أعربت كنائس معمدانية غربية، في بريطانيا والولايات المتحدة خصوصاً، عن الحزن إزاء استهداف القاذفات الإسرائيلية «المستشفى الأهلي العربي» في حيّ الزيتون، جنوب مدينة غزّة؛ بالنظر أوّلاً إلى أعداد الضحايا التي بلغت أكثر من 400 معظمهم أطفال ونساء وشيوخ؛ وبالنظر أيضاً إلى صلة المستشفى بكنيسة إنكلترا والأسقفية الأنغليكانية في القدس. ندر، مع ذلك، أنّ كنيسة تذكرت حقيقة ذات مغزى تقترن بهذا المشفى: أنه تأسس سنة 1882، وهو بالتالي أكبر بـ 66 سنة من العمر الرسمي لدولة الاحتلال. شاع كذلك أنّ غالبية بيانات الأسى على مجزرة المشفى التحقت بسرديات حكومية بريطانية وأمريكية تردّ مسؤولية القصف على صاروخ فلسطيني، وليس على أطنان القنابل الإسرائيلية.
الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ بيان الكنيسة البروتستانتية الأمريكية المعروفة باسم Presbyterian Church شدّد على نفي الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني المسؤولية عن القصف؛ في متابعة لنهج اعتمدته قيادات الكنيسة منذ عملية «طوفان الأقصى» عماده إقامة ميزان غامض، وغائم وغير عادل بالطبع، بين «أفعال حماس الفظيعة» و»ردّ إسرائيل العنيف»؛ مع تشديد إضافي سياسي تماماً ويندر أن يلجأ إليه خطاب الكنيسة، على أنّ «حماس» لا تمثّل الشعب الفلسطيني.
هنا أيضاً، وكما في الغالبية الساحقة من سياقات العدوان الإسرائيلي المفتوح على قطاع غزّة، يعيد التاريخ تكرار هذا أو ذاك من أنساق الصمت أو التواطؤ أو المشاركة في ارتكاب جرائم الحرب، وفي تشجيعها وتسليحها وإدامتها، أو في المقابل خنق أي صوت يعلو ضدها وأي ضمير يستيقظ لاستنكارها. وما دامت هذه السطور قد تناولت الكنيسة البروتستانتية الأمريكية، فلعلّ إلحاح الدلالة يجيز استذكار واقعة قد لا يصحّ أخلاقياً نسيانها… هذه الأيام تحديداً.
ففي سنة 2014 لم تتردد الكنيسة في سحب كرّاس كانت قد وضعته على موقعها الرسمي، في شبكة الإنترنت؛ لأنّ بضع منظمات يهودية أمريكية اعتبرته معادياً للعقيدة الصهيونية، ولدولة الاحتلال استطراداً، رغم أنه لم يكن ينطوي على أيّ عداء للديانة اليهودية ذاتها. الكرّاس صدر بعنوان «صهيونية غير مستقرّة: دليل دراسة للرعايا»، وقد تمّ إعداده ونشره على الموقع لأغراض تعليمية، ولخدمة أعضاء هذه الكنيسة العاملين في الشرق الأوسط عموماً والأراضي الفلسطينية بصفة خاصة. لكنّ منظمات نافذة شنّت على الكرّاس حملات منظمة، لأنه أطلق على الصهيونية توصيف «اللاهوت الزائف»، وذكّر بأنّ الكنيسة البروتستانتية لم تعترف بهذه العقيدة قط.
صحيح أنّ مسائل لاهوتية، بعضها شائك على الجانبين مثل مسألة «شعب الله المختار»، هي التي غذّت على الدوام الفارق في النظرة إلى دولة الاحتلال بين الكنيسة البروتستانتية والتيارات المسيحية الإنجيلية الأمريكية عموماً؛ إلا أنّ إصدار الكرّاس، ثمّ الاضطرار إلى سحبه، يؤشّر على حضور المسائل السياسية أيضاً، وربما تعمّقها أكثر فأكثر حول تصنيف المشروع الصهيوني تحت مسميات مثل «الكيان الاستيطاني» و»الدولة الاستعمارية» و»المخفر الإمبريالي»، خاصة في أوساط الشباب وما يُسمّى عموماً بـ»الجيل الألفي». وبهذا المعنى فإنّ استبعاد الكرّاس من التداول ظلّ قراراً أصدرته إدارة الكنيسة ولكنها لم تفلح في أو لعلها لم تشتغل منهجياً على انتزاع أفكاره من عقول رعايا الكنيسة أو من ضمائرهم.
يُسجّل، إلى هذا، أنّ صعود شخص مثل فهد أبو عقل (الأمريكي فلسطيني الأصل، ابن كفر ياسيف) إلى مراتب قيادية في الكنيسة المعمدانية الأمريكية ابتداء من ثمانينيات القرن المنصرم، وكذلك في إطار «التحالف الفلسطيني المسيحي من أجل السلام»؛ أتاح توظيف حدثَين بارزَين لصالح تعميق الإبصار السياسي للقضية الفلسطينية في ضمائر رعايا الكنيسة: المؤتمر الدولي حول العنصرية في دربان، جنوب أفريقيا، والذي صادق على أنّ «الصهيونية عنصرية»؛ والانتفاضة الثانية وما اقترن بمراحلها من مشاهد الفظائع الإسرائيلية. من هنا، وبسبب الاستقطاب الثنائي في مستوى قيادات الكنيسة بين إحقاق الحقوق الفلسطينية والدعم شبه المطلق لدولة الاحتلال، تُفهم مظاهر الشقاق، إذا جاز وصفه هكذا، بصدد العدوان الإسرائيلي الراهن على القطاع.
وليست بعيدة عن إذكاء مناخات التباعد مفاعيلُ الآداب الأمريكية الكلاسيكية، خاصة في روايات هرمان ملفيل ومارك توين، التي توفّر مادّة خصبة حول فلسفة عتيقة تضرب بجذورها في الركائز العقائدية التي قام عليها أحد أبرز المعاني الرمزية لنشوء الولايات المتحدة الأمريكية؛ أي أنها «صهيون الجديدة»، أو «كنعان الثانية». تلك كانت صيغة ميتافيزيقية – أدبية، لا تخلو مع ذلك وحتى الساعة من روح تبشيرية إمبريالية، تكمل النظرية الشعبية الأعمّ التي سادت منذ القرن الثامن عشر في مختلف المنظمات المسيحية الأمريكية، والبروتستانتية الإنجيلية بصفة خاصة. وكما هو معروف، تقول هذه النظرة بعودة يسوع إلى عالمنا لتخليصه من الشرور، حين تكتمل جملة شروط، بينها قيام دولة إسرائيل، ونجاحها في احتلال كامل أرض التوراة ومعظم المشرق؛ وإعادة بناء الهيكل الثالث في موقع وعلى أنقاض قبّة الصخرة والمسجد الأقصى…
ذلك يفسّر قسطاً غير قليل من انشطار آراء القيادات الكنسية بين التطلّع إلى «صهيون الجديدة»، تماشياً مع طغيان تنظيرات التيارات المسيحية/ الصهيونية؛ أو التحديق ملياً في الهمجية الإسرائيلية ضدّ «غزّة المعمدانية»؛ حيث الفوارق صارخة وبيّنة وتفقأ الأعين !