في الوقت الذي يتركز فيه الاهتمام على الدراما التلفزيونية، وتُسخر كل الطاقات والإمكانيات لإنجاحها بوصفها السلعة الفنية الأكثر رواجاً وربحاً، تأتي الدراما الإذاعية المصرية لتحتل المكانة الرئيسية، من حيث القيمة الفنية والموضوعية، ذلك أنها تعتمد بالأساس على جوهر القصة والحوار وبراعة الإخراج والأداء التمثيلي، بدون إبهار الصورة الذي يميز الدراما التلفزيونية، ويغطي كثيرا من عيوبها بمحاولات التزيين وتحويل نظر المشاهد في اتجاه آخر، بعيداً عن ترهل الأحداث وتواضع الأدوات الفنية مجتمعة، بما فيها اجتهادات النجوم والنجمات ذوي المواهب الضعيفة من الذين تفننوا في إهدار الفرص فخسروا خسراناً مبيناً.
خلال الموسم الرمضاني الفائت، قدمت المحطات الإذاعية المصرية مجموعة متنوعة من الأعمال الدرامية، بإمكانيات ضئيلة وفقيرة لا تساوي في مجموعها ما تم تبديده في مسلسل تلفزيوني واحد، إذ لم تبلغ الميزانيات الإجمالية للإنتاج الإذاعي ما يعادل خمسه في المئة من إنتاج الدراما المصورة، وهو غُبن اعتادت علية الدراما الإذاعية التي يعمل صُناعها تحت سياسة مالية شديدة التقشف، لا توفر سوى الحد الأدنى من ضروريات الإبداع والفن، رغم فارق المستوى المدهش بين ما يُقدم عبر الميكروفون وما تنفرد الشاشة الصغيرة بعرضه، وهو ما يمثل جُل الأزمة في التفرقة بين المنتج الإذاعي المتميز ونظيره التلفزيوني الغث.
كان نصيب الشبكات الإذاعية الرئيسية من الإنتاج الدرامي هذا العام نحو أربعة أعمال هي الأهم من بين ما تم تقديمه، يأتي في مقدمتها المسلسل الديني التاريخي «سيدة يثرب» الذي أذيع في محطة القرآن الكريم على مدار ثلاثين حلقة، وجاء إنتاجه بمثابة محاولة محمودة لتعويض الغياب المزري والفاضح للدراما الدينية، التي تتناول فصولاً من حياة الصحابة والشخصيات المباركة في مطلع انتشار الدعوة الإسلامية، وقد وقع الاختيار في الدورة الإنتاجية الرمضانية على شخصية نسائية مهمة هي «أم عمارة»، أول من آمن بالدعوة الإسلامية من سيدات يثرب، وكان لها دور كبير في تحفيز بقية النساء على الدخول في الإسلام.
وقد جسدت شخصيتها ببراعة متناهية الفنانة القديرة سميرة عبد العزيز، التي أفنت وقتاً طويلاً في القراءة والبحث لمعرفة المزيد عن شخصية أم عمارة وحياتها وطبيعتها وملابسات دخولها في الإسلام وإيمانها بالرسالة، وبفضل الكتابة المُدققة للكاتب الدرامي محمد عبد السميع والأداء المتميز للأبطال، أشرف عبد الغفور وسوسن ربيع وغيرهما نجح المسلسل نجاحاً مبهراً يحسب بكل تأكيد لشبكة القرآن الكريم صاحبة المبادرة.
ويأتي مسلسل «شتات الشاهبندر» ضمن الأعمال الفارقة على كافة المستويات كونه يقدم الصراعات الجنوبية في صعيد مصر، ويطرح قراءة جادة لفكرة التناحر والتضاد والأزمات الناتجة عن التمييز الطبقي.
ومن الأعمال الملحمية أيضاً التي قدمتها الدراما الإذاعية، مسلسل «طبول الحرية» الذي يحكي قصة حياة المناضل والزعيم الافريقي نيلسون مانديلا، من الطفولة، إلى الزعامة عبر مشوار طويل من المحن والتحديات، مروراً بفترات الاعتقال القاسية ووصولاً إلى الحُكم وكرسي الرئاسة، وهو عمل مهم يُلخص مشوار الكفاح والنجاح ويعطي دروساً في السياسة والحياة العامة وسيرة البطل الافريقي الأسمر، اجتهد في كتابته وتمصيره عماد مطاوع، أحد المهتمين بكتابة الدراما الإذاعية والمتحمسين لها.
ولإذاعة صوت العرب إسهام مهم أيضاً في هذا الجانب الإبداعي الخاص، فمن خلالها تعرف المستمع على مكامن الثراء الإبداعي في الدراما النوعية بخصوصياتها ومؤثراتها الفنية الفريدة من، موسيقى وألحان وأغنيات كان لها دور في إحياء العلاقة بين الإذاعة وعشاقها من كافة الأقطار العربية، على خلفية النجاح الذي تحقق لمسلسلي، «عين الحياة» و«إنسان» وهما اللذان استحوذا على النسبة الأكبر من المستمعين خلال فترة إذاعتهما.
ويأتي مسلسل «شتات الشاهبندر» ضمن الأعمال الفارقة على كافة المستويات كونه يقدم الصراعات الجنوبية في صعيد مصر، ويطرح قراءة جادة لفكرة التناحر والتضاد والأزمات الناتجة عن التمييز الطبقي في المجتمعات التي تأسست ونشأت على تراث من القيم والقوانين الخاصة، المتصلة بالجاه والسُلطة والسلطان، تلك التي تضيع جراءها حيثية الإنسان البسيط وتضعه في مواجهه مستمرة مع علية القوم وأصحاب النفوذ.
يقدم سعد القليعي كاتب المسلسل مع المخرج أمجد أبو طالب نماذج كثيرة من أبناء الصعيد ورجاله، ويعدد مستويات الصراع في المناطق الجنوبية، ويوغل في عرض المشكلات الرئيسة بعمق على خلفية معرفته المسبقة بالمجتمع الصعيدي، باعتباره أحد أبنائه والخبير ببواطنه وأغواره، وبالفعل ينجح في إقناع المستمع بالحالة الإقليمية والمجتمعية الخاصة ودوائر الخلاف المستعر بين السادة من حُكام القطاع الجنوبي والرعية من بسطاء الناس، في أحقاب منقضية وعصور بائدة ترجع إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وعليه وظف المخرج قدرات الأبطال، أحمد بدير وأشرف عبد الغفور ومفيد عاشور ونشوى مصطفى توظيفاً مُحكماً، ما أعطى الأحداث مصداقية وجعلها أقرب إلى وجدان المستمع وذائقته، من تأثير الصورة الدرامية الملفقة في المسلسلات التلفزيونية، فضلاً عن تنشيط الذاكرة الجمعية لجمهور الإذاعة الذي عاصر المراحل الذهبية من تاريخ الدراما الإذاعية وتشكلت لدية ثقافة نوعية ورسخت بداخلة الحس الفني الأرقى وأهلته لاختيار ما يناسبه وما يرضيه بعيداً عن الاستسلام لما يُفرض عليه.
٭ كاتب من مصر
شكرًا جزيلًا لهذا التلقي الواعي والذي أنتج نقدًا يمثل إبداعًا تاليًا عودنا عليه دائما الناقد ذو البصيرة كمال القاضي