إنّي أكتُبُ بحُبٍ عمّا أقرأُ، أعني: إنّي أحبُّ بكتابتي عمّا يُكتَبُ بحُبٍّ. وقد يحدث أن أعْتُبَ على نصٍّ بسبب ما أقدِّرُ فيه من هَناتٍ فنية ومضمونية، ولكنّ عتبي عليه يظلّ دومًا عَتَبَ المُحبّين. لا توجد موضوعيّة في النّقد مهما ادّعت المناهج ذلك. فقد كتب بارت – وهو أحد أعمدة ما يُسمّيه العربُ النقدَ الموضوعيَّ- كتابَ «سولرس كاتبًا» في وقت لم يكتب فيه فيليب سولرس الشابُّ شيئًا ذا جدوى. وحدهم الأموات قد يكتبون -إذا كتبوا عن النصوص – بموضوعيّة عاليةٍ.
٭ ٭ ٭
تُقَدِّمُ مُضيِّفةُ الطائرةِ، في بداية كل سفرةٍ، مشهَدًا تشرح فيه كيفيةَ استعمال سُترة النجاة. وعلى افتراض أنّ المشهدَ قد يُطَمئن المسافرين على بلوغ مقاصدهم سالمين، فإنّ السُّترةَ نفسَها لم تُنقِذْ راكبًا واحدًا -على مدى تاريخ كوارث الطيران- من الموت. أُشبِّه المناهجَ النقديةَ بسُتْرة النجاة: تعِد دومًا ببلوغِ معاني المقروءِ ثم تُخلف وَعْدَها دائمًا. القراءةُ رحلةٌ مُرعِبةٌ كالحُبِّ، بل هي كالموتِ، لا نعيشها إلاّ بشكلٍ شخصيٍّ: بأجسادِنا وخيالنا فقط.
٭ ٭ ٭
الأدبُ نوعان: أدبٌ بَارٌّ بواقعه وأدبٌ عاقٌّ لواقعه. إن الأدبَ البارَّ أدبٌ متأدِّبٌ يُجيد الكناية إلى حدِّ الزّيف والتزلّف، ويقع دوما في خانةِ «المَرْضيِّ عنهم»، ويتشكّل وَفْقَ ما يُراد له أن يكون عليه، أي إنه يقبل أحكامَ واقعه ويلعب تحت راية قوانينه، ويعيش بذلك متوهِّمًا أنه سيِّدُ الحاضر (لأنه يحظى بالاعتراف الرسمي). أما الأدبُ العاقُّ فهو أجملُ ما يكون عليه أدبٌ في الدنيا وأنْفَعُ. وقَدَرُه أنّه لا يُعْنى بما هو واقعٌ في أدب النّاسِ وإنّما هو يتحرّش بكلّ ما يقع في حيّز قِلَّة أدبهم، فذاك مجالُه، فلا تراه إلاّ وهو يتلاعب بواقعه حتى يُنْهِكَ قوةَ أنظمته المادية والرمزية، ثم يَنْقَضُّ عليها ويَنْتَهِكُها، ويكون بذلك بانيَ أدبِ المستقبل. الأدب العاقُّ غير محايد، إنه يجيدُ السخرية، ويُجيد الهجاء، ولكنّه، وهو يسخر أو يهجو، يضربُ بسهمٍ في أفُقِ التجديدِ.
٭ ٭ ٭
شُبِّهَ المُبدِعُ بذاك الذي يكون أمام اتجاهيْن مختلفيْنِ وعنده رغبةٌ جامحةٌ في أن يَمشي فيهما معا في الآن نفسِه. وهذه الحيرةُ المَمْزوجةُ بالرغبةِ هي في رأيي ما يَحْرق الكاتبَ ويكاد يُفْنيه، وإنّي لأعجبُ من قارئٍ يقرأ نصَّ ذاك الكاتبِ ولا يرى الدّخانَ الذي يَصَّاعد من كلماتِه. ولا يختارُ المُبْدِعُ حُلْمَه بمحض إرادته، وإنّما هو يقع فيه، وبسبب ذلك لا يملك إلاّ أنْ يكون فيه حالِمًا مجروحًا ويَقِظًا: أيْ أنْ يحلم وجرحه يُخبرُه بأنه يحلم حلمًا حقيقيًّا، وهذا ما يُميّز حلَمه عن أحلام الناس، ويُخوِّل له أيضًا أن يكتُبَه لكيْ تَصنَعَ منه القراءةُ وليمةَ معنى لهؤلاء.
٭ ٭ ٭
إنّ خوف الكاتب العربي من واقعه، يظهر جليًّا في لغته حتّى وإنْ حاول إخفاءَه فيها: لأنها تظّل ترتعدُ من كلّ تأويلِ، وإنّ القارئَ ليشعُرُ أحيانًا بارتجافاتها الخَوْفيّةِ في الورقةِ التي كُتبتْ فيها.
٭ ٭ ٭
«الروائيُّ» و«النّاقِدُ الروائيُّ» صِفَتان إبْداعيَّتان مُتَضادَّتانِ مثل قُطْبَيْ حَجَرِ المغناطيس، ومن ثَمَّ فإنّه يستحيل الجمعُ بينهما في موصوفٍ واحِدٍ إلاّ بحِكْمةِ حكيمٍ لن يُوجَدَ إلاّ خارجَ الشُّروطِ الطبيعيّةِ للوجودِ ذاتِه. ومتى يتَمُّ الجمعُ بينهما بالقوّةِ في كاتِبٍ مّا -ولن يتمَّ ذلك إلاّ بمهزلةٍ- فإنهما تُربِكانِه وتُفْسِدانِ عليه ما يكتُبُ من مَعانٍ: أيْ تُخرجانه من دَارةِ الإبداعِ. لأنّ الصِّفةَ منهما لا تعيش إلاّ بإبْعادِ الأخرى عنها، تُبعِدُها لتظلَّ تشتغل في أُفُقِ أبْعَادِها الفنيةِ، على الأقل هذا ما تُخبِرُ به تجارِبُ النُقّاد الذين كتبوا الروايةَ!
٭ كاتب تونسي