كُنا إلى وقت قريب لا نعرف شيئًا عن الشعر في دول الخليج عامةً، وفي المملكة العربية السعودية على نحو خاص، إلا ما كانت تنقله إلينا بعض المجلات الأدبية التي تصدر من هناك، وكان يغلب عليها الاتجاه المحافظ.
وكان الشاعر غازي القصيبي من أبرز الشعراء ذيوعًا بيننا، ضمن آخرين بدأوا يتوجهون بقوة إلى كتابة الشعر الحديث، متأثرين بمحيطهم العربي.
قد يكون الشعر النبطي هو الأكثر تداولا بين جمهور الناس لاعتبارات ثقافية واجتماعية، لكن الشعر الفصيح في العقود الأخيرة أخذت دائرة فعله تتوسع أكثر؛ حيث توجهت المؤسسة إلى دعم الأندية الأدبية والمهرجانات الشعرية التي تطلق مواهب الشعراء الشباب وتتيح لهم إبراز إبداعاتهم الجديدة.
ومنذ تسعينيات القرن العشرين أخذ الشعراء الجدد ينفتحون على طرائق جديدة في الكتابة، ويتفاعلون مع السياق الشعري العالمي الجديد، بقدر ما ينفتحون على ما توفره لهم منصات التكنولوجيا الجديدة من إمكانات ومرجعيات مختلفة وثرية يستثمرونها لتطوير الوعي بالنص والذات والعالم.
مستورة العرابي: تحولات القصيدة
احتل الشعر منذ قيام المملكة العربية السعودية مكانة مهمة في الحياة الأدبية والثقافية فيها، ولعب دورا رئيسيا في التعبير عن آمال الناس وهمومهم وقضاياهم وتطلعاتهم. وقد درج بعض الباحثين في الشعر السعودي على رصد حركة تطوره وفق المراحل التالية:
مرحلة التقليدية، وفيها كان الشعراء من أمثال أحمد الغزاوي وعبد القدوس الأنصاري، يسيرون في شعرهم على النمط التقليدي للقصيدة العربية العمودية القديمة ويحافظون على معظم أغراضها وأساليبها.
وتلا ذلك المرحلة التجديدية، وفيها أظهر شعراء هذه المرحلة؛ مثل حمزة شحاته ومحمد حسن عواد، بعض الملامح التجديدية داخل القصيدة العمودية، ورام بعضهم كتابة قصيدة التفعيلة، وجددوا في موضوعاتهم وربطوها بقضايا مجتمعهم وجعلوا من شعرهم أداة للتعبير عن ذواتهم، خاصة من تبنى المذهب الرومانسي لاحقا منهم، وأثر ذلك على لغتهم الشعرية؛ فقد جددوا في أساليبهم الشعرية وزاوجوا بين القصيدة العمودية الجديدة وقصيدة التفعيلة، وعبروا عن قضاياهم الذاتية والوطنية والقومية وابتعدوا عن المباشرة والتقريرية، وكانت تجاربهم الشعرية وثيقة الصلة بحركة الشعر في الوطن العربي. ولعلنا نشير هنا إلى أبرزهم مثل حسن القرشي وطاهر زمخشري وعبدالله الفيصل وغازي القصيبي.
وتلا ذلك بروز مرحلة الحداثة التي تشكلت بوضوح في السبعينيات من القرن الماضي، حيث برزت قصيدة التفعيلة بصورة لافتة، وظهرت قصيدة النثر، وانفتح الشعراء على التجارب الشعرية العربية والعالمية، ونوعوا في تجاربهم الشكلية والإيقاعية، ووظفوا الرمز والأسطورة وبرزت النزعة الدرامية، ونوعوا كذلك في رؤاهم الشعرية، رغم ما واجههم من عراقيل، وظهر الصوت الشعري الأنثوي بوضوح في هذه المرحلة. ولعل من أبرز شعراء هذه المرحلة سعد الحميدين وأحمد الصالح ومحمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وعلي الدميني وأشجان هندي.
وأخيرا، نشير إلى مرحلة شعراء بداية الألفية الثالثة، وفيها ظهر ثراء التجارب الشعرية وتعددها وتنوعها، خاصة لدى الشعراء الشباب. وظهر أثر التقنية الرقمية واضحا في شعر هذه المرحلة شكلا ومضمونا، لما يحمله هذا الفضاء الإلكتروني من إمكانات تواصلية كتابية ومرئية هائلة، وحضر شعر المرأة بصورة أكبر وأكثف من ذي قبل، وتنوعت الأشكال الشعرية ما بين عمودية وتفعيلة ونثرية، بل ظهرت أشكال شعرية يصعب ربما على الأشكال الشعرية المعروفة استيعابها بسهولة، لتجاوزها التصنيفات الأجناسية الشعرية المألوفة، وانهماك بعضها في تصوير اليومي والهامشي وتركيزهم على القضايا الإنسانية والكونية. ولعلنا نشير هنا إلى أن هذه المرحلة وثيقة الصلة بشعر الشعراء الذين شكلوا قنطرة بين شعر المرحلة السابقة وهذه المرحلة، مثل جاسم الصحيح ومحمد إبراهيم يعقوب وحسن الزهراني ومحمد أبو شرارة وتهاني الصبيح وغيرهم. وربما يُعزى هذا الحراك الشعري البارز في هذه المرحلة إلى عدة عوامل؛ لعل من أهمها تراجع الفنون السردية قليلا، خاصة الرواية التي كانت المنافس الأجناسي الرئيس للشعر إلى وقت قريب، وكذلك اهتمام وزارة الثقافة السعودية الفتية بالشعر، الذي يتمثل في دعم الأندية الأدبية والمهرجانات الشعرية، مثل مهرجان عكاظ وجائزته وغيرها من المؤسسات الحكومية والأهلية التي دعمت هذا الحراك الشعري. ولا يفوتنا أن نشير إلى أكاديمية الشعر العربي التي أنشئت موخرًا في جامعة الطائف وما تقوم به من جهود في خدمة الشعر والشعراء في داخل المملكة وخارجها، فقد أقامت الأمسيات الشعرية والندوات النقدية وتبنت إبراز الشعراء الشباب وتشجيعهم وتوفير المنصات والأمسيات الشعرية لنشر إبدعاتهم الشعرية.
باتت الحرية هي عنوان القصيدة الجديدة في السعودية مع انتشار المدونات والمواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتويتر؛ حيث الفضاء المفتوح الذي لا يخضع للرقيب الثقافي والاجتماعي والسياسي؛ والمجال الكبير لتعدد مرجعيات الكتابة، فتعدتِ الكتابَ الورقي إلى اللوحة الفنية والصورة الفوتوغرافية والموسيقى والسينما.
محمد الحرز: تجارب التسعينيات وما بعدها
حتى نضع هذه التجارب في سیاقها التاریخي، كي نستخلص منها ما لم تقله لنا وما قالته أیضا، ینبغي:
أولا: الوقوف على طبیعة التحولات والوظائف المختلفة التي تولدت عنها.
ثانیا: الكشف عن انعكاس كل ذلك على تصوراتنا الفردیة والاجتماعیة للأدب والثقافة والإبداع على وجه العموم.
ثم سنرى إلى أي مدى ذهبت الكتابة الشعریة في ادعائها بالحداثة؟ وعلى أي العناصر اتكأت في قولها بذلك؟
لا یمكن رصد التحولات إلا من خلال المقارنة بین مختلف الأجیال في طریقة تلقيها للأدب، والشعر على وجه الخصوص، وأثر ثقافتها وتربيتها وظرفها الاجتماعي في ذلك التلقي. وإذا جاز لنا أن نستخدم مفهوم «التجییل» كتحلیل إجرائي، فإننا نقول: الذین كان خیارهم الانحیاز إلى الحداثة من جیل التسعینیات ـ ولیس جميعهم ـ كان الشكل الشعري المتمثل بـ(قصیدة النثر) هو المثال الأسطع على هذا الانحیاز، باعتبار هذا المثال تقلیدا ترحل من جیل الثمانینیات إلى ما بعده من جهة، وتقلیدا آخر جرى ربطه بمقولات الحداثة الشعریة على مستوى الوطن العربي من جهة أخرى، رغم اختلافهما في درجة الانحیاز وطبيعته.
والسؤال هنا: ما الشرط الثقافي الذي من خلاله تم استیعاب القصیدة الحدیثة، ومن ثَم ممارستها عند هؤلاء باعتبارها ممارسة في نظر المجالین الثقافي والاجتماعي تشیر إلى عنوان كبیر هو الحداثة؟ وما نعنيه بالشرط الثقافي هو مجمل الأسباب التي تجعل هذا المبدع أو غیره ینحاز إلى هذه الشكل الشعري أو ذاك، وكما أظن أن مجمل هذه الأسباب ثقافیة بالدرجة الأولى، وعليه أزعم أن مفهوم التحرر ـ على سبیل المثال ـ الذي اكتسب أهميته من خلال ارتباطه الوثیق بالحركات التقدمیة في العالم العربي، أصبح العامل الأكثر تأثیرا في فكرة التحدیث السیاسي والاجتماعي والثقافي في عموم الشام والعراق. لكنه حین تسلل إلى ثقافتنا المحلیة، فإنه أكثر ما كان ارتباطه قد جاء على مستوى النص الأدبي، تحت مسمى مفهوم الحریة الإبداعیة الذاتیة، وثمة بون شاسع بین مفهومي الحریة والتحرر، حیث یعكس كلاهما طبیعة البیئة الثقافیة والاجتماعیة لحظة تلقي المفهومين. فالحریة هنا سرد ذاتي في حدود النص، بینما التحرر هناك سرد التجربة الاجتماعیة في حدود المفهوم.
لقد كان الرهان على القصیدة الحدیثة والمغامرة في كتابتها یحقق شرط الحریة ویعطیها معناها العام في الوعي الشعري عند كتابها، وما ساعد على تكریس المعنى هو خلو الكتابة من إكراهات التجنیس والسلطة والتوظیف، الأمر الذي حصرها في الهامش مقارنة بالأشكال الأخرى من الكتابة. لذلك كانت تجاربهم بقدر ما كانت ترصد وعیهم الذاتي وإحساسهم الجمالي بما توفره لهم اللغة من إمكانات هائلة في الكتابة، بقدر ما كانوا یغذونها باللقاءات الخاصة من جانب، وبالبحث عن مرجعیات تخص عالم الكتب والمكتبات من جانب آخر، وكلا الجانبین في فترة التسعینیات كان صعبا، بحیث من أراد البحث عن سردیة تفاصیل تلك الصعوبة، سیجدها في محدودیة انتشار الكتاب أو التضییق عليه أو منعه، سیجدها في انعدام وسائل التواصل وانحسار العلاقات الثقافیة على المستوى الأفقي التي توفرها تلك الوسائل، سيجدها أيضا في غياب الصلة بين تلك التجارب ومتلقيها ثقافيا وجماليا على المستوى الشعبي، وهو غیاب مؤثر بالتأكید على كلا الجانبین. يضاف إلى كل ذلك موقع الثقافة والأدب بالنسبة للمؤسسات الرسمية التي لا تتوافق والوعي بالنص الشعري الحديث. لكننا عندما ننتقل بالمقارنة إلى جيل ما بعد الألفين، فإن مفهوم التلقي للنص الشعري لم يخضع كما في الجيل السابق إلى قيود تتنازع ذاته بين وعيه الكتابي من جهة، وحياته الاجتماعية وتقاليدها من جهة أخرى. أكاد أزعم أن انحسار مثل هذا التنازع لم يكن سببه عوامل ذاتية، بل موضوعية بالدرجة الأولى، تتعلق أساسا بجملة التطورات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على بنية التواصل العالمي، ثم تاليا تبني المملكة لرؤيتها الاستراتيجية 2030 وأثرها الواضح في الثقافة والمجتمع بشكل عام.
قد يعترض البعض هنا على ربط النص الشعري بعوامل لا تمت إلى طبيعته بصلة، من قبيل السياسي والاجتماعي والثقافي، وبالتالي على رصد حركته ووعيه لدى كتابه ومبدعيه. اعتراضٌ لا يخلو من وجاهة، إذا ما أردنا تجسيد مقولة الدرس النقدي، أن البحث عن حياة النص وسماته وتقلباته بين الأجيال ينبغي له أن لا يخرج عن سلطة النوع إلى ما عداه من عوامل أخرى. لكننا هنا في هذا الموقف أكثر ما يخصنا هو تتبع «السمات الدنيوية للنص» على حد تعبير إدوارد سعيد.
عبد الله السفر: مرجعيات الكتابة الجديدة
باتت الحرية هي عنوان القصيدة الجديدة في السعودية مع انتشار المدونات والمواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتويتر؛ حيث الفضاء المفتوح الذي لا يخضع للرقيب الثقافي والاجتماعي والسياسي؛ والمجال الكبير لتعدد مرجعيات الكتابة، فتعدتِ الكتابَ الورقي إلى اللوحة الفنية والصورة الفوتوغرافية والموسيقى والسينما، حتى أن كتابا شعريا لإبراهيم الحسين عَنوَنَه «على حافة لوحة في المنعطف الموسيقي» وكأنه فيضٌ من الـ«تقاطعات» مع تلك المرجعيات أفضَتْ به إلى استدخالها في نصوصها وإعادة إنتاجها جماليا، بخبرته الشخصية، ومن مصهره الخاص وضعَ فيه ما رآه وما استمع إليه في ضوء جديد. والأمر نفسه يقال عن الإنترنت واستخداماته بنواحيه المتعددة وتوظيفه جماليا في عناوين الكتب، كما عند حسين المنجور «قبر إلكتروني لكائن افتراضي» وعبدالعزيز الحميد «استرجاع كلمة مرور» وأحمد العلي «عاريا يجلس أمام سكايب».. وفي بعض النصوص التي تمر بالقارئ عند ـ مثلاً ـ سلمان الجربوع وهدى ياسر وصبا طاهر ومحمد خضر وعبدالله ثابت وآخرين.
هذا العرس الإبداعي، إن ساغَ لي التعبير، يأتي في مروحة ملونة وفي حس تجريبي: في مستوى الشكل وفي مستوى الموضوعات والمضامين. ذلك الفرح وتلك الحرية يُمارسان بجرأة لا تقف عند «خريطة» أفق الانتظار للقصيدة المعتادة السطرية. لا تقف عند هذا. إنها تذهب إلى ترقيق الحدود وتشفيفها بين الأجناس الأدبية. أضحينا نقرأ نصوصا تنوِعُ بين الكتابة السطرية (أبرار سعيد: «ليس لِيَدي أن تتكلم». صالح زمانان: «أعطال الظهيرة») والجمع بين السطرية والكتابة الكتلة (محمد الحرز: «غيابك ترك دراجته الهوائية على الباب». منال العويبيل: «العلاج بالكتابة»)؛ النص الكتلة (إبراهيم الحسين: «يسقط الآباء حجرا حجرا». علي عاشور: «من العتمة إلى الجياع». وما كتبه ويكتبه زياد السالم خلال الثلاث السنوات الأخيرة في تويتر)؛ الاستغناء عن العناوين تماما (محمد الحميد: بحجة الكوميديا) إلى تعويضها بأرقام فقط (عبدالله العقيبي: «تبا كخطأ مقصود في ترجمة الأفلام». محمد السعدي: «جغرافيا شخصية»)؛ والتجريب في بنية النص نفسه كما هو الحال في شطرٍ من نصوص غسان الخنيزي وماجد الثبيتي.
وإذا ما تحدثنا عن تذويب الحدود بين الأجناس ـ وبتعبير آخر التبادل والاقتراض ـ نلحظ الاقتراب الكبير من فن السرد، الذي يستضيف معه وفي تزاوج كبير أحياناً رائحة المكان وذاكرته، وتحضر هنا قائمة ليست قصيرة تمتد من التسعينيين وحتى هذه اللحظة الشعرية في كتبٍ قرأتها أو مخطوطاتٍ لم تأخذ طريقها إلى النشر. ثمة من يسرد في هواء الأسطورة وضمن منحة المخيلة وفتوحاتها البهية (زياد السالم: «المضاف إلى نفسه» و«حصة آدم»…. سعود السويداء: «التخلص من جثة». وبعض نصوص عبدالله حمدان الناصر في كتابه: «اللحاق بالرمل» ومعظمها يجده المتابع في مدونته: أثر الزعفران). وهناك من يسرد مصحوبا بعبق المكان وذاكرته وشجنه (غسان الخنيزي: «أوهام صغيرة أو التي تراود الموهوم في الحمى». عيد الخميسي: «البوادي». مسفر الغامدي: «شجرة يسقيها الشاي». علي سباع: «نزهة الهارب ومشيئة الغريب»). ونلمس ونشاهد عند أحمد الملا السرد بمعناه المشهدي بعينٍ سينمائية معكوسا على خريطة أعماله الشعرية جميعها. وثمة من يُحدِث انتقالة في تاريخه الكتابي؛ يقطع مع هذا التاريخ، ويدخل في مناخٍ كتابي يتأرجُ بالسرد الشعري وحدَه مأخوذا باللقطة الحكائية، وبمذاقٍ شعبي صرف، يعرف كيف يستخلص الشعر من الحارة، ومن شخصياتها على النحو الذي يمضي إليه عبدالرحمن الشهري في «صعود متأخر» (2017) و«الكتابة على جهاز آيفون» (2018). وثمة سرد متعدد الحقول الجمالية كصنيع محمد حبيبي في تجاربه المرئية («غواية المكان» و«حدقة تسرد». وفي بعض نصوص كتابه: «جالسا مع وحدك»). ومن باب التداعي مع عنوان «حبيبي» الذي يفيض بالعزلة والوحدة، نلمس تجاوبا ممتدا مع هذا الموضوع المشبع بالقلق والسأم واليأس والضجر عند مجموعة من الشعراء مثل: علي العمري، حمد الفقيه، أحمد كتوعة.. ويتجذر القلق عند بعضهم وصولاً إلى هاجس الموت (عبدالله المحسن في تجربته: «يترجل عن ظهره كخطأ كوني» وما تلاها من نصوص).. وعلى خصوصية تنطوي عليه تجربة كل منهم؛ فالقلق الوجودي بارز عند العمري وكتوعة. واليأس الضارب بجذوره الاجتماعية والسياسية عند حمد الفقيه والذي يناوره مرة بالسخرية ومرة بالعبثية وفي جميع الأحوال بنبرة التمرد والاحتجاج، ويشترك علي العمري معه في إنتاج هذه النبرة.
وفي مقابل منحى النص الشعري الذي يتنفس السرد، يتموضع نص آخر له حضورٌ ضارب، خاصة في تويتر، ويتمثل في تلك الالتماعات البرقية والشرارات الخاطفة في هيئة شذرة.. أو توقيعة لها مذاق الحكمة.. أو كتابة مقطعية مكثفة وكثيرا ما لا يستوعبها النص التويتري، نقرأُها في حسابات: زياد السالم، وهيفاء العيد، وعلي عكور، وماجد الثبيتي، وضيف فهد… وينبغي أن نسجل هنا التفاوت في الاستيعاب الجمالي والمعرفي للشذرة، وبالتالي إنتاجها إبداعيا سيالاً متدفقا مشعاً، أو مجرد التقاطة طارفة تجف مع الزمن ويذبل تأثيرها. وخلال هذه العشرية، خرجت مجموعة من الكتب القائمة على كتابة الشذرة (ومعها الكتابة المقطعية) أو تحوي في أجزاء منها على الشذرة أو التوقيعة (زياد السالم: «حصة آدم»…/ 2009. محمد الحرز: «أحمل مسدسي وأتبعُ الليل»/2015. إبراهيم زولي: «شجر هارب في الخرائط»/ 2014. علي عاشور: «عين في إصبع»/2013. حسين آل دهيم: «أوبة الهرطيق/2014. ماجد الثبيتي: «الإشارة عمداً إلى الاتجاه الخطأ»/2018). ولا بد لي من أن أشير إلى أن زياد السالم من المتمكنين، وبتفرد، في الكتابة المقطعية التي تطفر منها الشذرات، مثل جواهر لا يخطئها الذوق؛ مكتوبة ببصيرة مجبولة من الفكر والتأمل ومُشرَبة بكثيرٍ من الشعر، وطابَ لي أن أكتب عنه أكثر من مرة آخرُها بعنوان «يند عن التشابه ويمعن في الاختلاف» (مجلة «الجوبة» العدد 59 ـ 2018).
ومن النوافذ اللافتة في مشهدنا الشعري نافذة القيد والتململ منه (تطل منها أسماء مثل: أبرار سعيد، هدى الدغفق، صبا طاهر، هدى ياسر، فاطمة المحسن، نور البواردي).. ونافذة اللعب واللااكتراث والسخرية (يشاغب منها مثل: عبدالله العثمان، وعبدالله العقيبي، وماجد الثبيتي، وماجد العتيبي، وحمد الفقيه في بعض نصوصه).. ونافذة المكان والأشخاص وهما في ضباب الغياب معاً أو في معترك المدينة (يشغلها مثل: إبراهيم الحسين، غسان الخنيزي، أحمد الملا، علي العمري، سلمان الجربوع، محمد خضر).
وبعد، كانت تلك إطلالة على القصيدة الجديدة المكتوبة في أفق «قصيدة النثر» في مشاهد تحتاج عناوينُها إلى تدقيق وتفصيل على نحو أشمل يحيط بها.
كاتب مغربي