كلما فكرت في الشيخوخة عادت رواية «أيام زائدة» للكاتب حسن داوود إلى ذاكرتي، فتبدو الشيخوخة مرعبة، أكثر من ذلك الشعور الذي ينتابنا كلما ظهرت تجعيدة على وجوهنا نحن النّساء. مع أنني أقف مندهشة أمام شيخوخة أمي وجمالها، فهي شيخوخة غير التي تتهدّدني، وأنفر منها، أو أن قراءتي لها مختلفة لأسباب عاطفية محضة.
نعم نكره الشيخوخة لأنها مقرونة بالعجز، بانطفاء تدريجي لتلك الحيوية التي لم نستثمرها جيدا في شبابنا، أو لأنها تفاجئنا حين نعتقد أننا محصنون منها، لا فرق بين الشيخوخة والموت بالنسبة للبعض، فهي موت يكتسح أجسادنا شيئا فشيئا، يلتهم عصب الحياة فيه، حتى يبلغ مكمن الروح فيقتلعها وننتهي. الشيخوخة أو تلك الأيام الزائدة التي نعيشها في انتظار الرحيل، كانت موضوعا أدبيا مهما، في كتب سابقة قرأتها ولم أنتبه لها، لأنها تقدم الشيخوخة في شخصية الجد والجدة، وتصور حلاوة الحياة معهما، ويبدو أنها عمر لا يناسب عصرنا، ففي أزمان سابقة كانت عمرا جميلا، مكللا بالأحفاد والحكايات، كانت ملهمة، أو لنقل مدرسة لكل الأجيال الجديدة.
إنها ذخيرة معلومات مهمة، خلاصة تجارب، يفترض أن نستعين بها لنختصر الوقت في تجارب حاضرنا. الشيخوخة هدية للأجيال الجديدة، لكن العصرنة قتلت كل أنواع التواصل بين أجيال العائلة الواحدة. في الغرب يقضي العجزة أيامهم الزائدة في شققهم وحيدين أو في دور خاصة للعناية بهم، بعضهم يلجأ لتربية كلب أو قط، أو أي حيوان لطيف يقف في وجه الكآبة التي تلتهمه من شدة الوحدة.
تزحف تلك العصرنة المقيتة إلى شرقنا لتفرد كآباتها على عجائزنا أيضا، فقد كنا نعتقد إلى أمد قصير أننا مختلفون، وأن عائلاتنا متماسكة. لكنها (أقصد العصرنة) بدأت تحدث تغييراتها الجذرية على حياة المرأة، أكثر من الرجل، ففي صالات الرياضة نلاحظ أكبر نسبة من ممارسي الرياضة هن نساء، نسبة كبيرة من الجنسين تمارس اليوم رياضة المشي بشكل يومي، في ما برزت ظاهرة رفض المرأة بأن تكون مجرد خادمة لأهل الزوج، تلك الفكرة القديمة، نبّهت المرأة إلى كيانها المستقل وحقوقها الخاصة، وآثار هذه الظاهرة قُدّمت بشكل سلبي في الأدب، والدراما التلفزيونية والسينما.
وفي الحقيقة نحن لا نرى أنفسنا إلا في مرايا جد قريبة، تحجب عنّا الصورة الصحيحة لعيوبنا. فالشيخوخة في السلم العمري مرحلة لا مفرّ منها، لكنّها بشكل مُسلّم به مرحلة تحلُّ باكرا عند المرأة وتتأخر حتى السبعين أحيانا بالنسبة للرجال.
تنتهي حياة المرأة في الأربعين، فيما بإمكان الرجل أن يتزوج عروسا في عمر أولاده أو أحفاده، وهذا يعني أنه لا يرى التغيرات التي تطرأ عليه، لهذا حين قرأت «أيام زائدة» رأيت مشاهد مغايرة تماما لما رأيته في «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، وفي الحياة الغريبة للكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، وهي تتأبط ذراع حبيبها الذي يصغرها بثمان وثلاثين سنة، التي كانت تعترف بطلاقة أنها تحب الرجال، وأن أجمل ما في الحياة الرجال، وغرامياتها كانت مقرونة بالكتابة، حتى أنها جمعت بين زوجها وعشيقها للعيش معا في بيت واحد، أمّا روايتها المشهورة «العشيق» فقد كانت من وحي تجربة خاصة، لكن أيضا نبوءة ستشمل باقي حياتها. تصالح مارغريت دوراس مع شيخوختها، أمر نادر حدوثه في عالم النساء، وإن حدث فهو مهمل قصدا خارج التدوين، ثمة خطوط حمر ينبغي عدم تجاوزها في مجتمعنا الذي يمارس كل الممنوعات سرا، ويرتعب إن دخلت الفضاء المكتوب.
الكاتب الطبيب أحمد خالد توفيق قال في ما قال: «فجأة وجدت أنني في الأربعين.. الخامسة والأربعين.. ثم سن الخمسين! هذه أرقام لم أسمع عنها قط ولم أتخيل أنها ممكنة.
في رواية غابرييل غارسيا ماركيز يصبح الحب ممكنا، على شكل علاقة كاملة، بين كهلين على عتبة أرذل العمر، رواية من شدة جمالها وثراء مكوناتها اللغوية والإنسانية لا يُملُّ من قراءتها عدة مرات، خاصة إن كانت الترجمة ممتازة. في الرواية ظلّت ذكرى الحب القديم، محورا أساسيا لبناء أزمنة الرواية، وأزمنة الشخوص، فاق الأمر وصف تآكل الجسد بفعل التقدم في العمر، إلى استخراج عصارته، وخلاصته الثمينة، حتى إن الخاتمة لم تكن مأساوية بقدر ما كانت عرضا جيدا للممكنات كلِّها، بل إنّ تأثيرها على قارئ في ربيع عمره وآخر في خريفه يكاد يكون نفسه، ولو أن خللا في سرد ذلك الحب المتأخر زمنيا ورد في النّص، لكانت نكسة قرّاء ماركيز عظيمة، فقد كان مقنعا، حتى لقارئ ينتمي لمجتمع يشيخ فيه الفرد بمجرّد تخطّيه سن الأربعين. الحالة هذه وإن تكررت فلم تكن بوهج ما أبدعته مخيلة ماركيز، ففي أدبنا العربي أذكر رواية حنا مينه «الربيع والخريف» التي قُرئت حسب معطيات سياسية رُبطت مباشرة بنضال الكاتب وسيرته الذاتية، لكنها في الغالب أهملت الجانب الإنساني فيها، وكلُّ ذلك الصراع بين عمرين أحدهما مقبل على الحياة وآخر يكاد يخرج منها، صراع مرير عاناه الكهل الذي لم يكن عجوزا حين وقع في حب شابة مزهرة مثل ورود الربيع، ولكنّه حمل معه موروثه الثقافي الثقيل، لمجتمع ينهي حياة المرء باكرا، ولعلّ مينه أراد أن يكون إنسانيا من وجهة نظره، ففصل الأعمار عن بعضها، حتى لا يكون نسخة عن «سي السيد» العربي الذي يتباهى بفحولته أكثر كلما تقدم به العمر، وإقامة علاقة مع شابة تصغره بعشرين عاما، فرصة لممارسة غروره، لكن حنا مينه كان عادلا تجاه نفسه في تلك الرواية، لأنه كان مدركا أن الإسقاطات الشخصية ستلاحقه أو على الأقل ستكون جزءا من قراءات الرواية.. وهذا مجرّد افتراض فقط.
قد لا نصدق ما يخبرنا به الأدب، كون الأدب لا يكتفي بسرد الوقائع حسب وقوعها، بل يعيد بناءها كلٌّ حسب منظوره، والكتَّابُ على اختلافهم، واختلاف أعمارهم، ومدارسهم، وبيئاتهم، وما تخفيه خباياهم، يقولون الأشياء وفق مقاييس تخصهم، والقارئ هو الآخر تحضر عوامله الخاصة عند قراءته لأي عمل، وما يقرأه في عمر الشباب ويحبه، قد لن يعجبه حين يتقدم به العمر والعكس صحيح.
الكاتب الطبيب أحمد خالد توفيق قال في ما قال: «فجأة وجدت أنني في الأربعين.. الخامسة والأربعين.. ثم سن الخمسين! هذه أرقام لم أسمع عنها قط ولم أتخيل أنها ممكنة.. بدأت أشعر بالذعر عندما لاحظت الباعة يقولون لي «يا حاج».. والمراهقون يقولون «يا عمو». ثم ازداد الأمر سوءا عندما صار الأولاد المهذبون يقفون في المواصلات كي أجلس مكانهم». أليس بليغا حتى الذّروة؟ أليس هذا ما نمر به؟ ونقوله في جلساتنا الخاصة، ونرغب في كتابته ولكننا نتفاداه؟ هرمان هسّه يرى غير ذلك تماما، بالنسبة له: «الشيخوخة عمر جميل، كونها تخلو من طيش الشباب» وكأنه بشكل ما يقول إنها عمر الاتزان والحكمة، أمّا إذا لازم الطيش الشيخوخة، فتلك حكاية أخرى، فقد نسمي الحالة «تصابيا» أو «مراهقة متأخرة» أو «أزمة منتصف العمر» وهي مرتبطة بأعراض يعتبرها علم النّفس العيادي تستدعي جلسات علاج، أمّا الأدب فله مبررات غريبة، تنتصر للكتابة إذا ما رافقتها حالة إلهام، لهذا كثيرا ما نسمع عن الشاعر الفلاني والكاتب العلاّني يعيش مشاعر توقظ طيشه ولكنها تنقذ قلمه من الموت.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
احبائي
الشاعرة المتألقة بروين حبيب
الشيخوخة هي خاتمة المراحل الحياتية
وهي للناضجين أجمل تلك المراحل لو قلت فيها الحالات المرضية
والأبرار تكون أمامهم فرصة البر بالوالدين كما امر بذلك رب البرية
وانا شخصيا أعيش تلك المرحلة ورغم السكر والضغط اعتبرها اجمل مراحل حياتي الإنسانية
ومن يخشون من الشيب والتجاعيد ونقص القدرات لهم عذرهم لإفتقادنا نشر ثقافة الحب والجمال والعطاء بين البشرية
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه….واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات…رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة
أستاذي الأديب الكبير الرمز جمال بركات
قلت هذا لي بالفعل من قبل ولكنني اعتبرته مولساة بمن أصبحت خمسينية
ولكن كلماتك الصريحة اليوم ونحن نعتبرك القدوة منذ عشرات السنين أراحت نفوس كثيرين
تحياتي ومحبتي
أستاذناالكبير جمال…ما اجمل التعبيرات…ما ابدع التطمينات… لكن البشر في زمننا سيئون لاينظرون الا الي القشرة الخارجية المشدودة للمرأة الخالية من التجاعيد…والعيون المتوهجة البريق
تقبل تقديري ومحبتي
استاذنا الأديب العربي الكبير جمال بركات…..لقد عاشت الشاعرة والإعلامية الجميلة للإبداع والثقافة….مثلما فعلت أنت تماما…أنتما عشتما للثقافة كراهبين لسنوات طويلة طويلة…لكنك أنت فاجأت الجميع بزواجك وانت في الخمسينات ثم فاجأتهم مرة ثانية بإنجابك رغم تخطي زوجتك سن الإنجاب…اذن أنت هزمت الشيخوخة مرتين ماشاء الله
ربي يحفضك ويعطيك العافية مصباح منير لمحبيك
وأنا أتمنى أستاذنا الكبير أن تحذو الشاعرة الرقيقة الجميلة بروين حبيب حذوك وتخرج من قيد الرهبنة وتفاجئنا أيضا بالزواج وانا واثقة كل الثقة أنها لو قررت ستجد الآلاف على باب طلب يدها الرقية….افعليها ولا تترددي
وقفت عند عبارة مقالك شيخوخة بقولك : { تنتهي حياة المرأة في الأربعين }.ياسيدتي ليس مماحكة بل حقيقة أنْ ( تبدأ حياة المرأة في الأربعين ).لأنّ قبل الأربعين مشغولة بالانجاب وتربية الأولاد من بنين وبنات ؛ وبعد الأربعين تبدأ بتربية الرجال لتكوين المستقبل.لهذا يزداد تعلّق الجميع بالمرأة الأم ؛ فتصبح مصدرالعطاء والحنين الذي لا ينضب.فهي قبل عمرالأربعين : زهرة وسلوى وبعده : رسالة وشجرة…فلا جرم قول إنّ :
{ الأم مدرسة إذا أعددتها…أعددت شعبًا طيب الأعراق }.أما إذا خطّ الشيب شعرها ؛ فهذا هلال الزمن يبدد ليل المحن ؛ كهلال رمضان يأتي بالبركات والنعم.وإذا خطت التجاعيد قسمات وجهها المبارك ؛ فهذه خطوط الطول والعرض تتباهى بشروق الشمس وغروبها رغم أنف خط الاستواء ومدار: الجدي والسرطان…يتبع :
وإذا رأيت ثمّ رأيت مُلكًا كبيرًا ؛ كما في الصورة التي اختارها المحررصاحب الذوق الرفيع ؛ الكثيرمن التصريح البديع.وهكذا تجد في المرأة كنزالعطاء كرغيف الخبزاللذيذ وكأس الماء الممزوج بالنبيذ.لذلك حينما أكتب رواية لا أذكرفيها ( أمي ) لأنها عندي : طقوس قديسة ؛ أخشى عليها من حسد الجنيّة ( عيشة قنديسة ).يكفي المرأة الأم أنها تجعلنا مهما بلغت هي من السنين ؛ أننا لا نزال صغارًا كأنّها ( اسفنجة الزمان ) تمتصّ الأيام لتكبروحدها لنبقى شبابًا لا نشيخ ؛ وكطبقة الأوزون تمتصّ الأشعة فوق البنفسجيّة الضارّة القادمة من الشمس والمريخ ؛ لنبقى خالدين في خاطرها الأزل ؛ كالتاريخ…إذن : تبدأ حياة المرأة في الأربعين…وهل الحياة إلا أنثى وهل الحضارة إلا أنثى وهل الحرب إلا أنثى وهل السّماء إلا أنثى وهل الشمس إلا أنثى وهل الأرض إلا أنثى ؛ فماذا بقي لأبناء آدم إلا الصراع من أجل ( الأنثى ) ولو بلغت عمرنوح ؛ فهي السفينة ماسكة الحياة بدسرفي لوح؟
كنت اود اكتب ما كتب الدكتور جمال البدري ولكنه سبقني اليه مشكورا،
قد يبدو الامر مختلف من انسان لاخر او مجتمع لاخر فلنقل سن التقاعد بدل الشيخوخة واعتقد ان الفرق كبير فسن التقاعد يعني ان الفرد عمل كثيرا خلال حياته ويحتاج الى الراحة او الاستمتاع باوقاته والشيخوخة قد تعني العجز والخمول ولهذا ففي اوربا وهنا في المانيا نرى ان السياحة الداخلية اغلب او جميع زبائنها هم من المتقاعدين فهم لاهم لهم سوى السفر والاستمتاع وعندنا الامر هو رعاية الاحفاذ
وشكرًا أكبر منها لحضرتك أخي أسامة…حرسك الله وأنت في غربتك ؛ ويسّر لك الرزق وراحة البال…تواصل مع جريدة القدس ؛ فهي
جسرالعرب في الشتات والمهاجر؛ جمعنا الله على البركة وحسن القول ؛ مهما تباعدت الأقطار ؛ وتحيّة المحبة لكاتبة المقال.