قبل ان اقرأ كتاب ‘ايمري نف’ عن المؤرخين وروح الشعر بعقود قد تمتد الى الطفولة، كان لدي هاجس مزمن يثار كلما قرأت كتابا في التاريخ، فالوقائع بحدً ذاتها قد تبدو بلا وهج على الاطلاق اذا لم تكن ممهورة بنفس المؤرخ، فسقوط غرناطة مثلا والطريقة التي سلم بها ابو عبد الله الصغير المفاتيح وما عيًرته به امه لا تقرأ كما لو انها مجرد احداث وقعت ذات خريف عربي بعيد ثم جاء من بعدها ما يحيلها الى قعر الذاكرة.
وكذلك الخطبة الشهيرة والتراجيدية لطارق بن زياد عندما وقف بين نارين او بين نار ورمضاء، وهو محاصر من البحر والأعداء. تلك كانت هواجس اولية سرعان ما تنامت وتحولت الى مساءلات خلدونية فالتاريخ ليس صادقا على الدوام لان هناك تواريخ وليس تاريخا واحدا.
فلو قرأنا مجمل السير التي كتبت عن اباطرة وحكام من طراز الاسكندر ونابليون وستالين وهتلر لوجدنا ان هؤلاء يتعددون تبعا لمن كتبوا عنهم،فقد يكون هناك اكثر من عشرين بسمارك وثلاثين ستالين ومئة نابليون.
وما اعنيه ب ليس روايته بانفعال ذاتي، او الاضافة والحذف رغائبيا، هي في صميم ممكناته وما لم يحدث منه لكنه كان على وشك الحدوث، وما يقوله ارسطو طاليس مفرقا بين الشاعر والمؤرخ يوضح ما اعنيه، يقول ان المؤرخ يتحدث عما وقع بالفعل لكن الشاعر يرى ما كان ممكن الحدوث، لهذا فإن ما كتبه هيرودوتس لو نظم شعرا يبقى خارج ملكوت الشعر، وهو يذكرنا بألفية بن مالك وما نسج على غرارها من نظم يبدو شبيها بالشعر لكنه نقيضه، لأن النقيض الفعلي للاصول هو الأشباه.
وحين قرأت تجربة ارنولد توينبي وهو من ابرز مؤرخي عصرنا، لاحظت انه يستلهم الشعر وتوشك مقدمته التي كتبها عن قرطاج والمدرجات الرومانية وما تبقى من اطلال كما لو انها على تخوم الشعر.
يقول انه جلس في احد المدرجات الحجرية الخالية والتي يتردد في جنباتها الصمت، وكان يشعر بقدر من الاعياء بسبب الجوع مما ساعده على ان يكون اكثر شفافية، وفجأة امتلأ المدرج بالنظارة وكأنهم انبعثوا في قيامة مفاجئة وسمع صوتا يتردد مخترقا كثافة الصمت يقول له: تعلَق وانتظر! وتذكرت ما كتبه توينبي المؤرخ عن تلك الاطلال عندما وجدت عددا من نقاد ت.س. اليوت ومنهم ماثيسن يحارون في ايضاح عبارة وردت في قصيدة لإليوت هي ‘البوابات الحارًة’ … فمنهم من قال انها اشارة جنسية ومنهم من فهم منها انها بوابات القلاع القديمة لحضارات سادت ثم بادت. بالطبع لن يجد المؤرخ مثل هذه التأويلات لحكايته، حتى لو كانت اقرب الى المجاز وروح الشعر، لأنه مقيد بالواقعة وبالشخوص الذين هم ابطال مسرحها، وقد يكون المؤرخون العرب هم الأقرب الى متاخمة الشعر بسبب افراط بعضهم بالانفعال ازاء ما يرى كما حدث لابن الأثير مثلا او لابن اياس وكلا المؤرخين شهدا احداثا مروعة، منها تلال من جماجم القتلى، وبشر يصطادون بعضهم احيانا ويأكلون لحمهم، لهذا يأخذ المستشرق ‘غرونباوم’ على المؤرخين العرب التخلي عن الموضوعية والانفعال الغنائي بما يكتبون عنه خصوصا عندما يكون مأساويا.
***********
قبل اكثر من خمسة قرون كتب شمس الدين السخاوي كتابا بعنوان غريب هو ‘الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ’، وذلك دفاعا عن رأي سائد هو ان الماضي يجب ان يقرأ لاستدراك اخطاء من عاشوه وهو ما عبر عنه الفيلسوف سانتيانا بقوله ان الشعوب التي لا تقرأ ماضيها تنمو دائريا وتكرر الاخطاء بل تحولها الى خطايا، واذا صح ان هيكوبيا كما تقول الاسطورة هي العجوز الثرثارة التي تجسد التاريخ، لكونها تقاطع الممثلين في المسرح وتحاول منعهم من اداء ادوارهم، فإن كتاب ‘ايمري نف’ عن المؤرخين وروح الشعر يبحث في اصداء تلك الثرثرة خصوصا في عصرنا بدءا من فولتير ، فهو يرى الشعرية الكامنة في رواية حدث ما تماما كما تكمن الشرارة في الحجر، لكن شرط اندلاع الشرارة هو الاحتكاك بحجر آخر.
ما افهمه من هذا الوصف هو ان اركان التاريخ الثلاثة وهي صانعه وراويه وقارئه ليسوا دائما متناغمين على ايقاع واحد، فالصانع يريد ان يملي التاريخ وفق رغائبه، والمؤرخ له بالتأكيد اهواؤه ، اما القارئ فهو امام خيارين… احدهما خلدوني يتلخص في الشك ومقارنة الروايات وترجيح بعضها على الاخر احتكاما الى القرائن، والاخر استهلاكي غالبا ما يكون تلبية لفضول او فائض فراغ.
************
مثال واحد يكفي لرصد التناقضات في ثرثرة العجوز هيكوبيا التي تجسد التاريخ حسب الاسطورة هو الحروب الصليبية، فهي ذات عدد لا يحصى من الروايات شرقا وغربا مما دفع المؤرخ جيبون الذي اشتهر بكتابه الضخم عن سقوط الامبراطورية الرومانية الى القول : ‘سأوجز ما يمكن قوله عن هذه الحروب لأن السرد فيها ممل ومتكرر وما حدث فيها من الاعمال العمياء بسبب فائض القوة والجهل معا’. ومن المعروف ان جيبون الذي كتب عن سقوط الرومان وجد من اهل عصره من يقول له ان اسلوبه في الكتابة يفتضح سقوط الحضارة الحديثة التي ينتمي اليها ثقافيا واخلاقيا.
وهنا يجب التفريق بين المؤرخ المحترف وبين الفيلسوف او المفكر الذي يستعين بالتاريخ كخلفية لاطروحاته، فالنمط الثاني وقد يكون فولتير من ممثليه يميل الى الاختزال والانتقاء بحيث يوظف الماضي للبرهنة على ما يقول عن الحاضر وللمثال فقط نذكر عبارة لفولتير تبدو بالغة الغرابة وهي ان الحضارة العربية الاسلامية لم تكن في حقيقتها غير طوفان من البرابرة.
*************
ما الذي يعنيه هيغل بتلك العبارة التي غالبا ما تًًًنتزع من سياقها وهي : مكر التاريخ ؟ هل هو الشعرية الكامنة او الهاجعة في باطن الحدث، بحيث يكون اشبه بالبركان الذي لا يخرج منه غير ما فاض منه على السطح، ام هي تعبير عن الكمائن التي تفاجئ البشر وهم يركضون نحو المستقبل؟ في الحالتين ثمة حفيف شعري لهذه العبارة، فالتاريخ لا يقبل التدجين ورغم انه ذو مجرى الا ان المصب لا يمكن الرهان عليه، ولو شئنا مثالا لذلك فإن الثورة الماركسية كان يجب ان تندلع في مدن المانيا وبريطانيا الصناعية قبل ان تندلع في روسيا عام 1917.
ان للتاريخ تاريخا آخر ايضا لكنه بانتظار من يكتبه، فالرواة وجدوا من يملي عليهم من الاباطرة وهناك من القادة من عزفوا عن قراءة التاريخ لاعتقادهم انهم تفرغوا لصناعته، وهذا ما يروى عن محمد علي باشا عندما قدًم له احد مستشاريه بضعة كتب مترجمة الى الالبانية منها كتاب الامير لميكافيللي، لكن محمد علي سخر من نصيحة مستشاره وقال له اذهب انت واقرأ هذه الكتب، اما انا فلدي ما اصنعه وليس ما اقرأه! وقد تكون في اقصى تجلياتها ترشح من طلل او جرًة فخار او فأس غمرها الصدأ.’
والمتحف ليس مكانا يهجع فيه التاريخ وقد اصبح كبركان خامد، ففي المتاحف ثمة صمت بليغ لكنه يتغلب على ثرثرة هيكوبيا الثرثارة!
كلما انتهيت من قراءة نصوصك أستاذ خيري منصور ينتابني شعور أن ثقافتي تافهة و كتابتي أتفه. ” تبارك الله عليك” كما نقول في المغرب.
سلام الله عليكم
بوركت على المقال .
أضم صوتي لما كتبه أخي المغربي و أكبر فيك هذه الثقافة الواسعة .
حقيقة مقالاتك على طولها تجعلني أوبخ نفسي على تقصيري في المطالعة . تحياتي .