إن المثقف العربي اليَوم في حاجة إلى الاعتراف بجهله ونقصه. لكن، من هو المثقف العربي الذي يقدر على الاعتراف بجهله ونقصه؟ الجهل بماذا؟ الجهل بالذات العربية بما هي كذلك كهوية ومغايرة. ربما يعرف كل شيء، إلا ذاته كمسألة ضمن مسألة الوجود. على أنْ تكون المعرفة هنا مغايرة تماماً للسائد: «كلما أدبني الدهر أراني ضعف عقلي، وكلما ازددتُ علماً زادني علماً بجهلي». يقول الشافعي.
فإذا أردنا نحن العرب أنْ نؤلف معجماً للأفكار العربية الجاهزة، على نحو معجم غوستاف فلوبير، لا أعرف كم سيلزمنا من معجم، وما هي الأشكال الهندسية وحجم دفاتها الكفيلة بضم هذه الأفكار، أو الأحكام الجاهزة. فمتى يمتلك الكائن العربي، بمن فيه المثقف، ما يكفي من شجاعة الاعتراف بالنقص؟ وإلا كيف يمكنه أنْ يدري أنه لا يدري. من أهم ضرورات الحكمة تلك، وأس أي محاولة للتفلسف، أنْ تدري أنك لا تدري. ليس في فلسفة يونان وحدها، بل في فلسفة العرب أيضاً.
أُفضل قول «لا أعرف» بدل الإتيان بأجوبة جاهزة، أو بالأحرى تقيؤ أفكار مترسبة. ليس من باب التواضع، وإنما من باب إنصاف الحقيقة والانتصار لكلمتها: السؤال ولا شيء غيره؛ لأن الجاهز وإنْ كان يُقدم لنا نفسه في صورة من صور المعرفة الحقة، ويبث في أنفسنا ضرباً من ضروب الطمأنينة النفسية، فإنه لا يُقدم لنا أكثر من صورة أو فكرة لا واعية، لكيلا أقول وهمية، عن الموضوع أو الذات المعنية بالتفكير، التي طبَّعَ معها الفكر بحكم الأُلفة، وصارت تُمَثَّلُ كبداهة من بداهاته المتكلسة. حيث تقفز هذه البداهة، أو لنسمها كِلْسَة )نسبة إلى كِلْس(، أعني بالكلسة هنا حُبَيْبَة أو حُبيبات الجير السائل، التي تتكون نتيجة ركود الجير وتكلسه، قلنا تقفز هذه الكلسة إلى الوعي، أو لنقل تستشيط كلما هيجها مشكل أو أمر معين لتصبغه بلونها، فتكلسه تكليساً.
عندما أقول «لا أعرف» وأتصرف على هذا النحو، فإني أبعث في نفسي الرغبة في التفكير في ما لم أفكر فيه بعد، أو ما لم أفكر فيه على نحو مغاير بعد، ما يفسح مجالاً أوسع أمام الفكر للانبعاث والخلق والإبداع والفعالية، عوض الاكتفاء بالجاهز أو المتكلس من الأفكار، ومن ثم المُساهمة في مجاوزة القصور الفكري )والوجودي( الحالي للكيان العربي وغير العربي من مجتمعات الهامش، حتى لا أقول العجز أو بشكل أدق العقم، وإنْ كنت أَجِدُ العبارة الأخيرة أدق من غيرها في توصيف آفتنا، باثولوجيا الفكر العربي.
لنفسح المجال أمام تخصيب الفكر. هذا هو شعار المرحلة: فلنعلنها تخصيباً للفكر، فلنفكر بطرق خاصة جداً. فلنعلنها شجاعة للنقص. وسيلتنا لتخصيب الفكر. على ألا يُفهم من هذه الدعوة، الاعتراف الفعلي بأننا لا نعرف، أو لا نعرف ذواتنا والعالم الذي نعيشه على نحو مغاير، كما تتطلبه مجتمعاتنا من جهة والعصر الحالي من جهة أخرى، على ألا تُفهم على أنها دعوة إلى الاعتراف بالجهل التام أو الصفحة البيضاء. فلا وجود لصفحة بيضاء طاهرة لا سواد فيها، فإذا نحن استعرنا الترجمة المغربية لكلمة مسودة، التي تسمى عندنا بـ»الوَسَاخْ» )من الوسخ(، فإن الكتابة )أو التفكير( في العمق هي توسيخ لذلك البياض وجرح لطهرانيته. غير أن المعرفة هنا ليست هي انعدام الجهل، بل هي الاعتراف به، ذلك الاعتراف الذي يحتاج إلى شجاعة المعرفة أكثر من إرادتها، بما هي شجاعة نقص بالضرورة.
فعندما أعترف بلا معرفتي بأي شيء، كما هو شأن لا معرفتي بذاتي والغير أو الآخر بمسافة أكبر، أو أعلنها بشكل صريح، وأُفعل فكري على هذا النحو، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأمر لا يتعلق باستعارة سقراطية وحسب، بل يتعلق بسؤال فاتح، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أي نفي لمعرفتي السابقة – أي ما يسمى عادة بالتراث – أو الانطلاق من الدرجة الصفر للفكر، بقدر ما يعني تحرير تلك المعرفة من لعنة الأجداد الموتى، التي تلاحقنا منذ انسحابنا القهري كفاعلية تاريخية، الذي لم يكن أبداً انسحاباً استراتيجياً وتَكْتِيكِياً أكثر منه انسحاباً اضطرارياً، بعد انهيار النموذج الحضاري العربي الإسلامي كمنظومة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. وبالتالي التمكن من تحرير أنفسنا من هذه اللعنة التي حولتنا إلى عالَم مسوخ. لهذا هو سؤال فاتح، لأنه يفتح لنا الباب، أو بالأحرى يفجره، من خلال خيمياء سحرية، من شأنها تحويل الكلسات المتكلسة إلى حُبيبات بارودية، كي يتسنى للأرواح الملعونة، أو ما بقي منها حياً فينا، التي تسكن الجسم العربي وتُعيق تطوره، منذ أكثر من خمسة قرون، أنْ تذهب دون رجعة.. إلى الأبد.
متى سيتعلم العرب وغير العرب من مجتمعات الهامش قول: لا نعرف؟ لا أعرف، ربما عندما يتعاملون مع هذه العبارة السحرية بوصفها سؤالاً لازم- لما يلزم- لوجودنا كفعالية تاريخية وحضارية. وإنْ كان سؤالاً لازماً، أو لابد منه، فذلك لأنه سؤال نسيان أكثر منه سؤال ذاكرة. فإذا أريد له أنْ يكون تذكراً سيكون تذكراً للنسيان.
كانت جدتي كلما وجدت صوت التلفزيون مرتفعاً أكثر من اللازم، تقول لنا: اخفضوا صوت التلفزيون، اخفضوه حتى يتسنى لكم الإصغاء جيداً. ذلك هو ميراث جدتي، ويا له من ميراث! هذا تعريف للتراث. وما أكثر أمراضنا الاجتماعية والثقافية الناجمة عن هذا التعريف للتراث، وتعاملنا معه على هذا الأساس. إن التراث ليس هو ما ورثناه أو ما نرثه من أجدادنا وأسلافنا وحسب، وإنما هو ما سنورثه لنسلنا وأحفادنا أيضاً، أو ما لم نورثه لهم بعد. هذا تعريف خاص جداً، قد يحتاج منا تعلم الصمت والنسيان، والتحلي بالشجاعة اللازمة للاعتراف بالنقص. فكيف يمكن للمرء أنْ ينصت لأصوات الوجود المرهفة وهمساته، وهو يصرخ أو يتكلم بصوت عال. هل تريد الإصغاء للوجود العربي بما هو موجود؟ اخفض صوتك. إن الإصغاء بهذا المعنى هو بمثابة مرادف لكل من الصمت والجهل والنقص كفعاليات للسؤال ومفعولاته.
من هو هذا المثقف العربي اليوم، الذي يملك شجاعة النقص، من ذا الذي يقدر على قول: أنا لا أدري، أنا إنسان جاهل، أنا كائن ناقص؟ قد يكون ترجماناً، أو معلماً للاختلاف ومتعلماً له، الاختلاف الذي لا محيد عنه. فلسانه لا ينفك عن قول: إذا رأيت مني جهلاً بشيء أو أمر ما، واعتبرت ذلك نقصاً، فاعلم أنني كائن ناقص يمتلك شجاعة النقص.
كاتب مغربي