ثمّة مثل فرنسي يُضرب للعلاقة المنشودة بين الشباب والشيخوخة: “ليت للشبّان خبرة الشيوخ، وللشيوخ قوّة الفتيان”، وهو أمنية لا غير؛ بالرغم من أنّ الاستثناء قائم، ولكنّه فرديّ وليس بظاهرة؛ إلاّ إذا سوّغنا القول إنّ مثل هذه الألفاظ يحسن أن تفهم بمعناها الواسع، وبمعزل عن طابعها الزمني؛ نظرا لتطوّر الطبّ وكلّ ما يتعلّق بالصحّة عامّة.
ما يعنينا في هذا المقال أنّنا بقدر ما نشتكي من شباب مجتمعاتنا ومن زيادتهم زيادة كبيرة، يشتكي الغربيّون عامّة من هرم السكّان وتقدّمهم في السنّ؛ وكأن لا هذا ولا ذاك من مؤهّلات نجاح مجتمعات الوفرة أو مجتمعات العوز والفقر، في حلّ مشاكلها، أو ضمان تقدّمها. أو كأنّ “برياب” إله القوّة التناسليّة عند الذكور حيّ عندنا، ميّت عندهم، أو نحن نستعيد بصورة أو بأخرى “فحولة” مصطفى سعيد بطل “موسم الهجرة إلى الشمال”، أو ما كان يزعم في أوروبا العصور الوسطى، عن الطابع الشهواني المنسوب إلى المسلمين عامّة من عرب وأفارقة وفرس وأتراك، لأسباب فيزيقيّة أو مناخيّة؛ وهم كما تقول هذه الآداب المتهافتة التي نسجتها محاكم التفتيش “متوحّشون، مستغرقون في شهواتهم” أو “خمدت أرواحهم، واتّقدت أجسادهم التي لا تشبع”.
شيخوخة السكان اليوم ظاهرة عالميّة، فمعدّل الحياة ما انفكّ يزيد في كلّ المجموعات البشريّة منذ 1950. وفي المستوى العالمي فإنّ نسبة البالغين منهم أكثر من ستّين سنة، ما انفكّت تزيد بسرعة؛ وفي عام 2018 أثبت الإحصاء أنّ عدد الأفراد الذين هم في سنّ 65 هو أكثر بكثير من عدد الأطفال الذين هم دون الخامسة؛ وهذا يحدث أوّل مرّة في التاريخ. وتتوقّع المنظّمات العالميّة أن واحدا من كلّ عشرة أفراد، سيكون عمره أكثر من 65 سنة عام 2050 في شتّى أنحاء العالم؛ وفي أوروبا وأمريكا سيكون واحدا من كلّ أربعة. وأمّا عدد البالغين 80 سنة وأكثر، فسيكون عام 2050 ثلاثة أضعافهم عام 2019، إذ سينتقل من 143 مليون نسمة إلى 426 مليون نسمة.
وهذه ظاهرة لم تعرفها البشريّة من قبل، تتحوّل منذ القرن العشرين إلى إحدى أهمّ التحوّلات الاجتماعيّة، بكلّ ما تستتبعه من مضاعفات خطيرة، وبخاصّة في مجال العمل، وكلّ ما يتعلّق بالسوق والخدمات والسكن والصحّة والنقل والحماية الاجتماعيّة؛ ناهيك عن أثرها في البنى العائليّة والعلاقات بين الأجيال. لكن في بعض البلدان، فإنّ الهجرة العالميّة يمكن أن تحدّ مؤقّتا من شيخوخة سكّانها، إذ أكثر المهاجرين هم عادة شباب أو أفراد في سنّ العمل.
ومن المعروف أنّ هناك ثلاثة عوامل تتحدّد في ضوئها تركيبة السكّان الديمغرافيّة هي: الخصوبة ومعدّل الوفيات والهجرات.
وتبيّن الإحصائيّات أنّ ثلث سكّان العالم تقّل أعمارهم عن عشرين سنة، وأنّ بعض البلدان سكّانها أكثر شبابا من أخرى. وفي حوالي أربعين بلدا أفريقيّا، فإنّ نسبة الشباب تزيد على النصف، في حين أنّ نسبة الذين تقلّ أعمارهم عن العشرين، في البلدان الثلاثين الأغنى؛ هي أقلّ من عشرين في المئة. ويوضّح الديموغرافيّون أنّ انخفاض معدّل الولوديّة في البلدان النامية أو الخصوبة كما يقال، نجم عنه تضخّم لا سابق له في نسبة الشباب؛ وهم عمّال الغد والآباء والسكّان والقادة. ويتوقّعون أن يكون عدد شباب العالم عام 2035 في منتهى أوجِهِ أي في حدود المليار والنصف؛ ثمّ تتناقص نسبتهم تدريجيّا خلال عقدين أو ثلاثة عقود على الأكثر، إذ ستتباطأ الحيويّة الديموغرافيّة وتخفّ سرعتها. ولا يخفى أنّ هذا يتفاوت من بلد إلى آخر، وليس ثمّة تكافؤ بين نسبة طرديّة هنا وأخرى عكسيّة هناك؛ ففي عدد من البلدان ذات الدخل المتوسّط، والاقتصاديّات المتحوّلة، فإنّ انخفاض الولوديّة متقدّم، ونسبة الشباب آخذة بالتناقص، كما هو الشأن في الصين وتايلاند. وفي أخرى لم تبلغ بعد هذا المستوى مثل البرازيل وفيتنام، فإنّ النسبة أشرفت على أوجها، أو استقرّت حيث هي. وأمّا في بلدان أخرى لا تزال أبعد عن هذا المستوى الاقتصادي مثل الهند والفليبين، فلابدّ من انتظار عقدين من الزمن، لبلوغ قمّة هذا المنحني البياني أو خطّ تطوّره.
وبالنسبة إلى بعض بلداننا الأفريقيّة، فإنّ الزيادة في نسبة الشباب، تتواصل بصورة متقطّعة في المستقبل المتوقّع القابل للتقدير. على أنّ السؤال الذي يقّض مضجع أيّ مسؤول وطني في البلدان النامية: ما هي نتائج هذه النسبة المرتفعة من الشباب على النموّ، وتبعاتها على حالة الفقر المتفاقمة؟ وهو سؤال له أصول وفروع، إذ كيف لهذه البلدان أن تحدّ من التبعات الاجتماعيّة والأخطار المحدِقة الملازمة لهذا التطوّر؛ شأنها شأن كلّ محمول لا ينفكّ أبدا عن موضوعه؟ بل أليس بإمكانها أن تفيد من شبابها ونسبة كبيرة منهم هي من خرّيجي الجامعات وحملة الشهادات العليا؟ وهي بلدان تتفاوت من حيث الموارد، والدخل في أكثرها متدنّ، ومن ثمّة تطرح فيها قضيّة التشغيل بحدّة. وتعيش لحظتها الراهنة، وكأنّها في مصيدة، بالرغم من أنّ بعضها مثل تونس، يعيش لحظة تاريخيّة فارقة من حيث المناخ أو التحوّل الديمقراطي. وهي ثورة قادها شباب عاطل، من دون أن يجني حتى اليوم ثمرتها أو بعضها. وهم يمثّلون نصف العاطلين، وربّما أكثر؛ ويقضّون أكثر سنيّ شبابهم في أعمال موسميّة متقطّعة، وبأجور زهيدة جدّا لا تفي بحاجاتهم الأساسيّة، أو في مشاريع حابطة منذ البدء؛ لا أتردّد في تسميتها بـ”المشاريع المليصة” تشبيها لها بالمولود ـ الميّت، بما يفاقم همومهم ومشاغلهم؛ وقلّة منهم لا تظفر بعمل قارّ إلاّ على عتبة الكهولة. ومن الواضح أنّ انخفاض نسبة الولوديّة، كما هو الشأن عندنا في تونس؛ يجعل نسبة الذين هم في سنّ العمل تفوق نسبة الأطفال والمسنّين.
يقول البعض إنّ الوقت لا يزال مبكّرا للغاية لامتصاص هذه الثورة التي لم تستقرّ بعد، ولم تغيّر طبيعتنا ولا هي حرّرتنا نهائيّا من الإرث الاستبدادي، والحيف الاجتماعي. والبداية ربّما تبدأ من هذه “الخبرة” الديمقراطيّة التي بدأنا نكتسبها؛ وهي التي تتيح لنا أن ننخرط في الشأن العامّ بدون خوف. أمّا متى؟ وكيف؟ فلا أحد يملك جوابا سوى القول إنّ الحلّ يبدأ بالسيطرة على الموارد وحسن استعمالها؛ في مجتمع يتغيّر كميّا ونوعيّا بخطى متسارعة. وكلّ هذا يؤثّر في دخيلة الإنسان وفي تركيب شخصيّته، ويترك بصماته وآثار ختمه في كلّ أوجه الحياة تقريبا حتى أنّنا صرنا نشهد جرائم نوعيّة مروّعة “جنسيّة” في الأغلب الأعمّ، يرتكبها شباب رزقوا حظّا من العلم؛ بقدر ما نشهد بروز طبقة جديدة من العمّال الشباب تكاد مؤهّلاتهم تماثل مؤهّلات المهندسين والفنّيّين، وعملهم غير بدنيّ أو غير يدويّ كما هو الشأن في الطبقة العاملة التقليديّة.
فأين المشكل إذن؟ قد يكون في هذه الثورة التكنولوجيّة التي تفد علينا بقوّة، لكن من دون أن نكون قد هيّأنا لها أسسها الماديّة والثقافيّة؛ ومنظومتنا التعليميّة التي بدأت قويّة منذ الاستقلال ـ وكلامي على تونس ـ لا تزال تعاني من اضطراب غير يسير طالها منذ أكثر من عقدين؛ بدون أن يتنبّه القائمون عليها إلى أنّ الأنماط الاجتماعيّة الموروثة لم تعد تواكب إيقاع الحياة العصريّة، وأنّ شباب اليوم في عجلة من أمرهم؛ وأنّ ما نحاوله حتى اليوم من تجديد مناهج التعليم، ليس أكثر من زخارف تكنولوجيّة؛ بل هو نوع من “التشتيل” لكن بدون نقل النباتات أو الغراس من المشتل [المدرسة] إلى مستقرّها. بل إنّ الزمن نفسه يتغيّر، وهو على رأي البعض، يتمدّد ويتقلّص أو ينكمش طبقا لإرادتنا الفرديّة؛ وليس رجع صدى أو رجع طنين خليّة نحل بشريّة.
وقد يكون مردّ المشكل إلى ناحية ينبّه إليها بعض علماء الاجتماع هي “اندماج” الطبقة الوسطى في الطبقة العاملة الشابّة؛ من دون أن يعني ذلك اتحادهما في جسم أو كيان واحد، على ما يقوله هؤلاء. وفي كلامهم مقدار كبير من الصواب؛ بالرغم ممّا يزعمه بعض ماركسيّينا من أنّ هذا التصوّر أو التحليل مدعاة للريبة والشبهة، وقد لا يعدو أكثر من محاولة لإخفاء الطبقة العاملة، بمصطلحات لفظيّة فضفاضة. وعليه يحسن في تقديرهم أن لا نقفز إلى استنتاج متعجّل، فنقرّر أنّ “العمّال” الشباب المتمرّسين بعمل غير يدوي أي العمّال بالفكر، أخذوا يحلّون محلّ طبقة العمّال اليدويّة أو العمّال بالساعد؛ أو أنّ البنية الاجتماعيّة التقليديّة آخذة بالتفكّك.
لعل الثورة التونسيّة الحقيقيّة لم تبدأ لحظتها بعد، ولعلّ كلّ تضحيات شبابها ترهص بما هو آت؛ ولا أحد بمقدوره أن يتكهّن بما يمكن أن تقود إليه صرختهم المكتومة “العاجزة”، وغضبهم المجلجل “اليائس”. وعندما يبسط جديد اليأس كفّيه في كلّ شيء، فلا غرابة أن يبرق الأمل في كلّ شيء.
*كاتب تونسي