لسنا في حاجة اليوم للعودة إلى ما كتبه علماء الاجتماع والفلاسفة والحكماء، ونقرأ كيفية تطويع المجتمعات وصناعة مجتمع العبيد. فها هي مجتمعاتنا أمام أعيننا جميعًا، نراها كيف تحولت وبقدرة قادر من مجتمعات كان لها قضاياها السياسية والاجتماعية والمعرفية الثقافية، ومبادئ تناضل وتهتف عاليًا من أجلها، مقدمة الأرواح في سبيلها… إلى مجتمعات أصبحت بفضل ساستها، وخُططٍ وُضِعت مُسْبقًا ورُسِمَت على المقاس، أدخلت مواطنيها في زواريب ومُسْتنقعات الطائفية والمذهبية الآسنة والفقر والحرمان، فتحولت إلى «مجتمعات عبيد»، على مستوى الأفراد والجماعات… مع العلم أن البعض يرى أن مُجْتمعاتنا كانت مُؤهلة وعندها القابلية لذلك، منذ أن غدا هتافها « بالروح بالدم نفديك يا… »، وأن كل ما جرى هو مجرد تحول في الشكل، وليس في الجوهر والمضمون…!
فرض الشروط
إن الدافع إلى هذه المقدمة هو ما حدث مؤخرا في «بيروت»، في حفلٍ لأحد المُغنين المعروفين، والذي حمل إشارات يصعب فهمها وهضمها بسهولة. إذ، ومنذ تلك الليلة والواحد منا في حالة ما بين المصدق والمكذب لما حصل، وربما مكتئب. فإقامة حفلٍ في حد ذاته ليس بالأمر اللافت للنظر، لكن ما رافق ذلك الحفل من كل النواحي هو المزعج في الموضوع… فقد طلب المغني إياه من الحضور لبس تي شيرت بيضاء، فتقيدت جماهيره بذلك حتى أخمص أقدامها لكي لا تعكر مزاجه، والحمد لله أنه لم يطلب منهم الحضور بمايوهات السباحة، لأنهم بلا شك كانوا سيلبون دعوته هذه…!
ومن ثم قام المغني إياه بفرض شروطه الخاصة أيضًا على الصحافيين والإعلاميين من حيث نشرهم لصور الحفل والتعليقات، وما قد يكتبونه حوله وحول هذا الحفل، وقد وجهت لهم الدعوة مرفقة بتعهدٍ عليهم التوقيع عليه إذا ما أرادوا حضور الحفل وتغطيته إعلاميا، وهذا ما لم يعهده رجال الإعلام الفني ولا السياسي من قبل…!
ولم يجرؤ عليه حتى الساسة أصحاب الجبروت، المتربعين على رقاب الشعب. وكانت النتيجة أن احتج البعض بأدب جمٍّ، ورفضوا ذلك. ولكن كالعادة، فقد رضخ لشروطه هذه فئة من الصحافيين، مفرطين بشرف الكلمة، وتحطمت بالتالي حرية الإعلام عند أقدام ذلك المغني.
فهل يعقل أن تتم الاستهانة بعقول هذا الشعب إلى هذا الحد، وأن تمحى كرامته وكل تاريخه النضالي بهذه البساطة…؟
لقد كان لهذه المدينة «بيروت»، تاريخها النضالي والثقافي التحرري. فهي استقبلت كل المنفيين من بلادهم أصحاب الرأي والكلمة الحرة، والثائرين من أبناء المنطقة، فاستحقت أن يهبها كبار شعراء العصر الحديت قصائدهم متغنين بأجواء الحرية والنضال والثورة فيها من نزار قباني إلى محمود درويش… بيروت المدينة والعاصمة التي كانت تنتفض وتثور من أجل حرية الشعوب وحقوقها، ووحدة بلادنا العربية، وتتضامن مع الشعوب المظلومة عبر العالم من الأرجنتين ومعركتها ضد السفاح بينوشيه، إلى الكونغو وزعيمها باتريس لوممبا، مرورا بالجزائر، وانتهاء بجنوب بلاد العرب يمننا العزيز وقائده عبد القوي مكاوي… بيروت التي احتضنت المقاومة الفلسطينية طيلة سنوات سطر خلالها الشعبين اللبناني والفلسطيني ملاحم وبطولات وأمجاد قل أن يُسطر التاريخ أمثالها، ولكن أريد التعتيم عليها، وإغلاق صفحات كتبها، حتى لم يعد يأتي على ذكرها أحد، تمامًا كما أراد الغرب الاستعماري وربيبته إسرائيل ومعظم الأنظمة العربية…
فهل يعقل أن يتحول هذا الشعب المثقف والثوري إلى مجرد ألعوبة في يد مغنٍ حضر لليلة واحدة وغادر وفي جيبه أكثر من مليون دولار من حفلته هذه، ومن إحيائه لأحد الأعراس على الماشي…؟
نعم لقد حصد الدولارات من جيوب شعب بائس بالكاد يرى الكهرباء في بيته، ولكنها رآها في وسط بيروت تشعشع سماؤها خلال الحفل فقط… وبالكاد يملك كثير من أفراده قوت يومهم، ولكن أبناء وطنهم دفعوا بالأوراق الزرقاء المزدانة بصورة العم سام وجورج واشنطن 60 دولارا ثمن التذكرة، أي ما يساوي مرتب شهر لأستاذ جامعي… بل دفع بعضهم قرابة الألف دولار وربما أكثر لحضور هذا الحفل، ولكي تؤخذ لهم صورٌ تزين صفحاتهم على الشبكات العنقودية، أو يرسلونها لأصدقائهم وأقاربهم… فكانت سهرة انطبق عليها المثل القائل « رزق الهبل على المجانين…! ».
بلد العجائب
في الواقع أن لبنان الوطن الذي هتف قرابة عشرين ألف من شبابه وفتياته لمغنٍ طيلة ساعة ونصف الساعة، ووهبوه المليون دولار، أصبح بلد العجائب وكل اللاءات الممكنة وغير الممكنة… حيث تتربع « لا » الأليمة والوقحة في آن معا على كل تفاصيل حياة شعبه… فلا ماء نظيف.. ولا كهرباء.. ولا دواء.. ولا تعليم.. ولا مازوت وبنزين وغاز.. وأحيانا لا طحين.. ولا.. ولا.. وحتى لا مشاعر إنسانية أيضا.. وهنا الطامة الكبرى…! وعندما تطفو اللاءات على السطح في أي بلد من البلدان، تطفو معها وفي الوقت نفسه أخلاقياتها، ابتداء من ممارسة لكل ما هو «عيب»، وانتهاء بتكريس مبدأ « رتب أمورك ولا يهم الكيفية والوسيلة»، لتستريح بالتالي المحرمات الاجتماعية والدينية والمبادئ في صفحات الكتب، وتصبح من ذكريات الماضي، بل تصبح مجرد وجهة نظر…!
أوليس هذا الذي حدث ويحدث في لبنان وأوطان أخرى من بلاد العروبة بنسبة وتناسب، والتي أصبح الحليم فيها حيران، وأصبح الذي يعض على المبادئ ممسكا بها، كالقابض على جمرٍ من نارٍ…؟!
لقد كان هم كل الذين سبقونا من آباءٍ وأجدادٍ بعد مرحلة الاستعمار منحصرًا في السير قدمًا في أوطاننا نحو الأمام، ومن ثم تحديث الدولة وأجهزتها ونظمها، للوصول بمجتمعاتنا إلى مصاف الدول المتقدمة… فإذا بنا وعلى حين غرة نسقط جميعا، وتسقط معنا أوطاننا في محيطات التفاهة، ونتحول إلى مواطنين نتقبل ما يرمى إلينا من فتاتٍ كالحيوانات في أقفاصها تمامًا، فبلغنا مرحلة من البؤس والانحطاط في المشاعر الإنسانية لم نعهدها عبر تاريخنا الحديث ولا القديم، وأصبحنا لا نثور لأي شيء…!
حتى عندما نكتشف أن بعض الجزارين يبيعوننا لحم الحمير على أنه لحم بقري… وأن بعض الصيدليات تبيع المواطن البائس الدواء المغشوش والمنتهي الصلاحية… وأن بعضهم في إحدى الدول باعوا المواطنين أبوالهم عوض بول الإبل…! نعم إنها مجتمعات العبيد التي أصبحنا نتقبل فيها كل شيء، وكل أنواع الإهانات ونمارسها بحق بعضنا، من دون أن نثور أو نغضب، حتى لا تنزعج الدول الغربية الاستعمارية منا وتتهمنا بالإرهاب، ولا أنظمتنا القمعية الظالمة الفاسدة بامتياز، وتتهمنا بالعمالة والتآمر وخيانة الأوطان…!
أعود وأؤكد على أنه لسنا في حاجة اليوم لدراسة كيفية حدوث هذه التحولات الكبيرة في مجتمعاتنا من الأقصى إلى الأقصى، ولا في نفسيات المواطنين وعاداتهم وتصرفاتهم… لأن كل شيء حدث أمام أعيننا وبتوحش فج مؤلم. فالاحتقان المذهبي والطائفي الكل كان يراه يزحف على بلادنا ومجتمعاتنا وفي كل الاتجاهات منذ مطلع الثمانينات… ولكننا سكتنا…! وكان لكل منا أسبابه، وتحت مسميات كثيرة، وها نحن اليوم ندفع الثمن غاليا… وكلنا كان يرى ما يقوم به النظام السوري من ممارسات قمعية وتجريف وتصحير في حق شعبه، وفي كل البيئات اللبنانية، ممهدا الطريق أمام هذه التحولات الأليمة بعدما غدا مثقفو الوطن والفاعلون الناشطون بين أفراد المجتمع ما بين سجين وراء القضبان في سجون النظام المختلفة، أو أنهم اضطروا إلى الهجرة، أو أسعدهم الحظ برصاصة من كاتم صوت واستراحوا… ولكن استسلم له كثيرون، بحثا عن المغانم والوجاهات على حساب الكرامة والوطن، وطبلوا وزمروا للنظام وآلهته…
كلنا كان يرى ويستشعر، ولكننا انقسمنا على أنفسنا بحدةٍ كما نحن اليوم منقسمون تمامًا. ندفع الثمن، ولكننا نُكابر وإلى أبعد الحدود، ولا نريد أن نرى عنصرية كثيرين بيننا بحق إخوانهم الفلسطينيين والسوريين وخادمات المنازل… ولا نريد أن نعترف بدكتاتورية الديكتاتور، بل ما زال كثيرون يدافعون عنه بحماس… ولا نريد أن نعترف بطائفية ومذهبية الساسة، لأننا غدونا على شاكلتهم إن لم يكن أسوأ، وخصوصا عندما ندافع عن سرقاتهم ونهبهم لميزانيات أوطاننا وخيراتها كما حدث ويحدث في العراق ولبنان وغيرهما من بلاد العروبة…
وختاما، كم كان ذلك المغني سيكون كبيرًا في أعين محبيه ومحترما، ويحتل مكانة في قلوب العرب قاطبة والإنسانية جمعاء، لو أنه في صبيحة اليوم التالي لحفلته مثلا.. وأقول مثلا… قد قام بزيارة لإحدى المستشفيات التي تعالج الأطفال في بيروت من الأمراض الخبيثة، وترك لدى إدارتها شيكا بنصف هذا المبلغ الكبير مثلا، وأقول مثلا… ولكن وللأسف لم يفعل، لأنه من أسس مجتمعات العبيد والمبدأ السائد فيها « أنا.. ثم أنا.. ومن بعدي الطوفان » وأن تكديس الأموال يعتبر أهم فضيلة…!
٭ كاتب لبناني