لا يمكن الحديث عن الشعريّة العربية قديمها وحديثها، بدون الحديث عن الشعر العراقي في كل الحضارات والأزمنة. لقد كان شعراء العراق، رغم تواريخ الجوع والحرب والنسيان والمنفى والشتات، وقد يكون بفضلها، ملهمين ومبتكرين وأصحاب حكمة وشهوات عظيمة للفنّ والجمال والحياة. إنّك بمجرد أن تذكر أبا الطيب المتنبي، أو بدر شاكر السياب، أو مظفر النواب، أو حسب الشيخ جعفر، أو سركون بولص، أو عقيل علي ـ تمثيلًا لا حصرًا- فأنت تطالع سلاسل الذهب تتلوّى مع مياه الرافدين، وتدرك معنى أن يكون الشعر هو فنّ النسيان ورديف العزلة والفقدان.
لا يمكن أن ننسى – بأيّ حال- ذلك الدور العظيم، والمأخوذ بفتنة البدايات دائمًا، الذي أدّتْهُ حركة الشعر الحُرّ وهي تخرج من أرض العراق لتنتشر في كل البلاد العربية، وتحدث أثرا كبيرا ومدهشا في الوعي الشعري. وكان الشعراء الروّاد مُؤسّسين ومتسامحين، وتلاهم جيل الستينيّين الرائع، وفيهم جماعة كركوك، وجيل السبعيّنيين الذي وسّعوا مشروع قصيدة النثر، وقطع الثمانينيّون فيه أشواطاً بعيدة حتى وصلوا إلى مرحلة النص المفتوح. أما شعراء الألفية الجديدة فقد تنوّعت مشاريع الكتابة عندهم من اليمين إلى اليسار، ولسان حالهم: «قفوا نضحك» نكايةً في مشاهد الخراب. لكنّك تشعر، رغم الزخم والقطائع الذي حدثت منذ الرواد وإلى اليوم، بأنّ المشهد العراقي مُنْقسمٌ وفيه «فوضى» لاعتبارات سياسية وجمالية في آن.
ثمّة جيل جديد يتطلع، باقتدار جمالي، إلى شعرية عالية، بدون أن يتكئ كثيراً، أو قليلاً حتى، على خبرة أنجزتها أجيال قريبة أو بعيدة عنه، بل يستند إلى شعريته هو، شعرية يكون النثر، كما هو متوقع، وسيطها اللغوي الحافل بالطواعية والشيوع الذي يماثل الهواء والماء.
علي جعفر العـلاق: فوضى المشهد ونبل الذاكرة
جيلٌ يلتفت إلى الوراء بمحبة: ثمّة جيل جديد يتطلع، باقتدار جمالي، إلى شعرية عالية، بدون أن يتكئ كثيراً، أو قليلاً حتى، على خبرة أنجزتها أجيال قريبة أو بعيدة عنه، بل يستند إلى شعريته هو، شعرية يكون النثر، كما هو متوقع، وسيطها اللغوي الحافل بالطواعية والشيوع الذي يماثل الهواء والماء.
قصيدة النثر العراقية في هذه البرهة، الحافلة بالفوضى، قصيدة شديدة الفتوة. لا يعوزها دهاء المخيلة، أو غنى الموضوعات، وإن بدت أحياناً زاهدة في العكوف على تمتين اللغة، وتأجيج توقها اللاهب إلى مواهب الأسلاف. أسماء كثيرة تقدم اجتهاداتها النصية، بمهارة، غير أن ما نتطلع إليه أن يفرز هذا الجيل المتنوع والفياض بالحيوية ما يواكبه نقديّاً. لا يبدو المنجز النصي لهذا الجيل النابه والمجتهد مترابطاً على الدوام، ولا يتحرك بروح الخلية المتناغمة. النص هنا يتحرك على هواه، بجمالية عالية مكتفية بذاتها، ولا يهمها كثيراً أن تشد أواصر انتمائها إلى الآخرين. فهو جيل يؤسس، أو كأنه يفعل ذلك، لشعرية الفوضى، التي تتماهى مع فوضى البلاد وانهياراتها المتلاحقة، فالنص سيد ذاته في الغالب، ولا يتطلع إلى آباء يباركون حكمته أو فوضاه. لكن هذا الجيل يبرهن، خارج نصوصه، على وفاء شديد الوضوح لأسلافه الكبار. وبذلك فإن تلفّت القلب، لا تبعية المخيلة، هو خصلة تكاد تكون مشتركة في الكثير من أبنائه، الذين يتعالون على حساسية الأجيال، ويلتفتون لفتة الحنين إلى قامات قدّمت للشعرية العراقية أجمل ما فيها، ليؤكدوا أن الشعرية قد لا تتحقق إلا من صراع مشوب بالمحبة أو الافتتان بمن سبقوهم.
الشاعر علي محمود خضير، واحد من أحفاد السياب البررة، ومن أكثر شعراء جيله حرصاً على بلورة صوته الخاص، يقدم للمشهد الشعري العراقي، الديوان الكامل لرائد القصيدة الحديثة، هدية الواثق من نبله وقصيدته. طبعة فريدة، محققة، وبتقديم له دويه الخاص، يكتبه أدونيس. يتقصى هذا العمل مسودات قصائد السياب، ما حذف منها وما تعرض للتغيير. جيل يثبت اختلافه عمن سبقوه، بالمحبة والإنصاف، فيتم إنجاز هذا الديوان بهذا المستوى من الدقة والتقصي والأناقة.
«الأقلام» وأدونيس والنميمة الثقافية
فاجأتنا مجلة «الأقلام» بعدد شديد التميز، يحمل علامتين فارقتين: غلافاً مميزاً تتوسطه صورة أدونيس، الشاعر المثير للجدل، احتفاء ببلوغه التسعين، ويضم أيضاً ما يؤكد دلالته المثيرة: حواراً شاملاً أعدّ له وأسهم فيه وأخرجه الشاعر عارف الساعدي، رئيس التحرير. وقد شارك في أسئلة هذا الحوار عشرة شعراء ونقاد عراقيين، منهم كاتب هذه الكلمة. أيقظ هذا العدد في نفسي شجناً قديماً رافقني أعواماً طويلة. فمجلة «الأقلام» التي تحتفى اليوم بأدونيس بطريقة استثنائية، لم تكن قادرةً على خطوة كهذه، قبل ثلاثة عقود، فمجازفة كهذه كانت تكلف رئيس التحرير ثمناً باهظاً. كنت شاهداً على ذلك وأوشكت أن أكون ضحية لا يشفع لها أحد، بسبب وشاية أدبية قليلة النبل تتعلّق بأدونيس. نشرت المجلة، في ملفّ كبير عن الشاعر العربي الحديث ناقداً، دراسة مطولة عن أدونيس كتبها الناقد كمال أبو ديب. فكانت النميمة سوداء كالرصاصة، مرفوعة إلى جهة تجيد العقوبة أكثر مما تجيد الثقافة. وكان من جملة ما اتهمني به كاتب النميمة، وهو صديق قديم على أي حال، أنني أكرس مجلة «الأقلام» لكتاب يرتبطون بدوائر المخابرات الغربية، وأن كتبهم ممنوعٌ تداولها في العراق، وكان القصد من هذه العبارة المسمومة بالغ الوضوح وشديد القسوة.
وفي العدد ذاته من مجلة «الأقلام»، مادة تشبه البشارة: كل من الشاعر علي وجيه والناقد أثير محمد شهاب يتعاليان على الأيديولوجيا، ويصعدان إلى ذروة من التناغم النقي بين الأجيال. كلاهما يمدُّ يدين دافئتين إلى ميراث شعري ونثري لا يستهان به ليوسف الصائغ، كانا يوقظان شاعر القلق والتحولات، من كبوة غيابه الكثيف، ويبعثان إلى الحياة نتاجه الذي لم ينشر حتى الآن..
نجمة تذهب بعيداً
قد لا تكتمل مفردات المشهد الشعري المعافى، بدون ذلك الحوار، المخصب للمخيلة، والعابر للغات، عبر فعل الترجمة وضيافتها السخية للوافد والغريب. فالترجمة حراك نوعي، يحك عن جسد اللغة الواحدة ركام الألفة وصدأ التفكير الأحادي المطمئنّ، ويبعث إلى حياتنا الهشّة، رغم خشونتها، بصيصاً من الأمل الذي ينفذ إلى القلب والمخيلة هادئاً وحميماً. عرفنا من خلال دار المأمون جملة من الفضاءات: مجلة «كلكامش»، «تراجيديات شكسبير الكبرى»، «موسوعة المصطلح النقدي»، وعي الحداثة وسجالها العاصف، وما ترجم في الرواية والشعر وتلاقح الفنون. من هنا كان حزني، كما حزن الكثيرين، كبيراً لما حل بدار المأمون للترجمة، فإلغاؤها يجسد ربما لحظة مرتبكة ينحرف فيها الإحساس بالجمال عن مساره، ويتراجع فيها، الشغف بالمعرفة والحقيقة وحوار اللغات.
مستقبل الشعر الآن في العراق يتوقّف على الأجيال الأحدث، الأجيال التي رأت واطلعت واستكشفت المسارات والتحوّلات الجديدة، تلك التي حصلت للشعر في كل أنحاء العالم، ومستقبل الشعر العراقي الآن يتوقف عليها.
هاشم شفيق: البدايات الجديدة والتحوّلات المؤثّرة
الحديث عن مسارات الشعر العراقي ومن ضمنه العربي، في كلمة موجزة، هو حيف جمالي سيقع على السياقين، العراقي والعربي، ففي مقام كهذا، يحتاج الدارس والباحث والمتفحّص أن يلقي نظرة، قد تمتدّ به إلى أول شاعر ظهر في العالم فوق أرض سومر، ثم لتستمرّ الرحلة الشعرية وتتشعّب، متخذة أنسقة أسلوبية ولغوية وتعبيرية مختلفة، على مدار أكثر من ألفي عام. وبما أننا أبناء اليوم، دعنا ننظر إلى تجربة الشعر الحديث التي ظهرت في نهاية الأربعينيات، وتبلورت وتشكّل قوامها الحداثي في الخمسينيات والستينيات، ثم لاحقاً في السبعينيات، لتتوالى بعدها الأجيال والموجات الشعرية الصاخبة، في كلّ أرجاء العراق، كموجة الثمانينيّات وما تبعها من شعراء التسعينيّات، وصولاً إلى شعراء عام ألفين، شعراء يتوالون، ويتغذّون من أرض شعرية خصبة، ومعطاء على مرّ الأيام.
مستقبل الشعر الآن في العراق يتوقّف على الأجيال الأحدث، الأجيال التي رأت واطلعت واستكشفت المسارات والتحوّلات الجديدة، تلك التي حصلت للشعر في كل أنحاء العالم، ومستقبل الشعر العراقي الآن يتوقف عليها. هناك أسماء كثيرة لا تحصى في هذا المضمار، تكتب الشعر الحديث بصيَغه الثلاث، الكلاسيكي المتجدّد، على أيدي بعض الشعراء، وهم شباب أيضاً، ورثوا هذا الشكل من بنيان القصيدة العمودية، الكلاسيكية، الزاخرة بالأسماء الكبيرة والرنّانة، بدءاً من المتنبي والبحتري وأبي تمام وأبي العتاهية وأبي نوّاس ودعبل الخزاعي، إلى آخر القائمة التي تمتد طويلاً، وصولاً إلى الرصافي والزهاوي والجواهري، والأخير هو آخر العنقود في هذه السلسلة الذهبية، وثمة شعراء القصيدة الحداثية، أولئك الذين استمدوا رؤاهم وتصوّراتهم، وأفكارهم وأحلامهم، وأساليبهم وأشكالهم التعبيرية من أضواء شعر الرواد، كالسياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ومحمود البريكان، ثم سعدي يوسف ويوسف الصايغ ورشدي العامل وصادق الصائغ، وكوكبة الشعراء الستينيّين، متمثلة بفاضل العزاوي وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر وسركون بولص وفوزي كريم وجليل حيدر وصلاح فائق وعبد الرحمن طهمازي وعبد القادر الجنابي ومؤيد الراوي، وثمة السبعينيون، وعددهم كثير، ولا يقل عن الشعراء الستينيين، وهؤلاء شكلوا تحوّلاً جذرياً، على صعيد التعبير الحداثي الفني والجمالي، وكانوا الصوت الأكثر تمثّلاً وهضماً لمائدة الشعر العربي والعالمي، ذلك أنهم أحدثوا ما يشبه المدّ الدينامي بين الأجيال، ولاسيّما الجيل الثمانيني الذي طَور في شكل وأسلوب القصيدة الحديثة في العراق، فصاحبته أسماء لافتة، ولكنه كان الجيل العاثر الحظّ، نتيجة الحصار والحروب التي شهدها، فانعكست على حياته الاجتماعية، والفنية والإبداعية، ما أدى إلى تشتت تجاربه المهمة في المعسكرات، والجبهات الحربية، والسفر باتجاه المجاهل والمنافي البعيدة، بحثاً عن المأوى ومواصلة الحياة الصعبة.
أما الجيل الأحدث وأعني جيل عام ألفين فما فوق، فهو الاحتياطي الكبير للشعر العراقي، ذلك أن هذا الجيل له أفكاره المختلفة حول الشعر، وإن شابها بعض السهولة، والتأثر بحركة الترجمة العالمية، ولكنه ومثل كلّ جيل عراقي وعربي، سيصفو في النهاية، ويلتفت إلى تجربته الخاصة. وأهم ما يميز هذا الجيل هو الكتابة بيد جريحة، وروح مكلومة، ومتمثلة للخراب الروحي والنفسي والاجتماعي الذي يُهيمن على مفاصل الحياة العراقية الآن. ثمة أصوات باهرة ومفاجئة في هذا الجيل، صادمة للذائقة العادية، ومخترقة للسائد، والمكرّس، والعادي، وهي تحمل شارة مفارقة لما قبلها، لذا فإنها تنبئ بالتطور الذي سوف يحصل في سياق الشعر العراقي مستقبلاً، ولسوف تُغني في ما بعد حركة الشعر العربي من جديد، وترفدها بعوالم متحوّلة، وذات رؤى معبّرة، تشي بالتخطي والتجاوز، وتكون خير ممثل للشعر العراقي عامةً، في عقوده المقبلة.
والتساؤل الذي لا بد أن يتبادر في مثل هذا الوضع، ماذا يصنع الناقد الذي يريد أن يتصدى لقراءة المشهد الشعري العراقي بكامل خريطته؟ هل عليه أن يشطب شعراء المنفى، رغم أهميتهم، ما يجعل صورة الشعر العراقي من دونهم على درجة كبيرة من النقصان، إن لم يكن الفراغ.
باسم المرعبي: انقسام المشهد!
يمكن تخيّل واقع الشعر العراقي بمشهدين متجاورين، متناقضين ـ كما لو ثمّة شاشتان تعرضانهما في الوقت ذاته ـ الأول بما جسّده من ريادة أدّت إلى توسعة أفق الشعر وأنبأت بمستقبله، وهو ما حققه جيل الرواد، لتتواصل هذه الريادة، بأساليب مختلفة، عبر شعراء الستينيات والثمانينيات، بشكل خاص. أما المشهد الآخر المجاور فهو موقوف لنوع آخر من النشاط، يمثله شعراء تقليديون محافظون، في اللغةً والشكل وفي الموقف السياسي، في الغالب. وكأنّ التحفظ على الصعيدين المذكورين يؤدّي أحدهما إلى الآخر. وفي هامش هذا المشهد المنقسم ترتسم ظلال مشوّشة تتضح حيناً وتحتجب حيناً آخر، تلك هي حركة النقد.
وسبب هذا الاحتجاب أو الخفوت يعود، إلى ما هو فنّي وبدرجة كبيرة، إلى ما هو سياسي، بما يعنيه، الأخير، من انخفاض سقف الحرية إلى حدّ يكاد يلامس الأرض. وربما يكفي المثال التالي لتفسير مدى هذا الاختناق: في عام 1990 بعثت للنشر، قصيدة إلى مجلة «الطليعة الأدبية»، تضمنت اقتباساً من الشاعر صادق الصائغ، الذي أشرت إلى اسمه، في هوامش القصيدة، إلى جانب اسم أنسي الحاج الذي ضمّنت له، هو الآخر، جملةً، رغم معرفتي بحظر اسم الصائغ في العراق، كونه معارضاً ويعيش في المنفى. بعد فترة أخبرني رئيس التحرير بشيء من الحرج، وهو شخص في غاية التهذيب واللطف، وبمثابة صديق، أن اسم صادق الصائغ ممنوع ولا يمكن ظهوره في المجلة. نُشرت بعد ذلك القصيدة خالية من المقتبس والاسم. من هنا يمكن تصوُّر مدى تعقيد وصعوبة المشهد الأدبي لدينا وما يعنيه ذلك من مأزق للكتابة والنشر في مناخ كهذا.
والتساؤل الذي لا بد أن يتبادر في مثل هذا الوضع، ماذا يصنع الناقد الذي يريد أن يتصدى لقراءة المشهد الشعري العراقي بكامل خريطته؟ هل عليه أن يشطب شعراء المنفى، رغم أهميتهم، ما يجعل صورة الشعر العراقي من دونهم على درجة كبيرة من النقصان، إن لم يكن الفراغ. وبالتالي فإنّ قراءة كهذه تعمد إلى إغفال منجز هؤلاء الشعراء، لابد أن تكون قراءة غير أمينة، في أبسط تعبير. وهو ما كان يحدث بالفعل، للأسف. وإذا كان هذا الإقصاء قد تمّ تحت ضغط السياسي، فماذا عن الإقصاءات الأُخرى التي يمارسها الشعراء أنفسهم لا لسبب فني، وإنما لسبب تنافسي مكشوف يتضح عبره الهوى الشخصي بذرائع متهافتة. ولست هنا بصدد تناول ذلك، فالحديث والتفصيل فيه يطول. لكن ما يهمّ الآن، هو التعرّض، بالقدر المستطاع، إلى الملامح الفنية للقصيدة العراقية، وفقاً لهدف الاستطلاع.
لقد أشرت، بدايةً، إلى فترات ثلاث هي الخمسينيات والستينيات ومن ثم الثمانينيات، مُتخطّياً السبعينيات، فما أعتقده هو أن السبعينيين قدّموا أهم إنجازاتهم في فترة الثمانينيات، وليس قبل ذلك، معا مع «الجيل» اللاحق لهم، أي الثمانينيين. هؤلاء الذين بدت ملامح مشروعهم الشعري واضحة، متبلورة في عقدهم نفسه الذي ظهروا فيه، وهي ظاهرة متميزة في مسار الشعر العراقي وتكاد تختصُّ بهم وحدهم. كانت قصيدة النثر هي مشروع الثمانينيين وقد قطعوا فيها أشواطاً بعيدة حتى وصلوا إلى مرحلة النص المفتوح الذي استفادوا فيه من كلّ الأشكال الأدبية المعهودة، وحتى الفنون البصرية كالسينما والمسرح والفن التشكيلي، وهو ما يمكن تأكيده، باطمئنان، لدى كاتب هذه السطور. وقد تزامن شغل السبعينيين والثمانينيين في تطوير نصّهم، فنياً، من هنا يمكن عدّهم أبناء مرحلة «جيلية» واحدة.
إن الكتابة الشعرية بالنثر هي مُؤشّر فني على نوع التجربة التي لم تصل إلى ما هي عليه، من دون استفادتها من المنجز الشعري السابق، عراقياً وعربياً وعالمياً. وكان أبرز من يمثل هذه المرحلة، الشعراء: زاهر الجيزاني، كمال سبتي، محمد تركي النصار، محمد مظلوم وباسم المرعبي. وحتى أولئك الذين لم ينشروا إلا القليل إلا أن بداياتهم أفصحت عن قوة شعرية ونضج مبكر، مثل أحمد عبد الحسين، رغم ظهوره المتأخر، بسبب سنّه. أو الذين، على العكس من ذلك، أي الذين تأخروا في تبلور أصواتهم، وإن كانوا ظهروا معا مع أقرانهم، مثل الشاعرين السبعينيَين رعد عبد القادر الذي نشر أفضل نتاجه في التسعينيات، وعقيل علي المتميّز منذ بداياته، لكنه أهمل نشر شعره. ومن المفيد التنويه بأنّ تجربته في القصيدة تختلف عمّا آلت إليه تجربة شعراء مرحلة الثمانينيات، الذين يذكّر اندماجهم الجيلي، بما دعوت إليه، من قبل وفي أكثر من مناسبة، باعتماد التحقيب النصّي بدل الجيلي. لذا أشير هنا إلى أن استخدامي لمصطلح «جيل» هو من باب ما هو متعارف عليه، من دون التسليم به، أي إلزامية الإقرار بظهور جيل شعري جديد كلّ عشر سنوات.
كان للسِّمات الأسلوبية المؤثرة في مرحلة الثمانينيات، ما يجمعها مع منجز الستينيين. وبصرف النظر عن المقارنة النصّية، كما حدث مع المرحلة الآنفة الذكر، فإنّ المقارنة تصحّ، هنا، على مستوى الروح الشعري ونزعة التمرد والتطلع إلى القطيعة الشعرية، خاصة مع قصيدة الرواد، وهي السمات الأهمّ المشتركة بين شعراء الجيلين. لذا كان ستينيّو الانشقاق، تمييزاً عن ستينيي السلطة، كسامي مهدي وحميد سعيد، هم الأقرب إلى الثمانينيين في نصوصهم ونشدانهم الحرية، لاسيما وأنّ جلّهم كانوا يعيشون في المنفى. ويمكن الإشارة هنا إلى من تعنيهم هذه السطور، وهم: صادق الصائغ، صلاح فائق، سركون بولص، الأب يوسف سعيد. من ناحية أخرى تجب الإشارة إلى شاعر مثل حسب الشيخ جعفر الذي لن يكتمل الحديث عن الستينيات من دون حضوره وبما حققه من ريادة في القصيدة المدوّرة، غير أنه على أهميته لم يكن روحاً مُلْهماً لشعراء مرحلة الثمانينيات. ومع انتشار نصوص ستينيّي المنفى، في السنوات الأخيرة، بفعل وسائل التواصل الحديثة، وبشكل خاص نصوص صلاح فائق وسركون بولص، وباستقراء تأثيرات فائق بشكل خاص في العديد من الشعراء، حدّ نسخ قصيدته، يمكن أن يكون ذلك مؤشراً على انتشار نموذج هذه القصيدة. على أن الزخم الذي عُرف به الشعر العراقي منذ الرواد وحتى بداية التسعينيات، أخذ بالفتور حتى ليمكن القول إن ثمة فراغاً زمنياً يناهز العقدين قد شهده تاريخ هذا الشعر. غير أن ظهور شاعر مثل علي محمود خضير موثقاً حضوره بمجموعته الأولى الصادرة عام 2010، إضافة إلى شعراء مثل حيدر عبد الخضر وصادق مجبل، وهم أمثلة على تنوّع المشهد الشعري، يُستعاد الأمل بالوعود التي يختزنها الشعر العراقي على الدوام، حتى وإن تباعدت أو أبطأت.
كاتب مغربي
وقفتُ إجلالٍ للعراق الشامخ رغم المآسي.. الشعر العراقي والأدب العراقي عموما مكانتُه عزيزة في الأدب العربي ولعلَّه في بعض الأزمنة بلغ الذِّروة فكان خُلاصة الخُلاصَة بلا منازع، ولو اكتفى العراق بالمتنبي قديما والجواهري حديثا لكافه فخرا، فكيف والقائمة تطول..، على الرغم – وللأسف- من أن قصيدة النثر أيضا جاءت من العراق، من أدباء أعجزهم الشعرُ فكتبوا نثرا سمَّوْه شعرًا – وصدق من قال : يُحال على لجنة النثر لعدم الاختصاص -.
يقول الشَّاعر العباسي الذي وُلد في القرن العشرين محمد مهدي الجواهري رحمه الله :
فأعدْ على بغدادَ ظلَّ غمامة ** باللُّطف تنضح والنَّدى والسؤدد.
أيَّام كان لمذهبٍ متعرقٍ ** تعنوا الورى ونموذج مُتبغددِ.
بالكرخِ بغدادٌ تتيهُ، وكوفة ** بالمسجدين، وبصرةٌ بالمِربدِ.
أيَّامَ كان الشعرُ أيَّ كتيبة ** تُحمى الثُّغورُ بها وأيَّ مُهنَّد.
أطيافُ مجدٍ ما يزال خيالها ** مرحًا بأيقاظٍ يطوف وهُجَّد.
ومردُّ أصداءٍ يجاوب يعضُها ** بعضا بضخم تراثها المتبدِّد.
درجت سُدىً تبق غير لميظة ** من لحمها بفم الزمان الأدرد.
وتعرَّت الآراء في ضحواتها ** إلا كومضة جمرةٍ في موقد.
الله المستعان.
أهم شاعر معاصر في العراق لم تذكر اسمه هو الشاعر الراحل عبد الرزاق عبد الواحد.بل هو شاعر فحل من مستوى ابي تمام.
ليس كل من يتمنطق بإبدائه رأيا “أدبيا نقديا” يُؤخذ به يا “جحا”
أولا عبد الرزاق عبد الواحد ليس (أهم شاعر معاصر في العراق) كما تتمنطق فثمة العديد ممن هم أهم منه بكثير
ثانيا ليس هناك أي مقاربة بينه وبين أبي تمام بل كان يحاول جاهدا أن يحذو حذو المتنبي ولهذا لُقّب بالمتنبي الأخير