ترددت بخوفي قبل الاتصال به، لكن، لن نمضّي ليلتنا بدون كهرباء. استعجلته المجيء. سرعان ما سيحلّ المساء، ويغشى الظلام البيت. جهّزت له الكمّامة والقفازات وكيسيّ النايلون اللذين سيلبسهما فوق حذائه. لا أريد لخطوات قدميه أن تبقى مطبوعة على بلاط بيتي.. أخرس لكزني نصل الهاجس: ماذا عن أنفاسه، ستبقى عالقة في الهواء؟
«الكهربائي سيصل» أخبرت زوجـــتي فاشتطتْ بهلعها: «سأبقى في الطابـــق العلوي» وأضافـــت بغضب نبرتهـــا: «كان عليك ألا تتصــل به، سيأتي بكورونا».
«نبقى بدون كهــــرباء؟» ظل سؤالي معلّقاً في الهواء. جلستُ انتظر وصوله، لأسرع بفتح الباب، كي لا يلمس هو أكرة الباب.
أبصرته من النافذة؛ إنه شاب نحيف بوجه أسمر، تُغطيه كمامة بيضاء متسخة. ظل على البعد لحظة برزتُ له. شعرتُ كأنه خائف مني: «قبل دخولك، إلبس الكمامة والقفازات وواقي الحذاء».
تركت له الأشياء عند عتبة الباب، حرصتُ ألا تلمس أصابعي شيئاً منه، بينما احتفظ هو بمسافته. رجعتُ خطوات إلى الوراء أخبره: «إضاءة الدور الأول لا تعمل». تلاقت نظراتنا. فسألني بصوت محايد: «أين صندوق موزع الكهرباء؟»
تقدمته وسار خلفي. حاولت ألا يقترب مني. وعلى البعد أشرت لصندوق الكهرباء بدون أن أتكلم.
فتح حقيبة صغيرة كان يحملها، وامتدت ذراعه بالمفك لفحص صمامات الكهرباء. على غير عادتي، بقيت على البعد أراقبه. جرّب أكثر من صمام، تمنيت لو أقترب لأرى ماذا يفعل. لكن، أنفاسه ستبقى عالقة على لوح الكهرباء وفي الهواء. قد يكون حاملاً لكورونا.. انكمشت على نفسي وخيالات المرضى، ولا أدري متى انبعثت الإضاءة. التفت نحوي، وشيء من ابتسام يعلق بنظرته الكابية. تقدمته صامتاً وسار خلفي، وحين صار خارج البيت تركت له أجرته على عتبة الباب.
«توقف»
خاطبتني زوجتي تسدُّ فتحة باب غرفتنا: «تركتُ لكَ ملابس نظيفة» أشارت لصوفا الصالة، وأضافت:
«اغتسل واستبدل ثيابك، ولتنم الليلة في الصالة».
7 أبريل 2020
٭ روائي وقاص كويتي
هذه أقصوصةُ جديدة للروائي والقاص الكويتي طالب الرفاعي، ولا تعود جِدتُها إلى كونها قد تُؤسس لما سيُسَميه ناقدٌ ما أدبَ الكوفيد أو كورونا، وهي على ما يبدو الأولى في نوعها عربيا من حيثُ تاريخُ كتابتِها (7 إبريل/نيسان 2020)، وإنما الجِدةُ فيها تتأتى من جهةِ صوغِها السردي، حيث استطاعت، وهي تتوغل في معيش لحظتِها، أنْ تخلُقَ تآلُفًا بليغًا بين مادتها اللغوية ومادتها المضمونية، فإذا دائرةُ معناها يمتد شُعاعُها متدرجًا من اللفظة، فالجملةِ، ثم النص، وينتهي إلى الخارجِ حيث تبدأ دائرةُ القراءةِ.
وهذا ما أراه مَلْمَحًا فنيا قد ارتقى بها إلى مرقى من الأدبيةِ متميزٍ. ومن أمثلةِ ذلك أن كل ألفاظها تتجاوب في ما بينهما بإيقاعٍ معلومٍ، صورتُه البُعْدُ الفاصل بين الواحدة والأخرى على مساحةِ الأقصوصة، ولا تحضرُ اللفظةُ منها في العبارةِ إلا وفيها صدى من غيرِها في عباراتٍ أخرى. من ذلك أنني واجدٌ للفظةِ «مُظْلِمة» الواردةِ في عنوانِ الأقصوصةِ صدًى خَوْفِيا منتشرًا في كثيرٍ من ألفاظها الأخرى على غرار ألفاظ (المساء، يغشى، الظلام، الكهربائي، يغطي، خائف، خيالات، تسدُ، الليلة). لكأنما واللفظةُ تستدعي شبيهاتِها تستدعيها لتخلُقَ معها حكايةَ ألفاظٍ تَعْضُدُ حكايةَ الأقصوصةِ ذاتها، أعني حكايةَ الخوفِ الذي راح يَشِيع في جميعِ جسد نَصها، بل أزعم أنه سيشيع أيضًا في جميع جسد قارئها.
وإذا كان هذا أمرَ تآلُفِ الألفاظ في الأقصوصةِ وتحالُفِها مع بعضها بعضًا، فإن لتآلُفِ الجُملِ فيها منحًى آخرَ، ذلك أنها لا تني تُكثفُ من جسدِها حتى بدا لي كأنها زاهدةٌ في عالَمِ اللغةِ، تكتفي منه في أغلب أحوالها برُكْنَيْ إسنادها، ولا تتعداهما إلا إلى القليل من المُتَمماتِ («سيغشى الظلامُ البيتَ»، «الكهربائي سيصلُ»…).
ولئن كان التكثيفُ اللغوي من شروط كتابة الأقاصيصِ عامةً، فإنه حين حضر في جسدِ هذه الأقصوصة غيرَ طبيعةَ نبضِها: يتسارَعُ ولا يُبطِئُ، وزاد فيها هيجانَها: يعلو ولا ينخفِضُ. فإذا التكثيفُ في الجُملةِ تَوْصيفٌ لحركةِ معناها، وهو يتحررُ منها ويفيضُ في العالَمِ خارجَها، أيْ في عالَمِ القارئِ الذي أقدّرُ أنه ما إنْ يقرأُ تلكَ الجُمَلَ حتى يُصيبَه من أحوالِها أمْرانِ: تكثيفٌ في فضاءِ إقامته هَرَبًا من الناس والأشْياءِ، واستفاضةٌ في الريبةِ، اتقاءَ الوباءِ، وفي الحالَيْن إنما هو مُتَمَاهٍ بتلك الجُمَلِ حتى لَيَبْدُوَ واحدةً منها.
وإن التآلُفَ والتجاوب اللذيْن ظهرا في الأقصوصة على مستويَيْ ألفاظِها وجُملِها يحضرُان أيضًا على مستوى مَحْكِيها الذي توزعَ على ثلاثةِ مشاهدَ سرديةٍ يخترقها جميعًا تصعيدٌ في الريبةِ، هو من الأقصوصةِ حكايتُها وسبيلُها إلى تحقيقِ وِحدَتِها الدلاليةِ، وهي الخوف من الآخرِ. يبدأ المشهدُ الأولُ من «ترددتُ بخوفي» وينتهي عند «كي لا يلمس هو الأكرة»، ويمكن أن أسميه «الارتيابِ»، وفيه يرتابُ الراوي من أن يكون عاملُ الكهرباء حاملا لفيروس كورونا، ويقع في الحَيْرة بين الحاجة إليه ليُعيد النورَ إلى البيتِ، والرغبة في محوِ جسده في آنٍ: محوِ خطواته (لا أريد لخطوات قدميه أن تبقى مطبوعة على بلاط بيتي)، ومحوِ لمساته (لأُسْرِعَ بفتح الباب، كي لا يلمسَ هو الأكرة)، بل حتى محوِ أنفاسه (ماذا عن أنفاسه، ستبقى عالقة في الهواء؟). ويبدأ ثاني المَشاهدِ من «أبصرته من النافذة» وينتهي بالقول «تركت له أجرته على عتبة الباب»، وأُطلقُ عليه اسمَ «التباعد»، وقد انصب فيه جَهدُ الأقصوصةِ على تصوير الكهربائي صورةً مُحيلةً على إمكانيةِ أنْ يكون حاملا لفيروس كورونا، فإذا هو (بوجه أسمر، تُغطيه كمامة بيضاء متسخة)، ومن ثمة باعدتْ بينه وبين الراوي الذي نسمعه يقول: (حاولتُ ألا يقترب مني)، و(على غير عادتي بقيتُ على البعد أُراقبه)، و(تمنيتُ لو أقترب لأرى ماذا يفعل)، و(انكمشتُ على نفسي). ويمتد ثالثُ المشاهدِ من «توقفْ..» إلى «وَلْتَنَم الليلة في الصالة»، وأُسميه «الإبعاد»، وفيه تبلغُ الريبةُ والخوف منتهاهما، ويحدث التحولُ في الأقصوصة، إذْ بعد أن كان الراوي فاعلَ الخوفِ والكهربائي موضوعَه، صار في هذا المَشْهَدِ هو نفسه موضوعَ الخوفِ، حيث خافت منه زوجتُه وشكتْ في أنْ يكون قد أصابَه من الكهربائي وباءُ كورونا، فحرصتْ على إبعادِه عنها عنوةً، وهو ما تُعبرُ عنه أفعالُها الأمْرِيةُ (توقفْ، اغتسِلْ، استبدِلْ، لِتَنَمْ الليلة في الصالة).
وما أخلصُ إليه من قراءةِ هذه الأقصوصة هو قولي إني وجدتُ فيها بلاغةَ حكيٍ عاليةً. وقد نبهتني إلى حقيقةِ أنه ليس أمام الكاتب الآن إلا أن يكتبَ أدبًا حيًا: حيًا من حيث صلتُه بمعيشِ الناس، وحيًا من حيث هو كيانٌ تخييلي ذو جسدٍ لغوي يتسارع داخلَه نبضُ ألفاظِه، وتتنامى خارجَه أصواتُ معانيه، فإذا هي رَج لطمأنينةِ ذاك المَعيش ودعوةٌ لأهلِه إلى إعادةِ تدبيرهم جريانَ أحوالِهم فيه.
٭ كاتب تونسي