لو كان للحق عند المجتمع الدولي مثقال ذرة من أهمية لكان اعتمد نتائج تحقيقات السيدة فرانشيسكا ألبانيزي لإلزام دولة إسرائيل حدّها وتحميلها عواقب جرائمها الهمجية بعد أن أكدت مقررة الأمم المتحدة لشؤون الأراضي الفلسطينية المحتلة أن إسرائيل ممعنة في إبادة شعب غزة بتصميم إجرامي موثّق. ولكن بما أن الحق لا يزال مجرد أمنية، رغم كل جهود القانون الدولي، فإنه لا مناص من التعامل مع منطق القوة الأمريكية السائد، ولو أن «الجديد» هذه المرة أن الولايات المتحدة استجمعت بعض ما بقي لديها من «شجاعة» أخلاقية وأخذت جانب الحق. نوعا ما، وبقدر ما. فأن تقدم القوة العظمى، للمرة الثالثة (فقط!) طيلة أكثر من نصف قرن، على الامتناع عن التصويت على مشروع قرار يتعلق بالبقرة الإسرائيلية المقدسة أمر ذو دلالة. ودلالته في ندرته، أي في شدة صعوبته. فالامتناع هو أقصى ما يسع الولاياتِ المتحدةَ فعلُه، أي أنه يساوي، سياسيا، تصويتا أمريكيا ضد إسرائيل. ولأن الأمر لا يفهم إلا على هذا النحو في واشنطن، فقد ثارت ثائرة نواب الكونغرس المنحازين لإسرائيل من جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء واتهموا بايدن بتشجيع حماس! ولكن إدراة بايدن سرعان ما أفرغت هذا الموقف النادر من دلالته فجعلته عديم القيمة بمسارعتها للتودد لإسرائيل وللتعبير عن الأسف لغضب نتنياهو من هذه الطعنة الأمريكية ولمماطلته في إرسال ذلك الفريق الوزاري الموعود الذي تمخض عنه جبل اجتماع «تعال إلى يسوع».
إنها لجديرة بالرثاء هذه الإدارة الأمريكية التي ما أن تجاسرت بعد شهور، بل بعد دهور بمقياس زمن المعاناة الفلسطينية، على الامتناع عن التصويت لرفع العقبة الوحيدة المانعة لإجازة قرار مجلس الأمن الداعي إلى الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة، حتى خارت عزيمتها وبدأت تعض أناملها ندما. ليس لأنها تفتقر إلى الشجاعة فحسب، بل ولأنها لا تحسن حتى مجرد التظاهر الكاذب بها! ومعروف أن موقف الشجاعة الأمريكي الأخير يعود إلى 23 ديسمبر 2016 عندما امتنعت إدارة أوباما عن التصويت على مشروع قرار يشجب استمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية.
أن تقدم القوة العظمى، للمرة الثالثة (فقط!) طيلة أكثر من نصف قرن، على الامتناع عن التصويت على مشروع قرار يتعلق بالبقرة الإسرائيلية المقدسة أمر ذو دلالة
والأكيد أنه كان يمكن لأوباما فعل أكثر من هذا أثناء ولايته الثانية، ولكنه جَبُن (مثلما جبن عن معاقبة النظام السوري على تجاوز «الخط الأحمر») رغم كراهيته لنتنياهو ورغم الإهانات العلنية التي كان الإسرائيليون يكيلونها له ولجون كيرّي. على أن إدارة أوباما ردت على الاتهامات الإسرائيلية بالطعن في الظهر بعد امتناعها عن التصويت، وأكدت أن الاستيطان يعرقل جهود السلام وأن مناهضته سياسة أمريكية ثابتة، وقالت آنذاك إن البيان الإسرائيلي «يزخر بالأخطاء والأباطيل». ولكن رغم أن موقف إدارة أوباما هذا هو أضعف الإيمان لأنه مجرد دفاع عن قرار الامتناع، فهو مما لم تجرؤ عليه إدارة بايدن البائسة.
أما أول مرة امتنعت فيها الولايات المتحدة عن التصويت، بعد عشرات المرات من استخدام الفيتو لصالح إسرائيل، فقد كانت في 4 أكتوبر 1985 في أعقاب شن ثماني طائرات إسرائيلية ثلاث غارات على بلدة حمام الشط، حيث مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، في محاولة فاشلة للقضاء على ياسر عرفات. وقد أسفر العدوان عن مقتل 50 فلسطينيا و18 تونسيا. وبالطبع أعلن الرئيس ريغان تأييده لما فعلته إسرائيل، وقال المتحدث باسمه لاري سبيرز إن هجماتها تدخل في نطاق الدفاع المشروع عن النفس! ورفعت تونس شكوى إلى مجلس الأمن للمطالبة بإدانة إسرائيل وبالتعويض عن الأضرار. وكان قد استبد ببورقيبة الغضب فاستدعى السفير الأمريكي. وعندما استقبله، بحضور محمد مزالي وبورقيبة الابن ومحمود المستيري، لم يسمح له بالجلوس وإنما طلب منه إبلاغ الرئيس ريغان أن تونس تأمل أن تراجع الولايات المتحدة موقفها المنافي للقانون والأخلاق، وهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية إن هي لم تفعل! ولما أدرك ريغان جدية الموقف أصدر الأمر بعدم استخدام سلاح الفيتو المعتاد. وهكذا امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن 573 المندد بالعدوان الإسرائيلي على تونس. فكانت تلك هي المرة الأولى التي تمتنع فيها عن التصويت على قرار يدين إسرائيل. ولكن البون شاسع بين ريغان وبايدن. فقد كانت إدارة ريغان أقوى وأرفع من أن تنزل إلى درك تبرير موقفها أو تفسيره لإسرائيل، بينما كانت حكومة شمعون بيريس أعقل من أن تتطاول عليها بالنقد أو حتى بمجرد العتاب.
كاتب تونسي