صوت أموس توتولا

في السبعينيات من القرن العشرين قرأت «سكان لندن الوحيدون» 1956 لسام سيلفون٭٭، وشعرت بقرابة أدبية تدل على التشابه. كنت آنذاك في العشرين من عمري، ولي مجموعة قصص يتيمة منشورة. وكان يسعدني دائما صحبة الأدباء الآخرين، أن أكون على علاقة معهم، سواء الزملاء الكتاب أو القراء. لكن سيلفون، ومثله أموس توتولا٭٭٭، من جيل والدي. وكان يسعدني حقا لو تسنى لي الجلوس معهما، وأمامي كأس بيرة، لتبادل الأفكار والآراء عن العنصرية والنخبوية، والاستعمار ولغة الإمبريالية، والفن ومهارات الكتابة. وربما أطلق ضحكة، وأشارك بطرفة حول رأي المؤسسة الأدبية عن «الإنكليزية الفاسدة»، بتعبير كاتب نيجيري آخر، هو كين سارو – ويوا.
اللغة بحد ذاتها، في رأيي، هي الموضوع. فهي أداتنا للتعبير عن أنفسنا، وهي ضرورة لاكتشاف أفضل طريقة ندخل بها في اللغة، ثم نعبر بها عن أنفسنا، حتى تتحول حكاياتنا إلى كائنات حية تتنفس. ولا أشير هنا لأي حكاية، بل لحكاية كل واحد فينا، حكايات مجتمعاتنا. ونحن بيننا لغة مشتركة، ولكنها ليست أي لغة، وإنما فرضت علينا، وهي لغة إمبريالية استعمرت تقريبا كل زاوية من وجودنا: ويمكن أن تقول إنها الشكل الأدبي للغة الإنكليزية الرسمية. وقد لعب فرض هذه الترسانة الألسنية، ما يسمى «اللغة الأدبية»، دورا حيويا في اغتيال حكاياتنا وتحويلها إلى حجر ميت وبارد. بهذا المنطق أنظر للغة المؤسسة، وفي الوقت نفسه، أبحث لنفسي عن سياق مع الكتاب الكاريبيين والأفارقة. ومثل هذا التضامن يتعارض تماما مع مشاعري تجاه الكتاب المستعدين والجاهزين لتقبل اللغة الرسمية الملقاة عليهم، وللاستفادة منها قدر استطاعتهم. وليس كل هؤلاء الكتاب من نخبة المجتمع البريطاني أو الإنكليزي، ربما بينهم هنود أو أفارقة، أو أيرلنديون أو أمريكيون، أو كتّاب من جنوب شرق آسيا. وكلهم تقبلوا اللغة الأدبية القياسية، وسلموا لها أنفسهم ومجتمعاتهم وتقاليدهم. نعم هي أشكال وتراكيب مفروضة بالقوة علينا، ولكن ليس على أحد منا أن يقبلها. وأن تكون ثقافات هؤلاء الكتاب متداعية ومحطمة، هذا يعني أنهم وجدوا أنفسهم في سياق آخر، وأملوا في أن يحصلوا منه على منفعة أو ميزة، أو المشاركة بالمردود، سواء كان اجتماعيا أو اقتصاديا. غير أنه لا يوجد استسلام في أعمال توتولا، وهو يحاول فقط أن يقارب بأكبر قدر ممكن من الدقة الحكايات التي تتطور في ثقافته الأصلية، والتي يرويها من خلال شخصيات لها ثقافته، وتتبع أسلوب المشافهة وليس التدوين. فهو يميل لاستعمال مزيج من التعبير الشفوي واللغة الأدبية. وهذا هو الطريق المضمون للخروج من «نير المستعمر». وعندما تسنت لي الفرصة لقراءة ذلك النجيري الطاعن في السن، تشكلت عندي فكرة ساذجة، أن النقاد والأكاديميين ينظرون لكتاباته ضمن هذا السياق.. فهم يقرأون النص عن قرب، قراءة مقارنة، مع ملاحظة أساليب التدوين والمشافهة في نيجيريا وغرب افريقيا. ويمكن أن تقول الشيء نفسه عن أعمالي. فقد اقتنعت، بالمقدار نفسه من السذاجة، أنهم يقدرون في كتاباتي المحورين: المكتوب والمحكي.

ليس مفاجأة أن تتوفر أسباب القرابة بين بعض الكتاب، ولا سيما إذا كانوا يعملون في مجالات نضالية متجاورة ومتقاطعة.

وفي عام 1983 صدرت لي مجموعة قصص. وأشار لي الناشر باسم مجلة أدبية كتبت مراجعة عنها. وشاءت المقادير أن أجد على الصفحة ذاتها مراجعة لواحدة من روايات توتولا. وكم أسعدني أن أشاهد اسمي بجوار اسمه. وافترضت أن الصفحة التي تقاسمناها قد تترك عند بعض القراء انطباعا برؤية مشتركة، وربما تتطور لاحقا عند النقاد والمراجعين لسياق واحد. بماذا يشترك هذان الكاتبان، مع أن الأول من اسكتلندا والثاني من نيجيريا؟ وماذا يميزهما عن بقية كتاب النثر السردي الذين تتابعهم الصحافة؟ بلغة أخرى: ما هو المختلف والمؤتلف؟
كنت محقا حينما اعتقدت أن هناك سياقا وضع الإعلان عن عملينا معا في فضاء واحد، وإلا لبقينا منفصلين ومتباعدين. ولكن ما طبيعة هذا السياق؟. ربما هو عجزنا عن استعمال اللغة الإنكليزية بشكلها الرسمي؟ وبالضبط بعد عام من نشر روايتي الأولى «هاينس ساعي الحافلة» عانيت من هجوم غير مسبوق، قاده رئيس لجنة جائزة البوكر عام 1984، مستندا لفكرة مفادها: أن الرواية غير مكتوبة بلغة إنكليزية، وأنها تتضمن «كلمات دميمة»، وتسهب بمتابعة مشاهد «الكحول والجنس والعنف». والأسوأ من ذلك ادعاؤه بأنها «مكتوبة بشكل كامل بما يبدو أنه لهجة غلاسكو». ولم يتكرم أي ناقد أو مراجع للكلام عن حقيقة واضحة.. أن هذا التكنيك يرتبط على نحو فطري وطبيعي باللغة المحكية. ولم يرد في بال واحد منهم أنني ربما كنت أستعمل شكلا غير تقليدي عن عمد، وليس عن جهل أو قلة انتباه.
……
إنه ليس مفاجأة أن تتوفر أسباب القرابة بين بعض الكتاب، ولا سيما إذا كانوا يعملون في مجالات نضالية متجاورة ومتقاطعة. ولكن المفاجئ أن هذا السياق الحساس بالذات غير واضح لدى مؤسسة اللغة الإنكليزية. وإذا أردنا أن نخفف من حدة شكوكنا، يمكن القول إن المؤسسة فشلت في أداء دورها. وأعتقد أن العجز في تفهم دوافع غير «الاستسلاميين» أو «أعداء الإمبريالية» الثقافية سيكون جزءا بالغ الحساسية والأهمية في المستقبل. وأولئك المتمسكون باللغة الإنكليزية الرسمية وشكلها الأدبي المعروف يساعدون على استمرارية كبريائها وزهوها الذاتي، ويفتحون الباب لانحدارها وانكفائها على نفسها. ولا يبدون أي استعداد للتسامح مع أدبيات مختلفة، تتحدد قيمتها بمعايير خاصة.

٭ كاتب إسكوتلاندي.

٭ ٭ كاتب من ترينيداد (1923-1994). يكتب بالإنكليزية الكريولية.
٭ ٭ ٭ كاتب نيجيري (1920-1997). يكتب قصصا متأثرة بفولكلور اليوروبا.
ترجمة صالح الرزوق / مقتطفات من كتاب سيصدر لاحقا في صيف 2020

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية