عاد إلى حيث كان، إلى حيث عليه أن يكون ولا يغادر: ناشط في حزب الأحرار اليميني النمساوي، دون جوان، ونازي الرغبات والهوى، والصفة الأخيرة، على أهميتها، لا تمثل خطراً فعلياً إلا حين يتحول صاحبها، هانز كريستيان شتراخه، وقد تحول مع الوقت، إلى قائد محبوب للحزب المذكور، ثم شريك مركزي في حكومة ائتلافية منتخبة سوف تجعله نائباً للمستشار، وهي مكانة عليا في البلاد.
تحول شتراخه من شعبوي يثرثر في المقاهي والشوارع حول مخاطر «أسلمة البلاد» وضرورة «تنظيفها» من الأجانب قدر المستطاع «حفاظاً على الهوية الوطنية للنمسا»، إلى قائد شعبوي في موقع صنع القرار وأقتراح الجديد والغريب من القوانين العنصرية.. صار سلطة، تقترح وتقرر وتنفذ أحياناً. ولكنها سلطة لم تدم طويلاً، فقد سقط نجم شتراخه إثر فضيحة الفيديو الذي يكشف فيه أمام سيدة روسية تزعم الثراء، عن استعداده لمساعدتها على شراء بعض الشركات النمساوية العامة مقابل مبالغ مالية ضخمة تُقدم عل شكل تبرعات لحزبه !
فضيحة واحدة أسقطت شتراخه وأعادته إلى حيث كان، وكانت تكفي وتزيد، فالبلاد، وإن هزتها رياح اليمين والفساد قليلاً أو كثيراً، تبقى تحت رعاية مرجعياتها الدستورية العالية وقوانينها المدنية الثابتة، إلى جانب برلمانها وأحزابها المعارضة ونقاباتها القوية. وهي، مجتمعة، قوة عارفة بأهمية الدفاع عن مكتسبات الدولة المدنية الديمقراطية وحمايتها من الفساد وأهواء السلطة المطلقة.
هكذا تكون المرجعيات العظيمة تلك قد أسقطت ذاك الحالم النازي، شتراخه، وأوقفت مسيرته السريعة، هو ومن لف لفه بعبارة أدق.
هوس بالأضواء
تحيلني شخصية هذا الوزير اللبناني مرات إلى شتراخه، تستدعيه وتُذكرً به : شاب مهووس بالأضواء. شعبوي، عنصري. قليل الثقافة والمعرفة وعميق الجهالة.. وفي أعلى هرم السلطة كذلك، مع اختلاف الدروب التي قادت كل منهما إليها : شتراخه عبر مواهبه الشعبوية وأصوات الناخبين. وباسيل عبر مصاهرته للرئيس ! ناهيك عن إجتماع المذكورين على غواية واحدة : اختراع الأعداء، الأجانب في الحالتين، ورد جميع الأخطاء الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الخ، إلى وجود أولئك الأعداء بين ظهرانيهما.. في الداخل النمساوي كما اللبناني !
وهي معادلة بسيطة لا تستدعي الغوص عميقاً في الافكار والفلسفات وقوانين الطبيعة :»لدينا مشاكل ولدينا غرباء.. نبعد الغرباء اذن فتنتهي المشاكل»! هكذا وبلمسة صغيرة للزر السحري، طرد الأجانب، يعد شتراخه جمهوره بإسترداد جنانهم الوطنية المفقودة، ومثله يفعل باسيل ! ولكن باسيل في لبنان وليس في النمسا، ولبنان لا يشبه النمسا بما يمكن ذكره، لا التاريخ هو التاريخ ذاته ولا اللغة ولا الهويات والإثنيات هي ذاتها، كما أن الاحوال المعيشية لا تتشابه في البلدين ابداً : لا تحاصص طائفي ماكر وهجين في النمسا. لا وجود لحزب عقائدي مسلح يحتل ضاحية من فيينا ويفرض سطوته على كل شيء في البلاد. لا إيران هنا برؤاها الظلامية ولا أثر لأصابع النظام السوري السوداء العابثة منذ عقود وعلى هواها، مثل حالها في لبنان. لا مخيمات فلسطينية بائسة ومحرومة من أبجديات الحياة جميعها تلتف من حول المدينة، ولا مطارح هامشية يتكوم فيها السوريون الهاربون من المذبحة اللعينة والمتواصلة في الجوار.
لا شيء من هذا وذاك في النمسا، ولا الأجانب / الأعداء. يتشابهون.
أجانب شتراخه هم الحالمون بشيء من الهدوء والرخاء، يجيئون البلاد بحثاً عن الأمن والعيش الهادئ، ويعثرون في أكثر الأحيان عليهما. في حين يجيء أجانب باسيل إلى لبنان هرباً من احتلال قديم هنا، أو استبداد بدائي هناك، يُرغمون على المجيء ولا يسعون إليه ولا ينتظرون شروطاً حياتية شبيهة بتلك النمساوية، بل يحلمون ويعملون على اصطياد فرصة سانحة تحولهم إلى أجانب عند شتراخه.. هرباً من لبنان ألذي هربوا إليه !
فكرة نازية
لا شيء في لبنان يشابه النمسا، ولكن باسيل يشبه شتراخه ويفوقه وقاحة وخفة.. خفة الولد المدلل، ووقاحة الأنا المريضة وهي تتضخم وترى الكون انعكاساً لظلها ولا تتردد لحظة في الكشف عن «تفوقها العرقي / الجيني»، كما فعل باسيل قبل فترة وجيزة وعلى الملأ ! وهي فكرة نازية صريحة ومعلنة لم يخش الوزير أحداً وهو يعلن عن افتنانه بها ! على العكس من شتراخه، وهو مثله مفتون بهذه الفكرة البغيضة، ولكنه يخشى المرجعيات القانونية المذكورة أعلاه، فلا يعلن صراحة عنها.
عاد شتراخه، بفعل فضيحة فساد واحدة، إلى مربعه الأول، بعيداً عن السلطة ومخاطر التأثير المباشر في الوجدان الشعبي، وقد تقوده الفضيحة قريباً إلى المحاكم، وربما السجن. وماذا عن باسيل مرة اخرى ، هو المتورط في فضائح مدوية أكثر خطورة وأثراً : إعتناق الأفكار النازية المريضة والدعوة إليها، ثم تحويلها إلى وقائع وسلوكيات مرئية تنهل من تلك الأفكار وتحتفي بجوهرها القبيح !؟
ما القوة القادرة هناك في لبنان على وضع نهايات قانونية حاسمة لهذا المد العنصري الشيطاني الذي يقوده ويحركه باسيل في البلد الصغير، وكيف تُوجد في ظل الغياب الفادح للمرجعيات التي تمنح القانون سلطته العالية وتمهد دربه؟
لا مرجعيات مدنية في لبنان قادرة على إيقاف باسيل وإرجاعه إلى حيث كان، مثل هذه المرجعيات الدستورية والقانونية التي اقصت شتراخه في النمسا، فلبنان في قبضة الطوائف والعصابات وأهواء الاستبداد في الجوارين البعيد والقريب، في قبضة «مرجعيات ما قبل الدولة بكثير» وهي المرجعيات اليتيمة الآن في لبنان، وهي، لا سواها، من تمنح هذا الوزير النازي مزيداً من دوافع الشطط والهذيان المرضيً، عوضاً عن الذهاب به إلى المحاكم والنسيان، حيث عليه أن يكون، على غرار الشبيه النمساوي المغادر، شتراخه !
٭ كاتب سوري