أي قيمة تكون لرأي لا متضاد معه يظهره؟ هل سيكون هذا الرأي رأيا أساسا أم حال واقع وحالة عامة مبهمة لا تعريف لها؟ الأشياء تعرّف بمتضاداتها، الأبيض يظهره الأسود، والنهار يبرزه الليل، فإذا لم يكن المتضاد موجودا، كيف نميّز ما هو عكسه، كيف نُكسبه قيمة ونُضفي عليه أهمية ونُحدث حوله ضجة ونجمع حوله التأييد؟ كيف نناضل تأييداً لما هو حال واقع مفروض لا يمكن تحديه، كيف نُكسب الفكرة صفة الحق ونصبغها بصبغة فاضلة أخلاقية إذا كانت مفروضة لا يمكن التأكد من أخلاقيتها بالتساؤل والتحليل والتحدي والاختبار؟
أنا شاكرة كل يوم، على سبيل المثال، لكل أحمق يتحدث تأييداً للصهيونية أو حتى تبريراً لأفعالها وتفسيراً لأحقيتها في الأرض التي اغتصبتها. شاكرة أنا كل يوم لمن يتحدث عن «إرهابية» حماس وعن «أخلاقية» التطبيع وعن بيع الفلسطينيين لأراضيهم وعن تمدين الصهاينة لأرض قديمة بائرة أتوا ليجدوها بلا شعب. لولا كل هذا الهراء، ما كنا لنظهر الحق في أبهى صوره، ذلك أن الحق يزين ويرتدي أبهى حلله حين يتجاور أبشع الأكاذيب وأكثرها وضوحاً وصفاقة وحماقة.
شخصياً عدت للعديد من الكتب التاريخية المهمة، بعضها مكتوب من قبل باحثين يهود أمثال إلن بابيه، لأستعيد معلوماتي عن القضية الفلسطينية وأستزيد. اكتشفت معلومات جديدة أضافت للحق الذي أؤمن به، تعرفت على تفاصيل غابت عني سابقاً، وانتبهت إلى دقائق بشعة في ظلمها وتخاذل المعنيين بها، دقائق رغم بشاعتها جمّلت قضيتي الفلسطينية بأخلاقيتها وحقوقيتها واستحقاقاتها التي تسد عين الشمس. لولا الهراء الكثير الذي يُنشر في الإعلام الغربي، لولا المقابلات العدة التي تبدأ بالسؤال السمج «هل تؤيد حماس، هل تعتبر حماس إرهابية؟»، لولا تحديات وسائل التواصل التي تتحدث عن الحق الصهيوني في الأرض الفلسطينية أو حتى عن حل الدولتين الذي أسست له اتفاقية أوسلو سيئة الذكر، لولا كل هذا الظلام الجاد في ليل إعلامي طويل، ما كنا لنجد النور في نهاية النفق لننطلق في نهار الحق الواضح الصريح.
شكراً للرأي الآخر مهما بلغت بلاهته. شكراً لفيديوهات الجيش الصهيوني، ما وأضافت إلا بشاعة لبشاعته وتأكيداً لجرائمه. شكراً للمقابلات البريطانية والأمريكية تحديداً المؤيدة للصهيونية، ما ساهمت سوى في تأكيد الحق الفلسطيني وفي إظهار بشاعة وحرمنة الجانب الصهيوني وفي حقيقية طبيعته الاستعمارية الاحتلالية.
شكراً للآراء الدينية المتطرفة والسياسية المتعجرفة والاجتماعية العنصرية، فهي التي فتحت الباب للمعتدلين والحقوقيين والديموقراطيين ليدحضوها ويبينوا ضحالتها. شكراً للكارهين، فهم من يظهرواَن قيمة المحبة والقبول والاحتواء. شكراً للرأي المخالف دائماً، فهو يعطي الفرصة الحقيقية، وبدعوة من الطرف الآخر من حيث إثارته لرأيه، لمناقشة وجهة النظر وتفصيلها وتحليلها.
كأفراد وحكومات ومؤسسات، كأهل وسياسيين وقادة، إذا كانت مساحة نقاشكم متاحة، إذا كانت قوانين رقابتكم منخفضة أو منعدمة، إذا كان للرأي الآخر مكان آمن في محيطكم، فأولاً أنتم على الجانب الأخلاقي الحقوقي من الإنسانية، وثانياً أنتم مرتاحون مع أنفسكم وقراراتكم وتوجهاتكم التي تثقون في قوتها من ناحية ولا تمانعون تعديلها للأفضل حال توجيه نقد لها من الناحية الأخرى. يُكتم الرأي الآخر، تُقرر قوانين الإخراس والقمع الحرياتي، تبرز الرقابة وأساليب التقييد، فقط حين يشعر صاحبها بضعف موقفه وهوان رأيه وضحالة أو خطأ أو إشكالية توجهه. من يثق في موقفه لا يحجب التحديات التي تواجهه، من يؤمن بالفكرة لا يمنع الحديث ضدها. ومنع مناقشتها أو إضفاء قدسية عليها أو حمايتها بالتخويف والاضطهاد لن يضر سوى هذه الفكرة، ولن ينتهي سوى بإثارة الكراهية لها وتفعيل ثورة ضدها.
إذا كنت فرداً أو حكومة أو مؤسسة أو جزءا من منظومة دينية، جباراً قامعاً للرأي المخالف ونجحت في إجهاضه ولو إلى حين، فاستمع لصوت الصمت، سيخبرك بالكثير وسيتنبأ لك بالقادم المريع.