صوت التاريخ يجب أن يسمع

حجم الخط
1

هاجم بنيامين نتنياهو والمقربون منه، في حملة شرسة غير مسبوقة، المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليط، واتهموه بمحاولة «إلغاء القرار الديمقراطي الذي اتخذه ملايين المواطنين، الذين اختاروا نتنياهو في الانتخابات الاخيره». وجاءت هذه الهجمة بعد تسريب أخبار، أفادت بأن المستشار القضائي لن يسمح لنتنياهو تسلّم مبلغ عشرة ملايين شاقل، كان سيقدمها صديق له للمساهمة في تمويل اتعاب المحامين الذين سيمثلونه في الملفات الجنائية المفتوحة ضده أمام المحاكم.
شهد صراع نتنياهو ومقربيه وحربهم ضد المستشار القضائي جولات عديدة في الآونة الأخيرة؛ إلا أننا نلاحظ في هذه المواجهة زخمًا تصعيديًا واضحًا، من شأنه أن يفضي إلى تداعيات خطيرة، خاصة بعد أن نشر نتنياهو، قبل أيام، تغريدة في حسابه الشخصي، صرّح فيها بأن «مؤامرة مندلبليط الانقلابية على السلطة، انكشفت بكل قبحها». إنها تهمة مباشرة وواضحة بأن المستشار القضائي للحكومة متورط بتدبير مؤامرة للإطاحة بالنظام القائم.

لا يوجد اختلاف داخل اليمين الإسرائيلي، حول ضرورة الإبقاء على جميع القوانين العنصرية، مثل قانون القومية وأمثاله

قد تكون هذه المواجهة أبرز انعكاسات ما يخطط له، باسم الشعب، نتنياهو وأحزاب اليمين الجديد؛ لكنها هي حتمًا علامة حمراء قانية على مؤشر الفاشية، ومدى استفحالها شعبيًا داخل المجتمع الإسرائيلي. فقبل ايام نظمت قوى يمينية مظاهرة ضد الجهاز القضائي في إسرائيل في ساحة متحف تل أبيب، شارك فيها ناشطون يمينيون وبرلمانيون من حزب الليكود، وكان شعارهم المركزي: «الشعب فقط يقرر، الشعب ضد ديكتاتورية القضاء». وتصادف أن تواجد في المكان، الصحافي المعروف أمنون أبراموفيتش، ومعه طاقم من أخبار «القناة 12» الإسرائيلية، جاءوا لتغطية الحدث؛ فحاصرتهم جموع المتظاهرين، وحاول البعض الاعتداء عليهم جسديًا، ما استدعى تدخل الشرطة لإخراجهم من هناك تحت حراسة مشددة، ساعة كان «الشعب» يصرخ ويتوعده «ككلب وعدو لإسرائيل». كما شاركت في المظاهرة أسنات مارك، التي كانت نائبة في الكنيست، واليها ستعود قريبًا كي تكون مندوبة حزب الليكود في لجنة تعيين القضاة في إسرائيل. لم تلتفت مارك للحادثة مع أبراموفيتش، ولم تتأثر، مثلها مثل جميع من تواجدوا هناك، بالاعتداء في ساحة عامة على أحد أبرز الاعلاميين اليهود في إسرائيل، بل آثرت التعليق على مهمتها المقبلة فقالت: «الجهاز القضائي بحاجة إلى تغيير، وإصلاحه يبدأ بانتخاب القضاة؛ لذا فأنا سأهتم بأن تقوم اللجنة بتعيينات ملائمة ومهنية من شأنها أن تعيد ثقة الجماهير بالقضاء». فمن غير «الشعب» يريد قضاة مدجّنين؟
تمرّ هذه الحوادث على أرصفة الناس المتعبة، بدون أن تعني لهم شيئا، وتختمر معظم التحوّلات الاجتماعية والسياسية المفصلية في الدهاليز السلطوية العليا؛ ويجري كل ذلك من دون أن يقلق أو يثور المواطن العادي، الذي تشغله، علاوة على هواجس فيروس كورونا الضاغطة، متاعب حياته اليومية وجريه وراء لقمة عيشه، وتحصين افراد عائلته من آفة العنف المستشري في مواقعنا، خاصة في هذه الأيام. يعرف قادة إسرائيل هذه الحقيقة ويحاولون، رغم ما نشاهده من حالات دمار وفوضى عندنا، وفي منطقتنا، أن يتصرفوا بهدوء وبروتين زاحف نحو تكريس واقع اسرائيلي، يخططون، بخبث وبإمعان، لتفصيله من معسكرين: الشعب اليهودي وقادته من اليمين النتنياهوتي وحلفائه في جهة، مقابلهم المواطنون العرب، أعداء الدولة، وكل من يجرؤ على الشكوى أو الاعتراض أو الانتقاد أو حتى مجرد المساءلة. رغم النكوص العام، يوجد بيننا من يعرفون أن ما يحدث في الدولة سينتهي قريبًا، بولادة حالة سياسية اسرائيلية جديدة لن يستوعب أربابها مسألة وجودنا، نحن المواطنين العرب، بالشروط الحالية نفسها، ولا وفقًا لمقتضيات منظومة القوانين والقيم النافذة اليوم، رغم عنصريتها وقساوتها. كل يوم يمضي من دون محاولة جادّة لصد هؤلاء يقربهم من تحقيق أهدافهم؛ فمن سيهز أنفاس السكينة المعششة في كهوفنا، ومن سيضيء عتمة قبونا قبل ما تنتصر «الراءات» على «واواتنا»؟ وما العمل؟
لقد طرحت هذه الأسئلة مرارًا في الماضي، وأكدت، مثلًا، بعد انتخابات الكنيست الاخيرة، على أن نجاح القائمة المشتركة هو أول الغيث؛ فشراكة مركباتها وأداؤهم الجماعي أعاد لأكثرية المواطنين العرب الثقة بقيادات كانت معاقبة ببطاقات حمر قانية؛ وأعاد للناس إيمانهم بضرورة وأهمية النضال البرلماني. وأكدت كذلك على أن هذا التغيير لم يحصل إلا بعد أن استعاد مفهوم المواطنة، وضرورة العمل تحت سقوفه، مكانتهما بين قيادات تلك الأحزاب ومصوتيهم. وأشرت، في الوقت نفسه، إلى وجود إجماع يفيد بأنّ العمل البرلماني، مهما كان موفقًا أو بارزًا، لن يكفي للوقوف في وجه ما سيمضي بتنفيذه النظام الإسرائيلي الجديد؛ فقد تؤدي بعض الاختلافات السياسية الداخلية الإسرائيلية، إلى تأجيل تنفيذ ضم المناطق الفلسطينية، لكن قضية ابتلاع الأرض ستبقى عنوان الاحتلال الاسرائيلي الأول والاخير؛ بينما لا يوجد اختلاف، بالمقابل، داخل هذا اليمين، حول ضرورة الإبقاء على جميع القوانين العنصرية، مثل قانون القومية وأمثاله. لذا فعلينا أن نفكر كيف نستطيع بث الروح في شعار «لا للاحتلال» وتحديث صياغته بأسلوب قادر على تشبيك «السياسي» «بالمواطني» وبأسلوب كفيل بتجنيد المواطنين العرب اولًا، وبالتوازي استهداف المواطنين اليهود، ومنهم الصهيونيون، أصحاب الهواجس والقلق نفسه.
لقد اشرت حينها إلى ضرورة التطرق بشكل جدي إلى قضية «لجنة المتابعة العليا» وما تواجهه من مشاكل لن تحلّها، برأيي، عملية إجراء انتخابات عامة لهيئاتها، أو لرئيسها، كما تقترح بعض الجهات؛ ولن ينقذها، كذلك رصد الميزانيات التشغيلية التي كانت بكل تأكيد ستسعفها، ولكن لن تبرئها بشكل تام.
لقد انشئت اللجنة قبل أربعة عقود في ظروف سياسية محلية وخارجية استثنائية، وشكّلت بوجود أطر وقيادات صار بعضها طي التاريخ، وبعض من بقي منها لم يعد يحمل المعاني نفسها ولا يتبوأ المكانة نفسها. لقد ضعضعت هذ التغييرات جسدها فاختلت في داخله موازين القوى، ما أدى إلى حدوث تراجع في مكانتها، رغم محاولات رئيسها، محمد بركة، إنعاشها. أتمنى أن ينجحوا ببعث «لجنة متابعة عليا» جديدة، على أمل أن تتحول إلى عنوان سياسي شرعي ومؤثر ومقبول، كبوصلة يسير على هديها الناس، لكنني أعرف أن ذلك لن يتم إلا إذا توافقت مركباتها على مضامينها السياسية، وعلى القيم الاجتماعية الجامعة الأساسية، وعلى معنى المواطنة ومستحقاتها علينا أولا.
وعلى مسار آخر، توفي قبل ايام البروفيسور زئيف شطيرنهال، وهو أكاديمي اسرائيلي ذو مكانة عالمية، برز في كتاباته عن أصول الفاشية ونشوئها، وله في هذا المضمار نظريات مازالت محط دراسة وسجال. اشتهر شطيرنهال في العقدين الاخيرين كأحد الأصوات الصهيونية البارزة ضد الاحتلال الإسرائيلي وعنصرية نظام الحكم وممارساته القمعية، وعرف في توصيفاته الدقيقة وقراءاته الصائبة لطبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية في إسرائيل، وحذّر من جنوح القوى اليمينية المهيمنة نحو الفاشية. كان صوت شطيرنهال واضحًا وحازمًا في هذه المسائل، وحتى عندما حاولوا اغتياله عام 2008، بوضع عبوة ناسفة على باب بيته، لم يخف ولم يتراجع، بل تمسك بمواقفه أكثر واستمر في صراخه الإنساني عاليًا.
لقد ناديت بضرورة التواصل مع هذه الشخصيات، ومحاولة تنظيمها في جسم غير حزبي، يكون له تأثير على الرأي العام المحلي والخارجي؛ ولتسهم في عملية التشخيص الصحيح للوضع السياسي القائم، وتسخّر خبراتها في إسداء النصائح العملية والعلمية للسياسيين، ولجميع من سيقف في وجه العنصرية والابرتهايد والفاشيين.
لم يفت الأوان، فليقم من بيننا من هم أهل للشروع بهذه المبادرة؛ فصوت من درسوا التاريخ عندنا ووقفوا على موبقات الفاشيين، يجب أن يُسمع، ودور من تبحروا في علوم السياسة والفلسفة والاجتماع، يجب أن يظهر، وهم حتما سيكونون أقوى اذا ضموا إليهم زملاءهم من الأكاديميين الإسرائيليين الذين يقفون ضد الاحتلال ويحاربون الفاشية، ويعرفون أنه إذا لم ينل الشعب الفلسطيني دولته ولم يحظَ المواطنون العرب بحقوقهم، لن يعيش يهود الدولة برغد ولا بسلام.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمعان الاطرش:

    بذكرك التاريخ ذكرتني بفهمي السلفيتي فبعد الاحتلال في ال ٦٧ جاءه احد الرفاق وجلسا يتحدثان عما وصلنا اليه فقال احدهما : ولا يهمك فالتاريخ معنا فاجابه الثاني : ولكن الجغرافيا معهم

إشترك في قائمتنا البريدية