رغم الظروف الصعبة التي مرّ منها الشعر العراقي في العقدين الأخيرين، إلا أن مخيّلة الإبداع لم تفتر، كأنه يتغذّى من تلك الظروف ويُوجّهها لصالحه بما يشبه عزاء الجماليّات التي تنتسجها روحه الخصيبة والمُقاوِمة؛ فقد ارتقى متنه الإبداعي تنوّعاً، وتوسّع أفقه التخييلي، واتسمت تجاربه وحساسيّاته الجديدة بالجرأة الشكلية والطراوة الفنية، مغتنما كلّ ذلك من واقع التعايش الجيلي، ومن تعدّدية المناخات الشعرية التي يتدفّق بها مشهده الراهن، ومن بروز أطراف هامشية تستمدّ موادّها الشعرية من تراث بيئات المحلية السوسيوثقافية. كرّست قصيدتا العمود والتفعيلة – بحكم قاعدتهما الجماهيرية الممتدّة – ذائقة جمالية عريضة الأطياف، لقصيدة النثر، بدورها أخذت تستحوذ على المشهد بلغتها وأساليب كتابتها الخاصة، وبأشكال تخييلها للموضوع الشعري، التي أصبحت تميل إلى القصر والتكثيف، بموازاة مع الحراك الرقمي وشرائط تلقّيه.
وإذا كانت الشعرية العراقية باتت تستفيد من انفتاح الجامعة على نصوصها الحداثية الأجدّ، وتعرف مواكبة النقد لما يستجدّ في ساحتها التي لا تكاد تهدأ، وتغتني من تعدّد مصادر الثقافة الشعرية ومرجعياتها وتجاربها ومنافيها ومشاريعها الترجميّة، فإنّها ـ في المقابل – تعاني من الاصطفافات، وخفوت الكتابات النسوية، وموضوع (العنف) قياساً إلى احتقانات الأمن الهويّاتي. كما لا يمكن قراءة هذه الشعرية الرحبة خارج التاريخ ومكره، وأهواء الأيديولوجيا، والصراع الوجودي والثقافي المحتدم بين أجيال الشعراء، بمن في ذلك الجيل الراهن الذي تخلّص من عقدة الحزب والمؤسسة والأب، عالقاً بأحلام التمرّد ومتاهة البحث عن الذات.
حاتم الصكر: نسغ عصيٌّ على الجفاف
مرَّ أكثر من عقدين على مساهمتي في آخر استفتاء شامل للمشهد الشعري العراقي، عدا ما يوجَّه عادة من أسئلة في حوار ثقافي أو ندوة.. كانت تلك مناسبة مفصلية زمنياً هي دخول العالم الألفية الثالثة. وجرى السؤال عن راهن الشعر ومستقبله وما يمكن توقُّعه من ملامح مستقبليةٍ. وأذكر أنني ركزت في إجابتي على استحالة توقع مستقبل القصيدة في أرض زلزالية مهيأة للتحول كالشعر.. وأكاد اليوم أن أكرر ما قلته من قبل بصدد ذلك. فلا واقع الشعر اليوم يمكن أن يعطينا تنبُّؤات عن طقسه وأجوائه المقبلة، ولا النظرية النقدية قادرة على ذلك. فالشعر يفاجئ، والقصيدة في كنفه لا تكفُّ عن المراوغة والتنصل من أبوّته، فتخرج من بيت طاعته مستجيبة لنداءات التجدد الذي يمثل القلب من جسد القصيدة.
أما السؤال عن (أحوال) الشعر و(أوضاعه)، فهو يمثل إشكالية ملغومة، لاسيما في الحالة العراقية. لقد تخلّص الشعر العراقي من إشكالات كثيرة على لائحة قراءته وكتابته. لكن مستجدات أخرى سرعان ما فرضت نفسها في المشهد. ومما اختفى من سجال قراءة الشعر العراقي ثنائية الداخل والخارج المربِكة والمحرِجة، وذات الحمولة السياسية في المقام الأول، التي أضرّتْ بالمشهد الشعري، بركام من الاتّهامات والتخوين وسوى ذلك، في وقت لم نجد اختلافاً كبيراً بين النتاجين: مَنْ هاجر اضطراراً واختياراً، ومن ظلّ في العراق لأسبابه وظروفه. فالشعر العراقي في المهجر باستثناء سمة الحرية في المضامين الشعرية، لم يغير أسلوبية الكتابة الشعرية، لا بالمثاقفة مع المهجر أو المنفى، ولا باجتراح تعديلات لافتة، ربما لأن الشعرية العراقية تتغذى من نسغ عصيٍّ على الجفاف في تربتها، حتى في أشدّ الفصول جدباً.
يمكن أن نرصد هنا مَيْلاً واضحاً لكتابة القصائد القصيرة أو المقطعية التي تغير من نسق البيت أو السطر الشعري المعتاد، وبدلاً من ذلك تم اتخاذ الجملة الشعرية مرتكزاً بنائياً في هيكل القصيدة.
وهذا ما نتلمسه اليوم أيضاً؛ فالظروف السلبية القاهرة لم تحدّ من انطلاقة الشعر العراقي، بل زادته تنوعاً ووسّعت أفقه، واتسمت التجارب بالجرأة الشكلية واللغوية والإيقاعية، بل في اختيار المفردة التي لا (تابو) عليها ذاتياً، لاسيما والشعرية العراقية معروفة بالتعايش الجيلي – وأعني هنا أجيال الشعر لا الشعراء – وتعددية المناخات الشعرية، رغم خضوعها لما يمكن وصفه بالمزاج الشعري المسكون بمعايشة التجارب وحرارة التعبير عنها، بما يشبه أساليب الفنون الرافدينية الأولى حدّةً وكثافة. وإذا كان شعر الحرب قد أمسى، برؤية ضدّية غالبا، في صدارة اهتمامات الأجيال الشعرية السابقة، فإن (العنف) الذي ضرب السلم الأهلي والطمأنينية، والتهديد بعودة المشروعات الظلامية، صار موضوعاً للشعر في كثير من أصواته المختلفة عمراً وجغرافية. لكنْ لن تخطئ عين المتابع هيمنة كتابة قصيدة النثر على المشهد بلغتها، وبتجنب الموضوع المباشر وتفتيت عناصره صورياً. فقد استقرت الكتابة الشعرية الحداثية، لا باختيار قصيدة النثر بشكل واسع واختفاء الجدل والتردد بصددها فحسب، لكن بتقديم تلاوين وتنويعات على الموضوع الشعري، والأشكال التي تُكتب بها القصيدة.
يمكن أن نرصد هنا مَيْلاً واضحاً لكتابة القصائد القصيرة أو المقطعية التي تغير من نسق البيت أو السطر الشعري المعتاد، وبدلاً من ذلك تم اتخاذ الجملة الشعرية مرتكزاً بنائياً في هيكل القصيدة، استجابة للحراك الرقمي الذي زجّ بالشعراء في صلة جديدة بالشعر من جهتين:
– كتابته التي تحتم التلاؤم مع إيقاع الحياة والتغذية الفكرية، أو المؤثرات الفاعلة في التجارب الشعرية، ولا شكّ في أن المنصات الرقمية واقتراح الاقتصاد والكثافة مما سيغير نمط الكتابة الشعرية بشكل عام.
– وتلقّيه بالتلاؤم مع إيقاع التواصل أو التلقي عبر القراءة، ما يحتم مرة أخرى ضبط إيقاع القصيدة مع تلك العملية التي خضعت للتقنيات الرقمية، وصارت المواقع الإلكترونية والكتاب الإلكتروني سبلاً شائعة للتلقي.
ثمة هبّة طارئة قلَّ أثرها حالياً، تمثلت بالعودة إلى نظم عمودي للقصيدة، لكن بروح تجديدية تعيد للذاكرة تيّار عبدالأمير الحصيري، وتلامذة الجواهري في العمود الذي كفّ عن التزاحم في المورد الشعري، والذي تشجعه المهرجانات الشعرية التي عادت للمشهد، وبسبب طبيعة التلقي الشفاهي للنصوص في هيجاناتها..
لكن الظاهرة الأبرز هي تفتت المراكز الشعرية الكبرى في الحالة العراقية، وبروز كتابات من أطراف جغرافية ومجتمعية تؤدي مساهماتها إلى تنوع مطلوب في زوايا الرؤية الشعرية، والاستمداد من بيئات محلية تُغني المادّة الشعرية.
ولا تزال الشعرية العراقية تعاني من غياب الاصطفافات المهمة الممَّثلة بالتجمعات والجماعات، فلا التقسيم الجيلي يستوعب اليوم حالة الكتابة الشعرية بسبب حضور الأجيال متداخلةً في المشهد، ولا القرابة الأسلوبية تتيح مثل ذلك. لكن الأصوات تأخذ طريقها للأفق الشعري العربي بحيوية لافتة.. وبشيء من العالمية ممثلة بالترجمة وحضور قليل لشعراء مغتربين غالباً في لغات المَهاجِر.
ولا يمكن التغافل عن خفوت وندرة الكتابات النسوية في الشعر العراقي، مع أن التعدد الأسلوبي والتمدد المكاني يخدمان الكتابة الشعرية النسوية وقضاياها، إلا أنها ظلّتْ محافظةً على بعض التجارب المعروفة، وإضافات قليلة غير لافتة.
أما الوزنيّون من شعراء العراق فقد واصلوا تجاربهم بكثير من الحذر والتحفظ على الشعر السائد بسبب إيغاله في الحداثة، كما يصرحون في مقابلاتهم. وانكفأت تجاربهم على وزنية من نوع مُطوّر، أستشعر فيه كمتابع، هفواً للحدّ من التدفق الموسيقي وتهدئة عوامله الخارجية. ولا شك في أن صمت كثير من شعراء الجيل وانسحابهم أو ندرة كتاباتهم، تعلن ضمنياً عن تسارع التبدلات الأسلوبية التي لم تعد خطاهم تواكبها. وتبرز كاستثناء تجارب التحقت بالحداثة الشعرية من أوسع أبوابها دون تحفُّظات، وهو ما فعله شعراء أجيال أخرى استنفدت الوزنية تجاربهم السابقة التي انتظمت على إيقاع الحماسة والحروب، قبل أن ينجوا منها أحياءً وينقلوا مشاهدها إلى الذاكرة، وينصرفوا إلى رحابة الحياة وتلاوينها. ومما أودُّ تسجيله، انطباعاً بحاجة لدراسة، هو اقتراب الدرس الأكاديمي من الحداثة الشعرية بلا محاذير أو تحفّظات، فأقبلت الجامعات اليوم على دراسة تجارب شابة وحديثة الرؤية والأسلوب، وسمحت لطلبتها بدراستها، دون تحفظ أو حجْرٍ على الأشكال.
كما أقدم النقد الشعري العراقي على التلامس مع تلك التجارب كتابةً وتحليلاً، وتأشيراً لما يستجدّ من ظواهر في السيرورة الشعرية. فالناقد موجود، وقراءته متعددة الأشكال في التنظير أو التحليل النصي. وربما أنكر بعض الشعراء ذلك جرياً على عادة الشكوى المكررة عن (تقصير) النقد بحقّ تجاربهم، لكن ليس في مجمل رصد الحالة الشعرية وتأشير ما تنجزه. والذي أودّ ان أختتم به في هذه العجالة، هو الإشادة بتعدّد مصادر ثقافة الشاعر اليوم ومرجعياتها، فالترجمات، ومراجعة التجارب الشعرية، وتحفيز مناقشة قضايا الشعرية ومفرداتها النصية، تعكس تلك الحيوية الشعرية التي تغمرني بالتفاؤل، رغم التحفظات المثارة حول ضعف بعض التجارب، بفهم خاطئ للحداثة، ودليلنا هو ثبات الشعراء العراقيين على فضاء شعرهم، وعدم انجرارهم الحماسي صوب الرواية، كبعض أقرانهم العرب مثلاً..
علي حسن الفواز: إغواء الحرية وكراهية الثورة
يحضر التاريخ بوصفه أقسى مُؤثّرات التمركز في العقل الشعري العراقي، وربما في وضع الشاعر، إزاء رهانات الذاكرة الصعبة، حيث يجد الشاعر نفسه إزاء إغواء لعبة غير محمودة النتائج اسمها التجاوز، والتمتع الكامل بحرية التخيل والإنجاز، فأسماء مثل طرفة وبشار وأبي تمام والشريف الرضي والمتنبي، تخرج عن عباءتها التاريخية لتصنع نوعاً من اللاوعي الموجع، حيث يختلط الإشراق والشغف بالهيمنة التي تنزع عن الشعراء رغبتهم العميقة في البحث عن الفردنة الشعرية. رهان التاريخ وأيقوناته يقابله رهان الأيديولوجيا، فهي لا تقلّ رعباً في تأزيم تموضع الشاعر الحُرّ في اللغة والهوية، لاسيما وأن خيارات الأدلجات الكبرى – الماركسية والقومية – كانت ضيقة ومتعسّفة، وأحياناً تقفل أبوابها على أيّ خيارٍ للتجاوز والاختلاف، ليبدو أحدهم وكأنه البوق أو الثوري أو المنظّر أو القائد أو الداعية، ورغم نزعة التمرد عند البعض، إلا أنّ الأغلب منهم ظل مسكوناً بها، لا يطمئن إلى نزقه الشخصي، ولا إلى هواجسه، وحتى بدر شاكر السياب الصاخب في أعماقه ظلّ مضطرباً وتائهاً بين ثنائية شاعر «الراية والمتاهة» بتوصيف فوزي كريم، حيث طالته توصيفات الكراهية، والعزل والخوف في المدينة الملعونة.
المشهد الشعري اليوم مضطرب، فالشعراء مسكونون بالمراودة، لكنهم أكثر قلقاً في البحث عن ذواتهم، فظواهر مثل الاحتلال، والصراع الأهلي، وعنف التاريخ، وتشوه العلاقة مع السلطة والمختلف، بدت وكأنها قرائن ضاغطة مثل التاريخ والأيديولوجيا.
أحسب أنّ مرحلة الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، بدت أكثر عصفاً بهذا التمثيل الشعري، فبقدر ما كان عصف التجريب والتمرد ضاغطاً، فإن هيمنة فكرة الانتماء كانت لها حمولتها الأخلاقية والنضالية، وحتى الثورية، إذ كثيرا ما تختلط مفاهيم الثورة بالتجاوز، و»الوعي الشقي» برهاب البحث القلق عن خيارٍ لفكّ الاشتباك الفكري والوجودي مع السلطة العنيفة والقاسية، وحتى شعراء المنفى عاشوا هذا الصراع الوجودي والثقافي المحتدم، بين لذة الحرية والتمرد، وشجن النوستاليجيا التي هي وجه آخر للأيديولوجيا، إذ يحتشد كثير من قصائد سعدي يوسف وفاضل العزاوي وفوزي كريم وشاكر لعيبي وهاشم شفيق وعبد الكريم كاصد وآخرين بتلك الهواجس الخفية تارة والمفضوحة تارة أخرى..
المشهد الشعري اليوم مضطرب، فالشعراء مسكونون بالمراودة، لكنهم أكثر قلقاً في البحث عن ذواتهم، فظواهر مثل الاحتلال، والصراع الأهلي، وعنف التاريخ، وتشوه العلاقة مع السلطة والمختلف، بدت وكأنها قرائن ضاغطة مثل التاريخ والأيديولوجيا، فالمشهد لا هوية واضحة له، حيث يتجاور برابرة كافافيس، مع غموض الغابة، وفرجة السيرك، وقسوة المعسكر والأرض المفخخة. والشعراء يشبهون الكائنات الضالة، يتوهمون اصطناع ميتات فائقة للتاريخ والأيديولوجيا والثورة والأمة، والسعي إلى استيهام صعود غير منضبط للفردنة، ولتوصيف جيل مع جواز هذه التسمية، له حساسيته الرافضة لذاكرة الهيمنات، ولتاريخ الشعراء الآباء، بدءاً من شعراء الراية وشعراء الكراهية، وانتهاء بشعراء القاعات الكبرى.
هذا الجيل، أقصد جيل المشهد الشعري، لا بيانات لهم، أسوة بأولئك الشعراء الآباء، عالقون بأحلام التمرد، والسكنى في قيم «الحداثة» أو ما بعدها، حيث سرديات التكنولوجيا، وحيث تأسيس المكتبات الرقمية، وحيث التخلي عن رمزية الشاعر الثائر والقائد، لكنهم أيضا وبحكم عوامل تاريخية ونفسية وحتى سياسية يعيشون متاهة البحث عن الذات، ربما للظروف الصعبة التي عاشتها العراق بين الاستبداد الطويل والاحتلال الهوياتي والصراع الأهلي، وكلّها عوامل وضعت القصيدة بوصفها مجالاً للتفكير والوجود، أمام تحدّيات خطيرة، مسّت جرفها الصياني، مثلما مسّت روح الشاعر الباحث عن مكانه المتخيّل، وهذا ما جعل شعراء مثل ميثم الحربي، وعلي محمود خضير، وصفاء خلف، وإيهاب شغيدل، وعلي وجيه، ومهند الخيكاني، وعمر الجفال، وصفاء إسكندر، ونورس الجابري، وكاظم خنجر، وأحمد ضياء وغيرهم، يتخلّصون من عقدة الحزب والمؤسسة، لينفروا إلى الشارع والتظاهرة والمقهى، يجاهرون بالرفض العمومي للتاريخ والأيديولوجيا والأحزاب ذات المسحة التاريخية. إنهم شعراء «اللحظة الحرجة» على حدّ قول الناقد عباس عبد جاسم.
علاوي كاظم كشيش: النضج خارج محدّدات الشكل
لم يتوقّفْ نهر الشعر العراقي، وهو الرافد الثالث منذ قرون سحيقة، ولم يكن مجراه رتيبا ساكنا، بل يشهد في كل فترة تاريخية دفقا وهيجانا وسرعة وبطأ ليحمل في مجراه هذا، من أنواع القصائد والنصوص ما لذّ وطاب وأصاب وما أخطأ وسقط وخاب. في الحاضر الآني فإنّ نهر الشعر العراقي ما زال يتدفق بالتجارب الشعرية العريقة منها والفتية والخصبة، التي هي بين بين وتنطفئ حال اشتعالها.
ويحاول شعراء عراقيون جاهدين على إغناء الخطاب الشعري بالجديد من فنونهم، بغض النظر عن تنوّع الأشكال الشعرية، فهي لم تعد معيارا للحداثة، بل أن ما يمرّ به العراق من احتدام في الأحداث والوعي جعل القصيدة تنهض لا بشكلها، بل بما تكتنزه من رؤيا وجمالية تعوض الخسارات التي تدفعها تجاه الحدث السريع، الذي لا ينطوي على جمالية وحياة ويسبب عرقلة في مسيرتها، ما يعجل في ولادة الأسئلة الشرسة الواعية حول مصير هذا البلد والإنسان فيه.
القصيدة العراقية بكلامها الشعري المنظوم والمنثور، ولدت من رحم البساطة، تلك البساطة التي يمنحها الإبداع بعد عسر واعتمال هائلين موجعين، لنجد أنّ هؤلاء الشعراء لم تأخذهم السهولة بخديعتها ولم يعملوا على نشر ثمارهم قبل نضجها.
المتابع للتجارب بما صدر منها خلال العقدين السابقين، يجد أن هناك قصيدة عراقية ولدت محملة بالكثير من الوعي الجمالي، الذي يقترب من البيان أكثر مما كان مقتربا فيه من الهذيان على مستوى قصيدة النثر مثلا، ومن الإتباعية الباردة على مستوى القصيدة العمودية، أما قصيدة التفعيلة فقد شهدت انحسارا واضحا كونها مثقلة بالصنعة والقيود التي لا تمنح الكلام الشعري حركة تتيح له أن يذهب بالحمولات التعبيرية الجمالية، من دون أن يصيبه البطء والكزازة إذا كان متاحا لنا استعمال المصطلح القديم.
تشهد قصائد حسين القاصد وعارف الساعدي وعامر عاصي وعادل الصويري وقاسم العابدي وسواهم من الشعراء، الذين ما زالوا يرفدون القصيدة العمودية، بحرارة اللغة التعبيرية، والصور اللافتة والعمل على كسر الطوق المضروب حول الكلام الشعري في الشكل العمودي، حتى أنّ قصائدهم جاءت ساخنة فوارة تحتفظ بحرارة الرحم الذي أنجبها، بعيداً عن التصنع والتكلف ومواكبة للحدث والمشاعر والرؤى في هذا الآن الساخن.
بينما جاءت قصائد (ولا أقول نصوص) عمار المسعودي وحسن جعفر وطالب عبد العزيز وإيهاب شغيدل وكريم جخيور بكلامها الشعري النثري، وهي تميل إلى طغراء البيان العربي، بشعرية عالية وكلام شعري لا يجانب اليومي، بل يندمج معه بصوفية واضحة تعمل على إعادة اللغة من الاستهلاك إلى الولادة الأولى؛ بحيث حققوا مفهوماً معاكساً للانزياح بمفهومه الشائع. ويمكن القول إن اللغة في نصوص هؤلاء الشعراء النثريين، تولد من جديد وهي تحمل معها تناقضها الجمالي العالي، من دون السماح للمُخيّلة بالانفلات والتذرع بالهذيان الذي غزا «النثيرة» العربية منذ عقود.
القصيدة العراقية بكلامها الشعري المنظوم والمنثور، ولدت من رحم البساطة، تلك البساطة التي يمنحها الإبداع بعد عسر واعتمال هائلين موجعين، لنجد أنّ هؤلاء الشعراء لم تأخذهم السهولة بخديعتها ولم يعملوا على نشر ثمارهم قبل نضجها. وليس من المغالاة والتدبيج السريع القول إن شعراءنا حملوا وعي القصيدة وصوتها الذي كان مُسخّراً لغيرها ولغير أن تكون وتنبت، خالية من الغائية والغرضية، بل هم يعملون على أن تكون قصائدهم نخيلا عراقيا جديرا بالغرس والإثمار. على أن هذا اللمحة السريعة لا تغفل كثيراً من الغرس الذي لم ينبت، ولم يحمل معه شروط سلامة ولادته من قصائد كثيرة كتبت وولدت وهي تحمل معها أسباب ذبولها، لكونها في الأعم الأغلب كانت ثمرا غير ناضج. وقد صدرت مجموعات شعرية عديدة لم تحقق حضورا وإضاءة على العكس من تجارب الشعراء الذين مرّ ذكرهم آنفاً.
كاتب مغربي