تحمل رواية «شكرا أيها الشيطان» للأديب عباس سليمان بين طياتها الكثير من المفاجآت للقارئ. فالكاتب استطاع أن ينشئ مسافة جمالية ما يمكن تثمينها واعتبارها بحثا عن التجديد والتجريب، وكسرا للنمط السائد، والمسافة الجمالية هي التي يكمن بين طياتها جمال العمل الأدبي ومكانته، حسب نظرية التلقي وأطروحة ياوس. وهي تتمثل في ما يضيفه نص في مستوى جمالياته وأساليبه إلى جنس أدبي معين. وما يتجاوز به النصوص السابقة هي تحديد المفاجآت التي تعترض القارئ. فكلما طالت المسافة الجمالية، تم تثمين النص والإقرار بجمالياته.
وهذا الكتاب في حقيقة الأمر لا يخرج عن المتخيل الواقعي الذي عرف به عباس سليمان، فهو يميل إلى الكتابة بمكونات الواقع، فضاءاته وشخصياته ومشاغله. فنحن أمام شخصيات منحوتة من اليومي، وأمام وقائع من الحياة المعاصرة، لكن الكاتب يختار مخاتلتنا ومفاجأتنا من زاوية أخرى هي زاوية السرد فإذا به يكسر الحدود الفاصلة بين الكاتب والقارئ والشخصيات والقراء، ولعله بذلك يذكرنا بهدم الجدار المسرحي عند بريخت.
هذه المفاجآت تعترضنا في الرواية منذ عتباتها. فالعنوان مشاكس ولافت للانتباه باعتبار تضاربه مع المتخيل الإسلامي السائد، ثم يأتي التنبيه الثاني المثير: أنا لم أكتب هذه الرواية. جملة مثيرة يلقيها الكاتب في البداية، ذات عتبة من عتبات روايته، دافعا إلى موقف غريب. لكنه مقبول في الرواية الجديدة، التي يتوارى كتابها خلف مخطوطات وأشياء مختلفة… لكن مؤلف «شكرا أيها الشيطان» يختار لنفسه طريقة جديدة، أو غير مستهلكة وغير مألوفة.
استقالة الكاتب، فهو يفاتحنا في سرده بعدول عن صوت السرد إلى صوت الكتابة. فالكاتب يجمع أشلاء نصه من آخرين، متبرئا من قيامه بمهمة الكتابة، متعللا بالفراغ والكآبة. «لم أهتد منذ أكثر من أربع سنوات إلى أن أكتب سطرا واحدا حتى خفت أن يكون قد أصابني عقم الكتابة». ولعل الكاتب يطرح منذ البداية مشروعه الروائي الذي طرحه عليه شيطان الكتابة. «قلمي الذي أسعده أنه سيكتفي بتخيل وضع بداية هبّ من سباته بعد أن كان عازفا عن كتابة حرف واحد، وبدأ يعرض عليّ عشرات البدايات».
يقوم المشروع الشيطاني على مساهمة القراء في كتابة الرواية، فيتوجه الكاتب إلى القراء: «سأهديكم فرصة لكتابة رواية نشترك فيها أنا وأنتم. لقد انتهى الزمن الذي يكون فيه الكاتب مؤدبا، ويكون فيه القراء صبيته. انتهى الزمن الذي يسلط فيه كاتب على الذين يقرؤون له خيالاته وهذيانه وبطولاته». يدخل هذا الطرح في فلسفة موت الكاتب واختفائه، لكنه يذهب بالمتخيل إلى عالم الكتابة والكاتب فنحن أمام محاولة تخييل فعل الكتابة والسرد. فإذا كان بعض الكتاب يركزون في هذا المجال على طرح أحوال الكاتب ومشاهد كتابته فإن عباس سليمان يأخذنا إلى مجموعة من القراء والأصدقاء فيسبوكيين وهم يكتبون ويسهم كل منهم في كتابة الرواية، فإذا نحن أمام رواية جماعية تسرد بأكثر من صوت. ما يجعلنا أمام شيء من حوارية خطاب الرواية، يتشكل بتعدد القائمين بالسرد الذين يحمل كل واحد منهم حكايته إلى عالم الرواية. هكذا يحوّل المؤلف منطقة السارد إلى منطقة وهم روائي تهب إليها أصوات من محيطه ومن الأقطار العربية، ما يسفر عن تعدد حكائي. فهذه البناية الروائية تحمل نتف حكايات وخواطر وحوارات مختلفة ما يصيب الرواية بالتمزق وينفي عنها وحدة الموضوع والحكاية.
الكاتب ناقدا
يمارس الكاتب في الأثناء خطابا واصفا معلقا على القصص التي يرويها القراء وعلى سير الرواية. فهو يحتج على مسار الأحداث أحيانا ويعبر عن خيبته، مخاطبا حامد أحد رواته، «أبلغ بك كرهك للرجل وامتعاضك منه ومن سلوكه ومن طباعه حد قتله؟ لماذا لم تتركه حيا نتمتع قليلا بحديثك عنه وسخريتك منه وتفكهك به؟». معبرا بصريح العبارة عن خيبته، كنت أنتظر إضافة تبعث في ثنايا الأحداث نسمة مرح، فإذا بحامد يستقدم عزرائيل إلى الرواية». هذا الاحتجاج أيضا نجده على سرد أم وليد «لا يبدو أن أم وليد شذت عن إمعان الرواية في القتامة، وفي هدم اللذات، ولعلها حالت دون إضافات أخرى سترشح متعة ولذة». ويتابع الكاتب خطابه الوصف المعلّق على ما يرويه القراء والأصدقاء وعلى سير الرواية حتى إعلانه نهايتها. ليخرج عندئذ بخطاب الواصف من داخل النص إلى خارجه. ولعله يمارس بهذا الخطاب نوعا من الاستباق لمصير الرواية. «الرواية الآن على وشك أن تصبح كتابا منشورا، وأنا لا أخشى سوى أن يقدر لها أن تنال جائزة في إحدى مسابقات الرواية». لعل هذا ما حصل تحديدا، فالرواية فازت بالجائزة الثانية لمسابقة توفيق بكار للرواية العربية.
الاشتباك مع اليومي
هكذا يبدو الكاتب تلقائيا فمهمته هي تسجيل هذه الاقتراحات وعدم التدخل في تفاصيلها حسبما يوهم به قارئه، فنحن أمام لعبة كتابة تتخيل عملا روائيا يشترك فيه القراء. لكن هذه اللعبة ليست بريئة وجوفاء. فهذه الحكايات والتدخلات المختلفة، التي يساهم بها القراء تحمل الكثير من المضامين والدلالات، ولا يخفى ما فيها من اشتباك مع الواقع اليومي، ففيها تصوير لظواهر مختلفة من المشهد المحلي.
*ظاهرة الاختلاس من بضائع المسافرين:
قول حامد «صدقت تماما ما سمعته من التونسيين المقيمين في فرنسا. وما تداولته وسائل الإعلام حول ما يتعرض له المسافرون من اختلاسات.
*ظاهرة الأجر دون الشغل في فترة ما بعد الثورة:
«إن الكثيرين ممن كانوا بلا شغل هددوا الدولة بتعطيل إدارتها وشركاتها فوفرت لهم وظائف قارة دون أن يكونوا مطالبين بالحضور ولا بأي مجهود».
*ظاهرة اشتغال النساء في الحقول وما يتعرضن له من حوادث: «قالت نشرة الأخبار: حدث فجر اليوم في الطريق السيارة الرابطة بين مدينتي تونس والفحص حادث سير عنيف تمثل في اصطدام سيارة تقل عاملات فلاحيات بجراه، رحم الله الضحايا التسعة وعجل في شفاء المصابات».
فوضى مجلس الشعب:
«كانت القناة الثانية تعرض جلسة لمجلس الشعب أغلب النواب واقفون كأن القاعة بلا كراسي ويلوحون بأذرعهم ويصيحون».
صفوة القول إنّ انغماس الرواية في التنويع والتجريب واستقالة الكاتب من مهام السرد، لا يعني إن الكاتب اكتفى بجمع هذه الحكايات، لكنه مجرد إيهام للقارئ لا يخلو من انخراط في تجويد الرواية وتصوير الواقع بدقة.
كاتب تونسي