تاريخيا كانت صناعة المشيخة والدور السياسي نتاج السلطة، ومن دون تدخل السلطة، كانت المشيخة عبارة عن دور اجتماعي ينحصر حضورها في سياق البنية العشائرية والعلاقات المرتبطة بها. وفي العراق تحديدا تحولت العشيرة منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى مجرد وظيفة تتحدد طبيعتها تبعا لعلاقتها بالسلطة، وكان نظام الطابو المتعلق بملكية الأرض والتصرف بها أحد أدوات السلطة العثمانية، تحديدا والي بغداد مدحت باشا، مع تشريع قانون الأراضي العثمانية عام 1858 في سياق توطين العشائر أولا، وتحديد وظيفتها ثانيا.
بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917، عمد الإداريون البريطانيون إلى ضمان ولاء شيوخ العشائر عبر الرواتب السخية التي كانت تدفع لهم من أجل تعزيز سلطتهم الذاتية لغايات الضبط الاجتماعي من جهة، ولتنفيذ وظائف محددة، وعلى الرغم من أن ثورة العشرين، قد هزت هذه العلاقة مؤقتا، إلا أن البريطانيين عمدوا بداية من الثلاثينيات إلى تكريس سلطة الشيخ، من خلال تحويله إلى مالك للأرض، وتحويل أفراد العشيرة إلى “أجراء” ملزمين بالبقاء والعمل في الأرض، وإلى تحويله إلى سلطة محلية عبر منحهم سلطة القضاء في عشائرهم رسميا عبر قانون محاكم العشائر الصادر عام 1936، فضلا عن وظائفهم الأخرى. وبذلك تحولت “المشيخة” من سلطة معنوية لشيخ العشيرة التقليدي (الكبير/ العارف/ الراعي)، إلى سلطة شيخ العشيرة المالك، والمسؤول الإداري، مع كل ما يترتب على ذلك من محاولة تحويل العشيرة إلى بنية اجتماعية ـ سياسية ـ عسكرية، تقوم بوظائف متعددة!
مع ثورة/ انقلاب 14 تموز 1958، وصدور قانون الإصلاح الزراعي، وإلغاء قانون محاكم العشائر، تقوض نظام المشيخة إلى حد كبير، كما ساهمت التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية إلى إعادة صياغة العلاقات داخل بنية العشيرة، وهو ما سمح باستعادة العشيرة دورها التقليدي كبنية اجتماعية محضة بعيدا عن أي دور سياسي! ولكن حرب الخليج الثانية في العام 1991، وتحلل الدولة وضعفها، بفعل الحصار الاقتصادي، دفع نظام البعث، الذي كان معاديا بشدة للنظام العشائري أيديولوجيا، وصل الأمر إلى منع استخدام الألقاب العشائرية في مرحلة ما، إلى إعادة انتاج نظام المشيخة مرة أخرى، من أجل استخدامه كأداة للضبط الاجتماعي، ولكن هذه المرة ليس عبر إنتاج سلطة الشيخ الواحد، بل عبر اعتماد نظام آخر يعتمد على تعدد الشيوخ، ووضع تراتبية لهم! وهو ما ساهم حينها في صناعة كم هائل من “الشيوخ” شكلوا ظاهرة حقيقية أطلق عليها “شيوخ تايوان”، في إشارة إلى البضاعة التايوانية المقلدة التي غزت السوق العراقية يومها. وصار رأسمال “الشيوخ” الجدد يستمد ماديا، حصرا، من اعتراف الدولة بهم، وتسجيلهم في قوائم المكرمات، وشكليا من العباءة والعقال اللذين عادا بقوة!
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان 2003، لم يعمد الأمريكيون إلى استعارة النموذج البريطاني في التعاطي مع الشيوخ، وكان هذا واضحا من خلال تشكيلة مجلس الحكم التي خلت من شيوخ العشائر، باستثناء شيخ واحد هو غازي الياور، أحد شيوخ شمر، ولم يكن اختياره بصفته شيخا عشائريا، بل بصفته المذهبية والسياسية بالدرجة الأولى. وكان الكولونيل ألن كينغ بوصفه مسؤول مكتب الارتباط مع العشائر الذي شكلته سلطة الائتلاف المؤقتة في كانون الأول 2003 قد أشار إلى رفض كبار الشيوخ الدخول إلى الساحة السياسية، والى أن الشيوخ الذين يتعامل معهم، وهو يسميهم شيوخ “الفئة الوسطى”، والذين بدأوا بتنظيم أنفسهم بواسطة مجالس ، لا يتمتعون بنفوذ حقيقي في عشائرهم.
آلية صناعة “الشيخ” يسيرة جدا؛ شخص طموح، وموارد مالية، ومدخل إلى السلطة وأدواتها، وستجد مجموعات غير محددة تسير خلفك وتهتف باسمك! ولكن هذه الصناعة تنتج كوارث أخلاقية واجتماعية وسياسية
وعلى الرغم من هذا التقييم، فقد حاول ديفيد بترايوس عندما كان قائدا للفرقة 101 المحمولة جوا، والتي تمركزت في الموصل، إشراك شيوخ العشائر كوسطاء في إدارة الأوضاع على الأرض، من خلال منحهم صلاحيات فيما يتعلق بالمشاريع الخاصة بالبناء والإعمار عبر تشكيل مجلس تمثيلي في المدينة، ولم تستمر هذه التجربة طويلا. ولكن تعيين بترايوس في كانون الثاني/ يناير 2007 قائدا للقوات الامريكية في العراق أتاح له إعادة تجربته على نحو أوسع، وذلك من خلال صناعته تجربة “الصحوات”، التي ساهمت في إعادة إنتاج ظاهرة المشيخة عبر ثنائية السلاح/ المال، وعبر ما عرف بشيوخ بترايوس، تحديدا في محافظة الأنبار!
بداية من منتصف العام 2012، حاول رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي إعادة إنتاج ليس نظام مشيخة وحسب، بل إلى إنتاج طبقة سياسية سنية كاملة، فضلا عن “صناعة” مفتي للسنة! ردا على محاولة سحب الثقة منه. فعمد مع بداية عام 2013 إلى صناعة صحوات جديدة، وشيوخ جدد، مع إزاحة شيوخ بترايوس، لنكون هذه المرة أمام ما يمكن تسميته “شيوخ المالكي” ولكن دخول داعش، وخروج المالكي من السلطة، أنهت هذه المحاولة سريعا، ولكن تجربته في “صناعة” طبقة سياسية سنية نجحت نجاحا كبيرا، إلى الحد الذي استطاعت فيه هذه الطبقة أن تسيطر على التمثيل السني بداية من العام 2014. وأهم سمات هذه الطبقة أنها أنهت أي تمثيل لهوية سياسية سنية، في سياق التمثيل السياسي للهويات في العراق، وأصبحت مجرد طبقة من السماسرة الذين استطاعوا عبر الدعم الرسمي الذي يقدمه لهم الفاعل السياسي الشيعي من صناعة جمهور زبائني يعيد انتاجهم في كل انتخابات عبر استخدام ثنائية السلطة/ المال السياسي.
اليوم، وفي سياق الصراع المحتدم بين الفاعلين الساسيين الشيعة، هناك محاولة من جانب الإطار التنسيقي، وتحديدا الميليشيات المسلحة المرتبطة به، لإعادة إنتاج “شيوخ” سبقت صناعتهم قبل أن يتخلى عنهم صانعوهم، او إنتاج شيوخ جدد تماما. والهدف الرئيسي من هذه الصناعة الجديدة هو محاولة إضعاف القوى السياسية السنية المتحالفة مع التيار الصدري من جهة، واستخدامهم لمعاقبة بعض تلك القوى التي كانت هي نفسها من صناعة الفاعل السياسي الشيعي يوما ما!
آلية صناعة “الشيخ” يسيرة جدا؛ شخص طموح، وموارد مالية، ومدخل إلى السلطة وأدواتها، وستجد مجموعات غير محددة تسير خلفك وتهتف باسمك! ولكن هذه الصناعة تنتج كوارث أخلاقية واجتماعية وسياسية، من الواضح أن لا أحد معني بذلك في العراق!
٭ كاتب عراقي
صناعة الشيوخ هي لدعم حكم الطغاة مقابل الهدايا !
هناك شيوخ عشائر , وشيوخ دين , وشيوخ منصب وشيوخ أحزاب … الخ !! ولا حول ولا قوة الا بالله
في عهد صدام حسين تم ابتكار كيان اسمه هيئة السادة الأشراف، أي أحفاد الرسول الكريم، وكانت الدولة ترعى هذا الكيان وتعطي هويّات للمنتسبين إليه، وسوف يكون لهؤلاء دور أكثر من مهم بعد الاحتلال الأمريكي للبلاد.
صناعة الشيوخ بدأت على عهد صدام عندما وقعت حوادث عام 1991 حين خرجت أربعة عشر محافظة عن سلطته عندما قام صدام بسبب ظهور عجز حزب البعث الحاكم والأجهزة الأمنية الكثيرة التي كانت تمتلك سطوة مطلقة وتتمتع بامتيازات لا مثيل لها سواء في تاريخ العراق أو في البلدان الأخرى ولكنها بدأت خائرة القوى أمام هبة شعبية واجهت النظام بعد طول سيطرة مطلقة .
فأنشأ مكتب شؤون العشائر في رئاسة الجمهورية وآخر في وزارة الداخلية وبدأت صناعة الشيوخ وفرضهم على عشائرهم وتزويدهم برواتب مغرية في الوقت الذي كان العراق يعيش حصارا محكما وتعاني الناس من شظف العيش فضلا عن منحهم سلطات على عشائرهم مقابل مسؤوليتهم أمام السلطة .