاً من تصويرها بهذا الشكل، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق، بالطبع كان شكسبير يتعمد تقديم شايلوك إلى المتلقي في هذه الصورة السيئة، وأراد أن يقول الكثير من خلال هذا الأمر، فالكاتب ليس إلهاً صامتاً كما يتخيل البعض.
لم يجعل شكسبير من شايلوك فرداً في مواجهة الجماعة، أو الغريب اللامنتمي، ولم يحاول بأي طريقة إثارة تعاطف المتلقي مع المرابي اليهودي، أو شفقته على شخص دفع ثمن ما اقترف من أخطاء وآثام، حتى كلمات شايلوك التي يستخدمها البعض كدليل على تعاطف شكسبير مع الشخصية اليهودية، عندما يقول أليس لليهودي جسم وحواس، وأنه يُجرح كما يُجرح المسيحي، هي كلمات مصطنعة غير مصدقة، وكان في مقدور شكسبير أن يخلق من خلالها أثراً لا ينمحي من النفوس. لذا تظل طبيعة معالجة شكسبير لهذه الشخصية واضحة، مهما تعددت تفسيراتها وتحليلاتها الدرامية، بداية من وقع الاسم الذي اختاره لها، وانتهاء بكل ما يصل إلى المتلقي من أوصاف، ترد على لسان الشخصية ذاتها، أو على ألسنة الشخصيات الأخرى.
عقدة الربا الأساسية
الربا من أهم الأشياء التي يجب التوقف أمامها، عند تناول شخصية شايلوك أو المسرحية بشكل عام، فالربا مهنة شايلوك ومصدر أمواله المكتنزة، وعنصر رئيسي في تكوين شخصيته، إلى درجة تجعله كومة من النقود العفنة، لا بشراً من لحم ودم، يبدو شايلوك كما لو أنه خلق من أجل الربا، وأنه مُسّخر تماماً لهذه الممارسة، التي تتطلب دناءة النفس وحقارة الضمير. الربا هو جوهر الصراع بين شايلوك وأنطونيو، ونقطة الخلاف العميق بينهما، فلم يكن أنطونيو يحتقر شايلوك أشد الاحتقار لأنه يهودي وحسب، لكن لأنه يهودي يأكل الربا، ويمتص دماء المحتاجين الذين يضطرون إلى الاقتراض منه، وسداد ما اقترضوه أضعافاً مضاعفة. ولم يكن شايلوك يكره أنطونيو، لأنه مسيحي يأكل لحم الخنزير وحسب، أو لأنه تاجر نبيل ذو خلق رفيع، بل كان يكرهه كرهاً شديداً ويضمر له أعنف الأحقاد، لأنه كان يساعد المحتاج الآخرين لوجه الله تعالى، ولا يرد سائلاً، ويقرض المحتاج من ماله دون أن يأخذ فائدة على ذلك المال، وكان يسترد أصل المبلغ فقط، دون زيادة أو نقصان، وهو ما يعرف عندنا في الإسلام بالقرض الحسن. لم يكن شايلوك يسبب أي خسارة مادية لأنطونيو، ولم يؤثر على تجارته بأي شكل من الأشكال، لكنه كان يمثل انحطاطاً أخلاقياً لا يطيقه، ونموذجاً سيئاً يرفض وجوده بشدة.
دفع شكسبير أنطونيو نحو الإقدام على أشد ما يكره، وفعل ما يرفض، وهو الاقتراض من شايلوك، لكنه جعل وراء هذا الفعل هدفاً نبيلاً سامياً، يتجاوز احتياجه الشخصي الخاص، فأنطونيو هنا يقترض من أجل أن يُقرض صديقه باسانيو، لأن سفن أنطونيو التجارية كانت لا تزال في عرض البحر، ولم ترجع بعد بخيراتها.
أما أنطونيو فكان يمثل ضربة مادية مؤلمة لشايلوك، فكل مقترض يذهب آمناً إلى أنطونيو، يكون فريسة أفلتت من أنياب شايلوك، وأموالاً ضائعة كانت ستنضم إلى بقية ما يكتنزه، ولم تكن الضربة الأخلاقية تعني شايلوك في شيء، فالمال مهما كان مصدره ووسيلة جلبه، كان القيمة الأسمى والمبدأ الوحيد لديه، ونفسه لم يكن يؤلمها سوى المال، فعندما تهرب ابنته جيسيكا مع عشيقها المسيحي لورنزو، بعد أن تسرق أمواله وجواهره، لا يُفجع شايلوك في شرفه، أو في دينه عندما تتنصر جيسيكا وتتبع دين عشيقها وتترك ديانتها اليهودية، يُفجع شايلوك في أمواله فقط، ويندب ويتحسر على ضياع جواهره، ويتمنى أن تأتي إليه ابنته ميتة وفي أذنيها ألماستيه الثمينتين.
اعتمد شكسبير على الربا في خلق التعقيد الدرامي، وجعل شايلوك وأنطونيو يلتقيان عند الشيء الذي يرفضه أنطونيو بقوة، ويعبده شايلوك عبادة خالصة، لكنه أراد أن يكون الربا مختلفاً هذه المرة، ذا فائدة من نوع خاص، يرفع من خلاله منزلة أنطونيو ويزيده شرفاً، ويحط من شأن شايلوك ويخفضه إلى أدنى مستوى. فذهاب أنطونيو إلى شايلوك يدل على نبله وحسن أخلاقه، ويكشف عن مدى سوء شايلوك وشرور نفسه، وهو ما يفعله شكسبير على طول الخط الدرامي، إذ يصور أنطونيو في هيئة أقرب إلى القديس، ويخلع عليه الصفات التي تميزه عن أقرانه، فلا يتزوج ولا يقع في هوى أو غرام، نراه هادئ النفس زاهداً في ملذات الدنيا، يجتمع فيه الكرم والعطاء والتضحية من أجل الآخرين، بالإضافة إلى مسحة الحزن الشفيفة التي تكلله طوال الوقت دونما سبب معروف. وفي المقابل يكاد شكسبير ينزع عن شايلوك إنسانيته ويجرده من آدميته، ويجعله أقرب إلى الشيطان الذي يشعر بالمهانة دائماً ويتعايش معها، ويختزن في نفسه الرغبات الانتقامية إلى أن تحين الفرصة، ويعلم أنه غير جدير بالحب والاحترام، حتى من ابنته التي تصف بيته بأنه جهنم، ومن خادمه الذي يقول إنه أماته جوعاً ببخله الشديد. ويعد شايلوك نمطاً لشخصية البخيل أيضاً، لا بخل المادة فقط، وإنما شُح النفس بشكل عام.
دفع شكسبير أنطونيو نحو الإقدام على أشد ما يكره، وفعل ما يرفض، وهو الاقتراض من شايلوك، لكنه جعل وراء هذا الفعل هدفاً نبيلاً سامياً، يتجاوز احتياجه الشخصي الخاص، فأنطونيو هنا يقترض من أجل أن يُقرض صديقه باسانيو، لأن سفن أنطونيو التجارية كانت لا تزال في عرض البحر، ولم ترجع بعد بخيراتها. أما باسانيو الشاب الثري الذي أضاع أمواله في أمور اللهو الطائش، فكان يحتاج إلى المال من أجل أن يحظى بفرصة الزواج من بورشيا، الوريثة الشابة ذات المال والذكاء والجمال. وضع شايلوك شرطاً غريباً لكي يقرض أنطونيو المال، وهو أنه إذا تعثر في السداد، يكون من حق شايلوك أن يقتطع من جسد أنطونيو رطلاً من اللحم، ويتم وضع هذا الشرط الغريب في صك القرض، ووافق عليه أنطونيو إذ كان مطمئناً لعودة سفنه وقدرته على السداد. طوال المسرحية يرينا شكسبير مدى أهمية المال بالنسبة لشايلوك، لكننا عند تطور درامي معين، نجد شيئاً يتفوق على أهمية المال لديه، إلى درجة أنه يرفض النقود الكثيرة عندما تعرض عليه، ويختار هذا الشيء ويتمسك به بشدة. فما هو هذا الشيء الذي صار أغلى عنده من المال؟ إنه رطل اللحم، أي الانتقام والرغبة في التشفي، بعد أن يرد خبر فقدان سفن أنطونيو في البحر، الخبر الذي كان قاسياً على أنطونيو وأضاف حزناً إلى حزنه المبهم، وخبراً ساراً لشايلوك، جعله يقطع وصلة الندب التي كان يقيمها على جواهره الثمينة، التي فرت بها ابنته الوحيدة مع عشيقها المسيحي، رغم أنه بذلك الخبر يكون قد خسر الأموال التي أقرضها لأنطونيو. لكن شايلوك ينسى أمر المال تماماً، ويصير الانتقام أغلى وأثمن لديه من كل شيء. يلاحظ هنا أن شكسبير لم يجعل في تخلي شايلوك عن ماديته رفعةً وسمواً، بل مزيداً من الهبوط والتدني والانحطاط، ولا تخفى رمزية إصرار اليهودي على التمثيل بجسد المسيحي.
يصير عدم قدرة أنطونيو على سداد القرض، وإصرار شايلوك على اقتطاع رطل اللحم من جسده، عقدة تبحث عن الحل في المسرحية، ثم يأتي الحل على يد بورشيا بعد أن فاز بها باسانيو زوجة له، ونجح في اختبار الصناديق الثلاثة، تتنكر بورشيا في زي رجل، وتتقمص شخصية محام شاب بارع، وتلقي مرافعة ذكية تنقذ أنطونيو من انتقام شايلوك الوحشي، وتجرد المرابي اليهودي من ثروته بالقانون. يختفي شايلوك من أحداث المسرحية بعد المحاكمة، ولا نعلم شيئاً عن مصيره الذي لم يكترث به شكسبير، بينما تابع مصائر بقية الشخصيات إلى أن يطمئن عليها تماماً، ويجتمع كل بحبيبه في النهاية، ومعهم أنطونيو وحيداً بهدوئه المعتاد وصفاء نفسه. وهكذا كان تجريد شايلوك من أمواله إعداماً رمزياً له، وكان اختفاؤه نوعاً من الموت أراده له شكسبير.
كاتبة مصرية