شعرنا المعاصر إلى أين؟ (14): الشعر السوري يواجه مُستحقات «الحرب» من أجل الخلاص

بعد عام 2011 الذي أتت معه الحرب ‹القذرة» على حين غرة، تغيرت أشياء كثيرة في البلد، وانطفأ بريق أشياء أخرى. لم يكن الشعربعيداً عن الطرق الكثيفة التي ضجتْ بالناس، وهم يحملون سلال أوجاعهم إلى جميع العالم. تغيرت روائح مفرداته، سُمْكها ومزاجها. أمسينا مع شعر جديد، ورؤية جديدة وحساسيةٍ جديدة، بل انقسم أصحابه إلى شعراء الداخل وشعراء الخارج أو المنفى. ورُبما بدا هؤلاء كأنهم ضحايا لحربٍ أخرى، فقد تدخل هوى السياسة والموقف مما يجري. وبدا الشعر، بعد أعوام الحرب، يواجه تحت القصف مأزقا؛ بدا كأنه جردة حساب غير دقيق في ضوء قراءات مستعجلة.
في الجانب الآخر، ثمة قلةٌ حافظت على مسافةٍ ما، صعبة وضرورية، حتى يكون للسان الشعر ما يقوله بكل صدق وجرأة، أمام شاشةٍ عظيمة تتغيرُ بسرعة البرق وكثافة الألم، بل تحت الأنقاض التي تتدفق بنهر الصرخات.
ولنا أن نسأل إذن: الشعر الذي كان في معظمه غنائياً، كيف صار تراجيدي النبرة وداكن الأبعاد؟

محمد المطرود: مساهمة عن الحال والمآل

ثَمةَ سرديةٌ مكتملةٌ في قراءة الراهن السوري الثقافي والشعري تحديداً، سرديةٌ حاسمة في بنية القراءة نفسها، أقصد العطالة التي تَسِمُ مشهد الفوضى الآني، هذا الآن المفتوح على الأسئلة وكذلك على الحِدة فإما مقدسٌ وإما مدنسٌ، بريءٌ أو غيرُ نزيهٍ؛ ولهذا فقراءة تذهبُ إلى آنِ تشكل الدولة (السورية) ستذهب بالضرورة إلى (الوجود المخملي) إلى طبقة شاعرةٍ أرستقراطيةٍ مؤهلة ثقافياً واجتماعياً، وتحتل مناصب مهنية ودبلوماسية، قربها ذلك من الآخر البعيد والمختلف ثقافياً، وأعطاها أحقية الحضور والمنافحة. ولو أردنا تفهم أداء هذه الحقبة القلقة، سيتوجب علينا تلمس تقنيةَ القصيدة المخلصة لأوزان الفراهيدي من حيث الشكل، وحُملتْ بالتناصات مع الأساطير، وعُنيت بالقضايا الكبرى، كما لو أن الشعرَ لسانُ حالِ القضية، وليس هو قضيةٌ بذاتهِ – حسب رينيه شار- وهذا سينسحب على ثورة الشعر الجديدة وانبثاق التفعيلة في ما بعد، وقد نجد بدوي الجبل وشفيق جبري وعمر أبي ريشة ونزار قباني ممثلين صالحين لتبئير هذه الفترةِ تاريخياً ونقدياً.
الفترات التي تتفاوتُ من حيث تبلور شخصيات جديدة ودخولها المشهد، لم يكن بحجمِ ولادات المشاريعِ الثورية شعرياً، التي صارت أمراً واقعاً ومشروعاً من جهة التفعيلة، بروادها وطروحاتهم، أو من جهة قصيدة النثر الأكثر إشكاليةً، والأكثر مجلبةً للعداء، بحيث لم يُعد «الناثر الشعري» متصدياً لحرب مع زملائه في خنادق الإشكال الأخرى، وإنما في حرب مع حراس الفضيلة والتراث والقومية، ولم يخفف من هذا الغلواء جيرة شعراء فاعلين مثل ممدوح عدوان، ومحمد عمران، وشوقي بغدادي، الذي تعرض لقصيدة النثر بوصفها «سُماً صهيونياً» سانَدهُ غيره من مجايليه والمشتركين معه في شكل الكتابة. تأتي مرحلة السبعينيات، بدخول سوريا انقلاباً سياسياً، لا يشبهُ الانقلابات التي سلفت، أكثر صرامة ومنهجية في الاستبداد، بحيث انحسرت العدالة الاجتماعية والمدنية، وارتفعت حدة الشعارات، وما أكد هذا التحول/ الزلزال هو استمراره لخمسة عقودٍ، منها عقدٌ من الحرب تلا ثورةً مُحقة. يكاد يكون هناك تحول شعري أيضاً غير معني بالأبوة لما سبقهُ من أسماء، لكنه ينتمي إلى المدارس ويتجاوزها في خلقِ مناخٍ آخر أقرب إلى الذاتية والهموم اليوميةِ منه إلى القضايا، على الأقل في خلافٍ مع الشعراء الذين استثمروا في (العام) العربي، وأهدروا الكثير من الغنائية، لحسابِ ما يمكن أنْ يتماثل فيه جميعهم شكلاً ومضموناً، اللهم إلا ما ندر.

في قراءة الراهن الشعري السوري، لا يمكن عزل سنوات الحرب عن حركية الثقافة عموماً، وحركية الشعر خصوصاً، فالسوري الذي لم تخلُ قصيدته قبل هذا التاريخ من مفردة الحرب، ربما استبطاناً أو استشرافاً لمستقبلٍ صار راهناً وواقع حال مأساوي.

فمن احتراق نزيه أبي عفش الداخلي، وقصيدته الهادئة كأنها مقبوسات إنجيلية – ليس مدحاً، هو قول يخص المفردة المسيحية في شعره – إلى إسماعيل عامود وسليمان عواد، إلى العلامة التي ستكون فارقةً متمثلةً في محمد الماغوط الخارجِ على اليوتوبيا بتمردهِ، ونهاياتِ قصيدته الانفجارية. ولا غرابة في القول إن هذه الطفرة أو المسخ الجميل في السائد الشعري السوري، قد أرخى ظلاله على المشهد العربي شعرياً، وأدخل الشفوية غرفة القارئ، ساحباً البساط من تحتِ الغنائية العالية في قصيدة نزار قباني، وكأننا هنا أمام شهادةٍ حيةٍ عن غيابِ الإيقاع التقليدي، وحضوره كموسيقى تُشكلها المفارقة والقفلة المخاتلة.
يستمد الثمانينيون من معين السبعينيين، وتأتي تجارب منذر مصري، وبندر عبد الحميد، وعادل محمود، ورياض الصالح الحسين، بما يُبديه من جلَدٍ في المحافظة على خيط الود بينه وبين الماغوط من جهةٍ، وبينه وبين أقرانه من جهة أخرى؛ فهو يكتبُ بحساسية أخرى، وتكاد تكونُ قصيدته لا تخلو من الرؤيا ومثقفة تقنياً، على نحو ما سيجعلهُ أباً إلى جانب الماغوط وأدونيس ومحمود درويش وسليم بركات. قد يرى بعضهم تطرفاً في هذا الرأي، إلا أننا لو عملنا ثبتاً جغرافياً لانتشار (الأبوات) سنلحظ بوضوحٍ شساعة المساحة التي يحتلها. رغم عقم التجييل، الذي سيكون مدرسياً ينفع الدرس النقدي، ولا يحيط بالتحولات الحقيقية للشعر بعد الثمانينيات، مروراً بجيل التسعينيات الذي أنتمي إليه والألفية، وراهن الحرب بعد 2011، فإن قصيدة مفتوحة على الذات والتشظيات والتجارب، تزاوج بين الرؤيوي واليومي الشفوي، وتنفتح أكثر على استيعاب السرد بتقنية النص المفتوح، كما لو أن الشكل المطروح في قصيدة النثر صار ضيقاً على الفضفضة الوجودية للشاعر السوري، المقترب بحذر من قول روايته، هذا إذا لم يتحول إلى الرواية أساساٌ، ليس انطلاقاً من (موت الشعر) أو استسلامه أمام السرد البحت، وإنما لخلق توازن مع الذات المتشظية والعالية، والقارئة لتفجرات التقنية وانعكاسها على المعيشي والسلوكي اليومي.
في قراءة الراهن الشعري السوري، لا يمكن عزل سنوات الحرب عن حركية الثقافة عموماً، وحركية الشعر خصوصاً، فالسوري الذي لم تخلُ قصيدته قبل هذا التاريخ من مفردة الحرب، ربما استبطاناً أو استشرافاً لمستقبلٍ صار راهناً وواقع حال مأساوي، هو اليوم ينتجها لغةً حقيقية وليست محايثة، ما خلق حدية بين خارج وداخل، خارج يمثل الشتات والنجاة بما أمكن ومهزوم أمام اللغة البديلة والتفاوت الحضاري، ويستشعر في الوقت ذاته نديته الأدبية لما كان يحسبه مُعلماً، وداخل مهزوم يصارع ليكون على قيد الحياة، مفسراً بطريقته الحرب وارتدادها على نصه ونفسه، وكذلك صراعه مع خارجه – أي الشتات – الذي صار (آخر) خارجه، بحكم ما يتحصله من إمكاناتٍ في الحضور، في وقتٍ يمارس الغيابُ فعله بضراوة على هذا الخارج. ترتد الفوضى في مَنْهجةِ قراءة مستوفية للمشهد إلى الكثير الكثير على حساب النوعِ والأهمية والاشتغال، بحيث أن الدراسات والأنطولوجيات التي ارتأت التصدي للمرحلة وتأطيرها، كانت مشغولة بحالها؛ أي أن القائمين على هذه الأفعال لم يكونوا أشخاصاً حياديين، وبالتالي نزيهين، يمكنهم تقديم صورة موضوعية. وها أنا أتحاشى بهذه السردية الاقترابَ من الأسماء والحساسيات التي أراها شخصياً الأقدر على تمثيل حركة الشعر بوصفها مشاريع مستمرة، وترتجع إلى حمولة معرفية، وتتخذ الكتابة طريقة حياة.
إن قراءةً ترومُ الراهن الشعري السوري هي مغامرةٌ، لا تتخلصُ من المثالب في ما لو بقيت جهداً فرديا، أسيرَ ما يراهُ المُكاشِفُ صحيحاً مطلقاً بحكم قربه أو بعده أو مزاجه، ولم تُمَأسس فعلها – أي القراءة – من خلال ورشة نقاد وباحثين. ولعلي بما فعلتُ في سردية أقرب إلى التاريخية والعامة، وضمنَ مساحةٍ مقننةٍ، فإنما تملصتُ من المساءلة.

أديب حسن محمد: أجيال ورؤى

ثلاثة أجيال شعرية استمرت في رفد خريطة الشعر السوري، بما يشكل سماتها وتضاريسها المميزة؛ جيل الثمانينيات الشعري الذي استلم الراية من الأصوات المتفردة في جيلي الستينيات والسبعينيات، من أمثال: محمد عمران، وعلي الجندي، وعلي كنعان، وسليم بركات، وممدوح عدوان، ونزيه أبو عفش، وفايز خضور، وعصام ترشحاني ومن قبلهم؛ محمد الماغوط، وأدونيس، وسنية صالح وغيرهم..
تَميز جيل الثمانينيات بحضور أقوى لقصيدة النثر عبر الاسم الأبرز رياض صالح الحسين، وبندر عبد الحميد، وإبراهيم الجرادي، ومروان علي، ومنذر مصري، وإبراهيم اليوسف، وطه خليل، ثُم شعراء قصيدة التفعيلة الذين حاولوا الخوض في التجريب لأقصى الحدود مثل عبد القادر الحصني، وعبد النبي التلاوي، وسعد الدين كليب، وعلاء عبد المولى، ونزار بريك هنيدي، وثائر زين الدين، وكمال جمال بك وغيرهم..

في جيل التسعينيات بدأت قصيدة التفعيلة بالنضوج وأخذت التجريب إلى أقصاه، وكذلك في قصيدة النثر، لكن الأمر ما لبث أن عاد إلى التقليد مع قدوم جيل الألفية الثالثة، حيث انتعشت القصيدة الكلاسيكية.

جيل التسعينيات، أو كما يطلق عليه «جيل الجوائز» كان من الأجيال التي شكلت علامات فارقة في حركة الشعر السوري، حيث كان الصراع على أشُده في الساحة الشعرية بين الأشكال الشعرية الثلاثة. ففي حين سادت القصيدة الكلاسيكية في المنابر الحكومية والرسمية، أخذت قصيدة التفعيلة الكثير من الزخم من خلال الجوائز الشعرية التي ظلتْ حكرا على هذا الشكل الشعري حارمةً شعراء قصيدة النثر من نيل حظوتها، إلى أن ظهرت منابر وجوائز خاصة بقصيدة النثر في نهاية الحقبة التسعينية. من الأسماء المميزة التي ظهرت في قصيدة التفعيلة: أيمن معروف، وعيسى إسماعيل، ومنير خلف، وطالب هماش، وسامر رضوان، وعباس حيروقة، وماجد قاروط، ومحمد خير داغستاني وعيسى الشيخ حسن. ومن شعراء قصيدة النثر: رولا حسن، وهنادي زرقة، ومحمد المطرود، ومحمد الحموي، ومحمد عيسى وغيرهم.
في جيل التسعينيات بدأت قصيدة التفعيلة بالنضوج وأخذت التجريب إلى أقصاه، وكذلك في قصيدة النثر، لكن الأمر ما لبث أن عاد إلى التقليد مع قدوم جيل الألفية الثالثة، حيث انتعشت القصيدة الكلاسيكية، لاسيما مع ظهور برامج المسابقات التلفزيونية التي – وبسبب من تركيزها على الشعر الكلاسيكي – جعلت الكثير من التجارب الشعرية الواعدة ترجع إلى النمطية والكلاسيكية طمعا في المكافآت المجزية، والظهور الإعلامي والتسويق للمهرجانات الشعرية والمناسبات الثقافية هنا وهناك… وفي هذه النقطة تشترك الأجيال الشعرية في كل الدول العربية. لذلك باتت غالبية الدواوين الشعرية للشعراء السوريين المنتمين لحقبة ما بعد سنة 2000 متشابهة وغير ذات بصمة أو وقع، فهي في معظمها إعادة إنتاج للتراث الشعري وعودة له بالمواقعة والتنصيص في أحسن الحالات. هذا في ما يخص قصيدتي التفعلية والعمود. فيما يخص شعراء قصيدة النثر لم تفرز الألفية الثالثة في سوريا شعراء لهم بصمة مميزة أو تفرد، ولذلك وقعت معظم الدواوين في بساطات وتعقيدات، هما ما تنفر منه قصيدة النثر في العادة التي تغزل خيوط فتنتها في المسافة بين القطبين، اللذين يدلان على قصور الموهبة الشعرية، وعجز الأساليب عن خلق شعرية تلائم إبداعات قصيدة النثر السورية التي كانت في الريادة على الدوام.

صلاح إبراهيم الحسن: الشعر في عشرة أعوام… تسع طلقات وقلم

في الشعر السوري من أين للراصد أن يبدأ، فما حدث في سوريا في الأعوام الأخيرة أشبه بالانفجار الكبير الذي سينجم عنه شكل جديد للمكان والهوية والأدب والإنسان، لكن إن كان ولا بُد من البداية، فلتكن مما هو جمالي فني خاص وخالص من براثن الأيديولوجيا، وما يؤطره من اتجاهات عامة قد بدأت تتلمس درب آلامها باحثة عن خلاصها الفردي والجماعي. في الشعر السوري تجد نفسك في مصيدة الثنائيات الحادة والحارة التي فرضتها مآلات الحالة السورية، وما يمكن أن نضعه تحت عنوان عريض هو أدب الحرب، وقد ازدهرت تحت رمادها اتجاهات كثيرة منها مثلاً- أدب السجون وأدب الخيمة وأدب الملجأ أو المنزح على رأي أحد الشعراء. من أبرز تلك الثنائيات التي لا تكفي الإشارة لها إلا بقدر التذكير بما هي أهل له من الدرس والتصنيف مستقبلاً: الموت والحياة، الواقع والمجاز، الداخل والخارج، الوطن والغربة، الموت والحياة، إلخ.
وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل تحولات القصيدة السورية بعد الحرب، فقد شهدت تلك القصيدة وعلى نحو خاص سيطرة شبه كاملة لقصيدة النثر على حساب الأشكال الأخرى، ربما ذلك يعود إلى أن شظايا الحرب وصلت إلى القصيدة فهدمت بيتها الخليلي، وحطمت سلمها الموسيقي، فغدت قصيدة النثر الشكل الأبرز في ما طبعه الشعراء من أعمال، وما نشروه على منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: فرج بيرقدار، ومحمد المطرود، وحسن شاحوت، وحسين الضاهر، وعبود سمعو، وعلا حسامو، ومازن سليمان، وصدام العبد الله، وتَحول عددٌ من الشعراء الذين كانوا يكتبون العمود والتفعيلة إلى قصيدة النثر، ومنهم حسن الحسن، وفايز العباس، وعبادة عثمان، وحكمة الأسعد ومحمد العثمان.

ومن أهم مؤثرات الحرب ونتائجها على القصيدة السورية انتهاء مفهوم الأجيال الشعرية، ويمكن أن نطلق على شعر هذه المرحلة شعر حالة الحرب، وتراجع حضور الآباء الشعريين.

وفي قصيدة النثر يمكن أن يرى الراصد للمشهد الشعري السوري نقاط تشابه ونقاط اختلاف كثيرة، فعلى مستوى المعجم الشعري شكلت الحرب معجماً جديداً للشعر السوري، فدخلت القذيفة والخيمة والدوشكة والقناص والموت، إلخ، إلى القصيدة بقوة. لكن لم يكن توظيف الشعراء لمفردات الحرب ومعجمها واحدا وما ينبغي له أن يكون، فثمة تباين واضح في تعاطي الشعراء مع هذا المعجم، وهو يعيد إشكال شعرية الواقعي واليومي إذ أصبحت الحرب هي الواقع. فمن الشعراء من لم يستطع تجاوز شعر اليوميات الذي ظهر وازدهر في تسعينيات القرن الماضي، فظهرت قصائد كثيرة متشابهة، لم تستطع تجاوز المنحى التسجيلي المباشر وانحازت لليومي الذي جعل القصيدة أشبه بتقرير تسجيلي زائف للواقع، لأنها ألغت المسافة بين الواقعي والشعري. ومنهم من اتخذ مسافة بين الواقع والقصيدة وقدم الحرب بطريقة تنحاز للجمالي والرؤيوي العميق والمتأمل، ولنا في مثال بسيط أن نرى الفرق في توظيف الحرب بوصفها واقعاً في القصيدة بين شاعر يشبه عيني محبوبته بالفصائل الجهادية المسلحة، وآخر يسمع أنين الأجنة في أرحام الأشجار الخائفة وفي غبار الطلع.
ومن أهم مؤثرات الحرب ونتائجها على القصيدة السورية انتهاء مفهوم الأجيال الشعرية، ويمكن أن نطلق على شعر هذه المرحلة شعر حالة الحرب، وتراجع حضور الآباء الشعريين، مثل أدونيس ونزيه أبو عفش، في حين استلهم الشعراء من جديد كل من محمد الماغوط ورياض الحسين سورياً، وأمل دنقل والسياب عربياً. وثمةَ ملمحٌ فني بارزٌ يتمثل في الانفتاح النوعي بين الشعر والأجناس الأخرى، ولاسيما السرد. وباتت القصيدة السردية، والقصيدة السيرذاتية – كقصائد هاني نديم مثلاً- واضحتين للدارس يُغذيهما كم هائل من الأحداث والمواقف التي أفرزتها الحرب.
ويبقى لنا أن نشير إلى سيطرة الرؤى السوداء على الشعر في هذه المرحلة، وتراجع التعالقات النصية والأشكال البلاغية التقليدية أمام سطوة الانزياحات الحادة، وما تزال القصيدة السورية تتلمس درب الخلاص بالقلم والوردة مقابل القتل والتهجير والرصاص والدمار.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد المصري:

    أين شعراء سوريا الذين يعرفهم ويحبهم القراء، بحق؟

إشترك في قائمتنا البريدية