منذ مهد الحضارات، أولت الشعوب القديمة للتاريخ أهمية كبرى؛ حيث اهتمت بتسجيل الإنجازات والأحداث المهمة على المستوى الفردي، أو القبلي لتتناقلها الأجيال. ومن المحاولات المبكرة لنقل قصص وحكايات الأسلاف كانت الرواية الشفاهية، التي يعمد فيها الراوي إلى سرد الحكايات والوقائع بطريقة شيِّقة؛ حتى يجتذب أكبر قدر من المستمعين. وبجانب السرد الشفاهي، دوَّن البشر الأوائل التاريخ على ألواح الطين، والجدران الحجرية، وجدران المعابد، في شكل نقوش وكتابات صارت تراثا وشاهدا على أعمالهم.
فالتاريخ عنصر أساسي في تشكيل الحضارات والشعوب؛ فهو الذاكرة الجمعية التي يشترك فيها أبناء البلد الواحد، والمَعْبَر لتحديد الهوية الثقافية والاجتماعية. ومن خلال معرفة الماضى وسبر أغواره، يتسنى بسهولة التخطيط للمستقبل. ومن الغريب أن من سَطَر تاريخ الدول المُسْتَعْمَرة، أو التي مرَّت بحقب من الاستعمار ـ أي المابعد كولونيالية – هو المُسْتَعْمِر عينه. ومما لا شك فيه لن يقوم المُستَعمِر بذِكر مساوئه، أو إنصاف أبناء الأمة المقهورين، بل سوف يقوم بتدوين وقائع لا يَفْهَم حشايا سطورها إلا من عاصر الأحداث، واستطاع أن يرويها لذويه، حتى لا يتم طمسها تماما من ذاكرة الأمة. وبناء على ذلك، يتعرض تاريخ الأمم المابعد كولونيالية للكثير من التحريف المقصود على يد المستعمر، الذي من خلاله ازداد تباعد علاقة ماضي الشعوب القوي عن حاضرهم المهين. ولهذا، تعاني الشعوب المابعد كولونيالية من التشكيك في قيمة الماضي.
ويظهر الخطاب المابعد كولونيالي وإشكالية التبعية في المجتمع المصري؛ بسبب تعاقب حلقات كثيرة من الاستعمار. وقد عمل الروائي المصري صنع الله إبراهيم على تقديم خريطة لحاضر المجتمع المصري المابعد كولونيالي في روايته «ذات» (1992) التي استخدمها كوسيلة لإيضاح محاولات التابع المستميتة لبلوغ مستوى إدراك هويته، من خلال مزج الماضي بالحاضر، وتسجيل تاريخ المهمشين الذين يشكلون قوام الأمة؛ يعتقد أن التاريخ مُعلم، وترويجه بين العامة سوف يساعدهم على تلافي التبعية. ومن ثمَّ، ظهرت رواية «ذات» وكأنها محاولة لإعادة تدوين التاريخ، من خلال تسجيل الأحداث الجارية وإحياء الطقوس الاجتماعية.
وحرصا منه على إحياء التراث الشفاهي؛ ظهر صنع الله إبراهيم مثل راو يهيمن على سير الأحداث، ويبرز شخصه بين فينة وأخرى، إما للتعليق أو للتوضيح. ومن الجدير بالذكر أن عنوان الرواية نفسها هو ضرب من التاريخ، ففي بادئ الأمر أراد إحياء سيرة الأميرة العربية «ذات الهمة» التئ كونت جيشا لمحاربة الغزاة، في شكل حديث من خلال تصويرها ناشطة سياسية تقاوم من خلال معدات تكنولوجية غاية في التطوُّر. وبسبب عدم درايته الجيدة بالتكنولوجيات الحديثة، استبدلها بسيرة سيدة مصرية عادية تدعى «ذات» اختصارا لذات الهمة في كلمة واحدة. وقد أخذ صنع الله إبراهيم على عاتقه، إحياء طقوس الحياة اليومية؛ كالمولد والختان وليلة الزفاف وأعياد الميلاد والاعتقاد في الجان وطرد العفاريت وتربية الإناث وحال المصالح الحكومية وموظفيها، فظهرت هذه الطقوس كطابع للهوية القومية.
لقد نجح صنع الله إبراهيم في إبراز مشاهد تفسح المجال لرواية قصص على هامش التاريخ؛ لتتحول إلى تاريخ فعَّال مصبوغ بصبغة قومية بعيدا عن أُطُر قوالب التاريخ الجامدة، التي سطرها المستعمِر الغربي، وفرضها على الشعوب المابعد كولونيالية.
تجري أحداث الرواية خلال ثلاثة عقود، بدءا من ثورة 1952 مرورا بعهد الانفتاح وصولا إلى الوقت الحاضر تقريبا. ومن الطريف أن إبراهيم ألحق كل فصل بمقالات من الجرائد المختلفة، التي تلقي الضوء على ما يسرده من أحداث حقيقية، وكأنه يؤكد أن كل ما يرويه تأريخ يعكس الواقع.
وتبعية «ذات» منشؤها ليس المستعمر في شكله التقليدي؛ فالقوى الاستعمارية في الرواية عبارة عن شرذمة من أبناء الوطن مارقي السلوك، الذين فرضوا التبعية على كل من لا يستطيع مماراة ممتلكاتهم. فالمستعمر في «ذات» هو الجزار شديد الثراء وموظفو الحكومة المرتشون ومن تعلم في دول الغرب، ورجع إلى بلده ليس بهدف تحقيق النفع لأبناء شعبه، بل، لإرهابهم من خلال فرض تقاليد غربية لا تتناسب معهم، وتزجهم في دوامة التبعية للغرب. وعلاوة على هذا، فهناك طبقة من نصَّبوا أنفسهم رجال دين، يطلقون الفتاوى ولهم جحافل من الأتباع والمريدين؛ على الرغم من أن مستوى علمهم بالشريعة لا يؤهلهم لذلك. وقد فُرضت التبعية فرضا على «ذات» في ظل تلك الظروف الفاسدة، وفي خضم محاولاتهما المتستميتة للخروج من أطر التبعية، يلاحظ أنها اعتنقت مذهب الفيلسوف الألمانى مارتن هيدغر(Martin Heidegger) المُنادي بأهمية قيام التابع بدور بارز لإجبار الآخر على الاعتراف بعدم تبعيته. وعلى غرار الإيمان بفلسفة هيغل (G. F. Hegel) ظهرت «ذات». يعتقد هيغل أن العبد يكمن في عباءة التبعية لخوفه من الموت، وأنه لولا وجود العبد لما وجد السيد، وكذلك أن العبد وحده هو القادر على تغيير دفَّة التاريخ في حالة مقاومته لمرتبته الدونية وسطوة السيد. ومن ثم حرص صنع الله إبراهيم على أن يظهر بطلة روايته في موقف المهاجم. فلقد دأبت «ذات» على مجابهة الأنماط الحديثة من الاستعمار في مصر، حين تسربت لعالمهم، وعلمت كيفية مجابهتهم باستخدام فطرتها البسيطة، فحفرت لنفسها مكانة في منزلها وعملها، وكذلك بين جيرانها المرتشين؛ حيث جاهدت بكل الطرق لتعمل على تحديث منزلها لمجابهة قهر محدثي النعمة، لكل من لا طاقة له بمجاراة أسلوب حياتهم الدخيل، والتمتع بما يمتلكونه من وسائل رفاهية. وجدير بالذكر، أنها شنَّت حربا شعواء ضد الفساد في المجتمع ككل، عندما حرَّرت شكوى ضد البقال الذي باعها زيتونا انتهت صلاحيته، وخاضت في سبيل ذلك معارك ضارية في المصالح الحكومية، ووزارة الصحة وأقسام البوليس حتى حصلت في النهاية على توقيع الوزير عينه على شكواها.
وللأسف، بما أن التاريخ ما هو إلا مجرد حقب من القوة تعقبها أخرى من الضعف، كان ذاك مصير مقاومة «ذات» للتبعية. فبعد خوضها معارك عدة ناجحة أدَّت إلى تحسين وضعها، لكنها لم تجن إلا القليل، وآبت تقريبا لنقطة البداية، حتى تتجرَّع مرار الحرمان من إدراك طموحها. فبعد سلسلة من النجاحات، انزوى عنها زوجها، ولم يتغيَّر من تلقي تعليمه في الغرب، وغضَّ كبار الدولة الطرف عن معاقبة تجَّار الطعام الفاسد، وحتى يتفاقم شعورها بالقهر، باع لها مجمعا استهلاكيا تابعا للدولة سمكا فاسداً.
لقد نجح صنع الله إبراهيم في إبراز مشاهد تفسح المجال لرواية قصص على هامش التاريخ؛ لتتحول إلى تاريخ فعَّال مصبوغ بصبغة قومية بعيدا عن أُطُر قوالب التاريخ الجامدة، التي سطرها المستعمِر الغربي، وفرضها على الشعوب المابعد كولونيالية. وكذلك يشدِّد على أن مقاومة التبعية يعرقلها وجود واستشراء الفساد الذي قد يقوِّض الهوية وأي جهود إصلاحية.
كاتبة مصرية