منذ بدايات النهضة العربية كانت أرض الكنانة مختبر تجديد وإبداع لم ينقطع، وكان شعراؤها، من أمثال أحمد شوقي، وعبد الرحمن شكري، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل، ومحمد عفيفي مطر، وعبد المنعم رمضان، مصدر إلهام لشعراء العربية، في كل الأوطان الواقعية والبديلة. كان لا يأتي من مصر إلا العطر الفوّاح، والعزاء الجميل، والوعد الذي يستأنف معناه في كل لحظة. لكن هل يعيش الشعر المصري في وقتنا الراهن أزمة؟
ففي ظلّ الخصام الأجيالي، وهيمنة الذائقة العامة، واستشراء السلطة ورديفتها «الفساد الثقافي» وتنامي ثقافة الإجماع الكاذب التي تحتقر قيم الإبداع والتعدّد، ووهم الريادة والطليعة، والإقصاء الممنهج ضدّ أصوات الشعرية الجديدة، وما تمثّلة من وعي بالقطيعة الجمالية والمعرفية، مع «تركة المتحف» يمكن أن يكون لذلك السؤال أهمية خاصةّ في إعادة النظر والاعتبار بما يحدث في الواقع الفعلي. لكن من الصعب أن نزعم بأن شعر المصريّين خرج «خاوي الوفاض» ودون منجز، لأنّه كان دائما في قلب تجربة الحداثة، وكان أمام تجاربه الإبداعية، بما فيها تجربة الراهن التي ظهرت مع ثورة الربيع العربي، تلك الإمكانات البديلة والخلّاقة، التي تستنهض سؤال الإبداع من محنته؛ إذ لا مجال لبلوغ القصيدة حريتها سوى بالإبداع وشهواته النابضة بفعل الكينونة وأمل التغيير.
محمود قرني: عبادة الماضي كفريضة شعرية
قبل عدة سنوات كتبت مقالة عن أزمة الشعر المصري، لم أشأ لها أن تكتمل، تحمل عنوانا بدا ساخرا من فرط سوداويته هو «من ينقذ شعراءنا الكبار من أنفسهم؟». كنت آنئذ أودّ التنبيه إلى خطورة الضلالات التي تتعاظم كل يوم حول الشعر الجديد في أذهان شعرائنا، الذين تصدّروا المشهد الشعري، سواء بجدارة الموهبة والمنجز، أو بأقدمية السن وقسمات الشيخوخة. غير أن مساحات التشوش ظلت تتنامى يوما بعد يوم، حتى تحوّلتْ إلى نوع من الاستئصال الممنهج الذي تبدّتْ مظاهره في تجليات تكاد تستعصي على الحصر، وهو أمر دفعت به الديمومة إلى منطقة المألوفية، فأصبح يقع موقع الخطأ الشائع أو الجريمة الاعتيادية. وفي كل مرة لن يعدم القائمون على الأمر أسبابا تُعمّق، في جوهرها، من قناعتنا بازدراء أبويّتهم. فهم، بصكوك غفران الدولة الشمولية، الحراس على ذائقة الأمة وعلى عقلها، والجنود البواسل ضد أي اختراقات للثابت والمستقر من وجهة نظرهم. وهي حالة باتت تستحق الشفقة بأكثر ما تستحق استجلاب اللعنات، لكن توصيفها ربما كان مفيدا في مقامه. فهذا الوعي ظل يصم سلوك عدد من شعراء الأجيال الأسبق في مصر، ضد معظم الشعراء الجدد، وما يمثلونه من قيم شعرية تتجه نحو القطيعة الجمالية والمعرفية مع ماضيهم، الأمر الذي أدى في نهاية الأمر إلى صعود جيل ورث تركة ثقيلة تكتظّ بالنفي والإقصاء، ومن ثم بدا تكريسا للمزيد من القطائع الإنسانية والمعرفية والجمالية على السواء. وقد حاول عدد من الشعراء، منذ وقت مبكر، التنبيه أيضا إلى خطورة تعميق الهوة بين جيلين، يبدوان متصلين زمنيا هما جيلا السبعينيات والثمانينيات، وأظنّ أنهم لم يكونوا مدركين أن المسافة أبعد من كونها زمنا يبدو قصيرا، وفي متناول اليد، لأن الحقيقة الجمالية قالت كلمتها، وهو أمر بدت معه السنوات العشر التي تفصل السبعينيين عن لاحقيهم كأنها السنوات الضوئية.
ومع استقرار الصورة التي شكلت محتوى المشهد الجديد، انتخبت الذائقة العامة قديم الشعر من جديده، كما أفرزت جيده من رديئه، وكشفت الكثير من عورات العراة، الذين ظلوا أزمنة يعتاشون على عشب غيرهم. في الوقت نفسه لم يستسلم الشعراء الجدد لمأسسة مشروع القتل الجماعي، الذي قاده شعراء يتزيون بزيّ الريادة والتقدم والطليعية، فأصدروا مطبوعاتهم ودواوينهم ومجلاتهم وأقاموا مؤتمرات كبرى بقروشهم القليلة، وهي مؤتمرات تفوقت على الكرنفالات التي أنفقت عليها الدولة ملايين الجنيهات. ومع ذلك كان من نتيجة هذا الإقصاء الممنهج، أن تم وصم الشعر المصري كلّه بأنه خرج من حقبة الحداثة خالي الوفاض، دون منجز يتساند عليه ويبرر من خلاله مزاعمه بالريادة، ورغم أننا نختلف مع هذا التوصيف «العروبي» الإقصائي كذلك، إلا أن تفاؤلنا بثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني أعاد إلينا بارقة في تصحيح مواقع الأقدام، سواء من جانب الكبار أنفسهم، أو من جانب المؤسسة التي منحتهم المكنة على ترتيب الصورة على هذا النحو الشائن، غير أن ما حدث كان أكثر إيلاما مما يتصور أكثر المتشائمين. وسأذكر هنا واقعة واحدة لكنها ربما تكون دالّة في موضعها.
ومع استقرار الصورة التي شكلت محتوى المشهد الجديد، انتخبت الذائقة العامة قديم الشعر من جديده، كما أفرزت جيده من رديئه، وكشفت الكثير من عورات العراة، الذين ظلوا أزمنة يعتاشون على عشب غيرهم.
ففي مطلع عام 2013 أعلن تسعة من أعضاء لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة «في تشكيلها الجديد». كان على رأس المستقيلين الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، على خلفية انتخاب الشاعر ماجد يوسف مقررا للجنة، خلفا للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. «لكن حجازي ورفاقه لم ينسوا أن يذكروا في استقالتهم أن التشكيل الجديد للجنة لا يحقق الانسجام المطلوب بين الأعضاء، ولا يتيح فرصة حقيقية لعمل أصيل من أجل رفعة فن الشعر وازدهاره» فما الذي كان يريده الكبار؟ في ظل ثقافة تعمل تحت وطأة الإجماع، وتحتقر الفردانية، ثقافة تبحث عن خطابات جامعة تعمل على وأد التنوع والتعدد. على كل حال لم يمرّ أكثر من عام حتى أقيلت اللجنة المنتخبة وعادت لجنة حجازي ورفاقه مرة أخرى، وعادت معهم ممارسات النفي والإقصاء كافة.
ليس غريبا إذن أن نجني، من موقع الأبناء، الآثار المروعة لهذا الوضع التاريخي الدامي، وحتى نتأكد من ذلك علينا أن ننظر كيف استعان السياسي بالقفاز الخشن الذي يعتمد القوة الغاشمة في حسم اختياراته، بمساعدة هؤلاء الآباء. كذلك علينا أن نتأمل النتائج التي ترتبت على إلحاق النخب الفاعلة من هؤلاء الآباء بكتائب التبرير السياسي والثقافي لإضفاء المشروعية على أداءات سياسية مختلّة، تفتقر إلى أي كفاءة، الأمر الذي ساهم في التنامي المذهل لجماعات الفساد السياسي والثقافي، وكذلك تنامي قوة المحافظين، وسيطرة التيارين معا على أدوات التدجين وإعادة إنتاج الأصولية، بوجهيها الثقافي والديني، حيث تمارسه الجماعة الأولى بقوة البطش السياسي، أما الثانية فتمارسه عبر الخطاب الغوغائي ضد السلطة الزمنية في الصراع الحضاري. إذن ما الذي يمكن للأصوات الغضّة الطالعة فعله أمام هذه التركة المنتنة، وكيف يمكن النظر في هذه المناخات لحركات التجديد الفكري عامة والشعري على نحو أخص؟ الإجابة معروفة بطبيعة الحال، ونعاني مراراتها منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهو أمر، في ظنّي، لن تجدي معه مراجعة هؤلاء الكبار في مقولاتهم ومواقفهم، لأنني أتصور أن هؤلاء، الذين تعلّمنا عليهم، في حاجة ماسة إلي من ينقذهم من أنفسهم.
شريف الشافعي: سياسات الفعل الممكن
بعيدا عن المشهد المؤسسي الرسمي، الذي ترعاه وزارة الثقافة المصرية بهيئاتها وجهاتها ودور نشرها، وما ينجم عنه من مؤتمرات ومهرجانات كرنفالية احتفالية، ومعارض وسلاسل وجوائز وفعاليات متعددة، تنتصر للكمّي والشعاري والدعائي على حساب الكيفي والجوهري والفاعل، وتنحاز للتقليدي المستقرّ على حساب المدهش والمغاير والداعي إلى الحراك، والتفجير والتثوير، فإن الراهن الشعري المشتعل، يعيد تشكيل القصيدة الجديدة، وفق إمكاناته المتاحة. هذه الإمكانات الموازية ليست هيّنة، وتتمثل في دور النشر الخاصة، والإصدارات الورقية والإلكترونية الفردية بمعرفة الشعراء أنفسهم، والتظاهرات الأهلية؛ المحلية والعربية والدولية، مثل مؤتمر قصيدة النثر، ومهرجان طنطا الدولي للشعر، والمجلات الورقية والرقمية، مثل ميريت الثقافية، إلى جانب التجاء الكثير من الشعراء المصريين المتحققين والشباب إلى النشر خارج مصر، في لبنان والأردن وسوريا والمغرب العربي وأوروبا وأمريكا، تفاديا لمعوّقات النشر في مصر، المعنوية والمادية على السواء، بكل ما تحمله من تفاصيل الاستغلال والشللية والبيروقراطية والوصاية المباشرة والضمنية.
تضاف إلى هذه الإمكانات البديلة الموازية، شبكة الإنترنت، بما أتاحته من فضاء يتسع للنشر المباشر، من جانب الشعراء أنفسهم، دون وسيط يقف بينهم وبين المتلقي، وكذلك بفتحها سبل التواصل مع جهات النشر الخارجية دون عراقيل، ما يعني أن فرصة تحقق الشاعر الجيد والمتميز صارت مرهونة بصنع يديه، في المقام الأول، وهذا لم يكن متاحا للأجيال السابقة. مع ذلك، فإن الواقع الشعري المصري، شأنه شأن العربي، لا يقدم الطرح المأمول، فالأصوات الفارقة قليلة، بل نادرة، وسط ركام الضجيج وجنون «التريند» وخداعه. هل محنة القصيدة في داخلها؟ تشير القرائن الأولية إلى ذلك، فلم يعد منطقيّا الحديث عن معوّقات خارجية وقيود إجرائية تحول دون تطورات الشعر في مرحلة السماوات المفتوحة والبث الإلكتروني والنصوص المتدفقة بسرعة البرق من الكاتب إلى المتلقي. إنها الفرصة الذهبية، بل الاستثنائية، التي لم ينتهزها الشعراء المعاصرون والجدد على النحو الأمثل حتى اللحظة الحالية. رغم حضور قصيدة النثر خلال العقود الأخيرة كوجه من وجوه الفن الحيوي المعبّر عن التفاصيل الصغيرة، والأمور العابرة واهتمامات الشخص البسيط في معترك الواقع المعيش، فإنها تعرّضت بدورها لتلك الأزمات التي اعترت أشكال الكتابة والإبداع برمّتها، وصارت نماذج كثيرة منها مجرد اعترافات هشة ويوميات مذكراتية متورمة وتدوينات ألبوماتية وصياغات جاهزة مكرورة، إلى جانب ما في بعض النصوص الضعيفة من ظلال الخطايا القديمة، من قبيل: الدور الوظيفي، الخطابية، الأدلجة، التسييس، إلخ.
وإلى جانب الإدارة الثقافية الرسمية السيئة، القائمة على الانحياز والمجاملة، فقد حَرَمَت «التابوهات» والمقدّسات الوهمية والتصوّرات المتحجرة المسبقة حول الكتابة وشروطها أجيالا من الشعراء النابهين من تقديم أنفسهم بطريقة مغايرة، فسقطوا في بداية مشوارهم يائسين ومنهزمين بسبب وصاية المسؤولين وأصحاب القرار.
لا مجال لبلوغ القصيدة حريتها سوى بقصر الاشتغال على العملية الشعرية وحدها، وتنقيتها من رواسب التبعيّة، بوصف الإبداع كيانا مستقلّا بذاته، وفعلا مكتمل الإرادة.
ومع زوال هذه المعوقات، وغيرها، بظهور الفضاء الرقمي، والنشر الإلكتروني، لا تزال النسبة الأعمّ للأسف من النصوص الشعرية الجديدة متذبذبة ومتوجسة أمام تحقيق آمالها وطموحاتها، لكنْ لأسباب تتعلق بطبيعة هذه النصوص نفسها في هذه المرة. هذا الانحدار الجوهري يكمن في ماهيّة القصيدة وكينونتها، وفي انفصامها عن روح العصر ولغته وفلسفته، وشذوذها عن الهواء الطلق الذي ينشده سكّان الكوكب، بغير أجهزة إعاشة اصطناعية.
حرية القصيدة، وانطلاقها، وثوريتها، هي نتاجات أدواتها وابتكاراتها كفن نوعي في حقلها الخاص، وهذا لا علاقة له مثلا بركوب موجات، مثل كتابة البورنوغرافيا الجسدانية، والتجديف والهوس اللاديني، وأناشيد الثورات العربية الهاتفة بالحرية في الميدان، ومنشورات الرفض والمعارضة السياسية، وغيرها من الأنساق الجريئة شكلا، المتمسّحة ظاهريّا بالحرية كبيانات لغوية، دون أن تحققها القصيدة ذاتها بيديها. لا مجال لبلوغ القصيدة حريتها سوى بقصر الاشتغال على العملية الشعرية وحدها، وتنقيتها من رواسب التبعيّة، بوصف الإبداع كيانا مستقلّا بذاته، وفعلا مكتمل الإرادة، وتلك هي النظرة الجديدة للشعر، المخالفة لدوره التاريخي في العالم العربي، إذ طالما كان ردّ فعل ومرآة دعائية لقوى مركزية استقطابية، ما أدى إلى إفراز نجومية فئات محددة من الشعراء، حسب وظيفة الشعر لديهم: شعراء البلاط، شعراء السلطة، شعراء القضية الفلسطينية، شعراء المعارضة، إلخ.
والطريق ممهّدة بالفعل أمام القصيدة الجديدة لتتحول عفويّا إلى فعل حيوي تحرري على سائر المستويات، مكتفية بذاتها في وجودها وتحققها، وتلمُّس مكانها اللائق في المشهد، ومخاطبتها الآخر بشكل مباشر دون أقنعة، وتفاعلها الإيجابي مع المتلقي العادي غير النخبوي؛ أينما كان، كضرورة لاكتمال دائرة الفن، واتساعها اللانهائي. وتصالح القصيدة مع ذاتها يبدأ من منابع الشعرية البكر، الخام، الموجودة بذاتها، المحصّنة بنبضها الطبيعي ضدّ العولبة الفجة، والتصنيع الميكانيكي، ومكسبات الطعم واللون والنكهات الإضافية وألاعيب الزينة والمجازات والتهويمات، أي أن يبقى الشعر شعرا كهدف أول، ويحسن الشاعر قراءة ذاته القريبة دون عدسات، ليتمكن من قراءة معطيات واقعه، ومستجدات عصره، ومخاطبة صديقه القارئ الذي يتقاسم معه الخبز والهموم في الغرفة الكونية. وهذه الشعرية الجديدة تعنى في أولوياتها بالإنساني الخاص، والمشترك، ومسألة الوجود، ولا تكاد تتوقف عند الظواهر العارضة والقضايا الزائلة والمثاليات الكبرى، التي تنهار تباعا على صخور الأرض. وأوّلا وأخيرا، على الشاعر أن يزيل تلك الفواصل الوهمية بينه وبين نفسه، فتتلاشى المسافات بينه وبين الآخرين.
أسامة حداد: المشهد الشعري في مصر
لقد تجاوز النص الشعري في مصر الخطاب الأيديولوجي، والشاعر المحفز، وكذا التعبيرية بأشكالها المتعددة، والإشراق الصوفي الذي اتسمت به تجارب شعرية، في مقدمتها منجز محمد عفيفي مطر، لصالح تعدد الأساليب الشعرية، كما انتقلت الكثير من التجارب من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ومن البلاغة الصوتية إلى المجاز البصري، وبدت ظاهرة غياب المعنى، أو بالأدق تعدده سمة من سمات النص الذي يسعى إلى التواشج مع الفنون الأخرى، مع تعدد الأصوات وتوظيف آليات السرد في كسر لمؤسسية النوع الأدبي ومواجهة سلطويته.
وفي لحظتنا الآنية تتصدر قصيدة النثر المشهد الشعري المصري، ويبرز عدد كبير من الشعراء من أجيال متنوعة، فمن جيل السبعينيات يتصدر الشاعران أمجد ريان وجمال القصاص، بمنجزين لكل منهما خصوصيته؛ حيث يعتمد أمجد ريان في تجربته على اكتشاف العالم، من خلال التفاصيل اليومية وتفكيك موجودات الحياة داخل نص يعتمد على توظيف السيناريو، كآلية للحكي، والانتقال من حكاية إلى أخرى، عبر لحظات شعرية تحملها لغة تقترب من لغة التواصل اليومي، ويقدم شبكة من العلاقات بين الآني والماضي. في حين يقدم جمال القصاص الأكثر تأثيرا في الأجيال التالية، نصا تأمّليا في لغة جمالية، ينتقل خلالها من الخارج إلى الداخل؛ ليصنع زمنا آخر هو زمن المبدع، ويقدم تجربة متسعة كرؤيوي يعيش الصراع مع العالم؛ إنّه يقدم ذاتا جمعية، ومن خلالها يصنع موازاة رمزية مع العالم الذي يبدو هشّا. ويضمّ هذا الجيل عددا من الشعراء لهم تجاربهم المميزة مثل، أحمد طه الذي توقف منذ سنوات وله تجربته المتميزة منذ نصه الأشهر «امبراطورية شبرا» وعبد المقصود عبد الكريم، الذي خطفته الترجمة بعض الشيء من الشعر، ومعهم محمد فريد أبو سعدة وشعبان يوسف ومحمود نسيم وسامي سعد.
إنّ المشهد المصري متنوع، ويشهد ظاهرة العائدين من الخلف؛ حيث أصدر عددٌ من الشعراء مجموعاتهم الأولى في عمر متأخر، مثل: فردوس عبد الحميد، وكمال أبو النور، وياسر الزيات، ومحمد حربي، وغيرهم.
ويلي جيل السبعينيات جيل الثمانينيات الذي قدم تجارب مميزة، وصارع طويلا من أجل قصيدة النثر، ومن أبرز أصوات هذا الجيل ياسر الزيات وإبراهيم داود وعاطف عبد العزيز وفتحي عبد السميع وعلي منصور وغادة نبيل وفاطمة قنديل وسمير درويش وأحمد السواركة وعادل جلال وإبراهيم محمد إبراهيم وعماد غزالي والراحل أسامة الدناصوري، وتتنوع في نصوصهم آليات الحكي، كما يتجاوز السرديات الكبرى،، وينحو باتجاه البسيط والعادي والهامشي من خلال القبض على اللحظة الآنية؛ حيث يجتمع فيها التاريخ، وهي سمة في نصوص هذا الجيل ترتبط بوظيفة الشعر، وموقف الذات من العالم الذي تغيب فيه النظرة البطولية، وتبرز الذات المهمشة والمنسحقة أحيانا؛ وهي من السمات التي بدأت مع الجيل السابق، وإن كانت أكثر حضورا في هذا الجيل. وفي حين يقدم إبراهيم داود نصّا يبدو بسيطا، لكنه عميق في ذاته وشديد الإنسانية، من خلال دفقة شعرية تقدم لحظة خاطفة من الحياة بتفاصيلها، يطرح من خلالها أسئلة الحياة بلا يقين بهذا العالم. ويقدم عاطف عبد العزيز نصّا مختلفا يقوم على التناقض بين لحظتين، بما يحمل ذلك من مفارقة وأسئلة يُشكّل من خلالها الأسطورة الجديدة، أسطورة المدينة. ويبدو البحث عن الهوية سمة في تجربة فتحي عبد السميع، حيث يحضر الصعيد في مصر، من خلال توظيف الحكايات الشعبية والخرافات الصغيرة، وصراع الذات مع عالم يبدو غرائبيا، وحيث تعيش الذات داخله تناقضاتها.
وتتعدد التجارب في جيل التسعينيات الذي يضمّ عددا كبيرا من الشعراء والشاعرات؛ مثل: أحمد يماني، وأشرف يوسف، وأحمد المريخي، وكمال أبو النور، وهدى حسين، وعلية عبد السلام، وبهية طلب، ومحمد متولي، وعصام أبو زيد، وجيهان عمر، وأسامة جاد، وهشام محمود، وصبحي موسى، وعادل سميح، ومؤمن سمير، وهبة عصام، وأسامة بدر، وعزمي عبد الوهاب، وجرجس شكري، ومحمود خير الله، وأمل جمال، وزهرة يسري، ومحمد الكفراوي، وعبد الحفيظ طايل، ونجاة علي، وشريف الشافعي، وعيد عبد الحليم، ويوسف مسلم، وهو جيل صار راسخا في المشهد الشعري في مصر، وشكل طفرة في قصيدة النثر حيث تتعدد التجارب وتتجاور في آن. ومع ثورة الربيع العربي ظهر جيل جديد يضمّ أصواتا مميزة وإن كانت الذات الفردانية تبدو مركزا للنص في مقابل اهتمام أقلّ بالعالم. كما تبدو الأصوات الأنثوية متعدّدة في هذا الجيل، ومن أبرزهم ديمة محمود، وعبد الغفار العوضي، وعبد الرحمن تمام، ورضا أحمد، وهدى عمران، ومحمد القليني، وممدوح التايب، وعمر شهريار، وسارة عابدين، ومروة أبو ضيف، وإسلام نوار، وإسراء النمر، وخالد حسان، ومصطفى أبو مسلم وإسلام سلامة.
ولعل أبرز سمات قصيدة النثر في مصر هو، الشخصية المصرية الكامنة داخل النصوص، حيث مؤثرات المكان حاضرة بأشكال متنوعة تتجاوز الجغرافيا إلى جوهر المكان، كما أن آليات الحكي وتنوعها ظاهرة؛ إذ يعتمد مؤمن سمير على التحولات داخل السرد وامتداده، ومروة أبو ضيف على تناثر الحكاية وتفكيكها لتصنع منطقها الفني، وتقدم رضا أحمد نصّا يعمد إلى تفكيك الموجودات وبعثرتها في رؤية سرييالية، كما يشكل البوح والاعتراف سمة داخل النصوص بأشكال متنوعة تلعب دورها في الصراع بين الذات والعالم.
إنّ المشهد المصري متنوع، ويشهد ظاهرة العائدين من الخلف؛ حيث أصدر عددٌ من الشعراء مجموعاتهم الأولى في عمر متأخر، مثل: فردوس عبد الحميد، وكمال أبو النور، وياسر الزيات، ومحمد حربي، وغيرهم. وتتنوع التجارب الشعرية بقدر تنوّع التراكيب اللغوية، وكأنّ لكل شاعر اقتراحه الخاص وبصمته من خلال اكتشافه لطاقات اللغة وتوظيفها داخل نص يتجاوز المقولات المعدة سلفا، فقصيدة النثر لم تعد خطابا نقديا ضدّ التراث الشعري، كما يروج البعض، بقدر ما هي نص يتوافق ويواكب اللحظة التاريخية.
لقد حاولت جمع أكبر عدد من الأصوات الشعرية وفق التقسيم زمنيّا إلى أجيال، رغم التباينات والاختلاف في الانحيازات الجمالية وتقنيات الكتابة، باعتبار التجييل معيارا متعارفا عليه.
كاتب مغربي