تحت هذا العنوان الغريب، الذي أنا آت على تفسيره، أريد أن أجعل معك اليوم، عزيزي القارئ، من وقفة كتابة. فالوقفة لحظة تأمل، وهي أيضا لحظة تعليق، تعليق للزمن، وربما تكون أيضا لحظة تفتح أبوابا لآفاق إما تكون غير مرتادة، وإما عسيرة المنال في جو مشحون بالتوتر واللايقين.
ولعل الموسيقى، بما تسهم في تعليقه من أجواء مضطربة أحوالها، ملبّدة غيومها، جديرة بخلق مناخ بديل عليه ما عليه من اصطناعية التصنيع وسرعة المجرى، ولكنه في نفس الوقت يمرر علينا نسمات جديرة بتنفيس قصبتنا الهوائية المحتقنة.
كثيرا ما دأب جيل على التقليل من شأن الموسيقى الحديثة المتداولة في سهرات الشباب، والمروّجة في اللقطات ذات الإيقاع السريع المسمّاة كليب استعاراة، إلى درجة أن عبارة ‘الموسيقى المعلبة’ صارت من ثوابت القاموس اللفظي والنقدي المعتمد في هذا المجال.
أما أن تكون جودة الطرب متفاوتة الأداء، وكلمات بعض الأغاني عديمة المعنى فقيرة المغزى، فأمر وارد طبعا، ولكن لم نقصّره على هذه الحقبة من تاريخنا المعاصر دون سواها؟ ألم نتذكر، إذا بقينا في المجال العربي، قصة هذه الفتاة في خمسينيات القرن الماضي التي فضّلت على أختها لمجرد أنها ملكت مجامع عقل أحد أعضاء لجنة اختبار ناشئة الطرب، بينما كان زملاؤه مجمعين على تفوق أداء أختها بكثير… لكن صوت القوي القوي بنفوذه وعلاقاته نطق بالقول الفصل فدخلت الفتاة عالم النجوم الساطعة، بينما ظلت أختها نجمة يوم، بل نجمة دقيقتين أفلت بأفول التحكيم العادل فزجّ بالعندليب مقصوص الجناحين في مزبلة التاريخ.
العبرة بسيطة إذن، لا نمجّد فترة على حساب فترة، الفترة السابقة على الفترة الحاضرة، وكما هو معهود، فندّعي أنّ الماضي دائما لمع بريقه وشكّل حسب تعبير آخر يطلق للتداول أيضا، ‘عصرا ذهبيا’. الموسيقى أشكال وألوان نعم، لكن الأجيال أشكال وألوان أيضا، فالموسيقى إذن على صورة أجيالها.
تعيش الأجيال على وتيرة أغانيها ـ وهذا ما لم يفت أحد مقدمي البرامج الإذاعية عندما أطلق على برنامجه تسمية أغانينا ـ فتتمازج أنغام ـ وحتى كلمات ـ في إيقاع يتطور بتطور المقاربات النفسية والحسّية لأنماط الحياة. وإذا بعنوان مقالي ـ موسيقى الساعة السابعة ـ يأتي مساهمة مني في أمر التفاعل مع الحدث الموسيقي أو الغنائي أو الاثنين معا.
تحمل إحدى قصائدي الشعرية في طريقها إلى النشر عنوان ‘صوت المذيعة’. لقد أردت أن أجعل من هذا العنوان، شأنه شأن هذا المقال وعنوانه، وقفة للتأمّل والكتابة، قل وقفة للتأمّل الكتابي تضرب جذورها في خصوبة تراب الذكرى. خذ إذن عنواني: ‘موسيقى الساعة السابعة وصوت المذيعة’، واجعل شقّيهما عنوانا واحدا ليصبح: ‘صوت المذيعة على موسيقى الساعة السابعة’.
طبعا، إذا كانت الموسيقى ابنة ساعتها، فليست بالضرورة ابنة توقيتها. فما بالي جعلتها موسيقى الساعة السابعة إذن؟ في الحقيقة، إذا لاحظت عبارة ‘ما بالي’ هذه نفسها فإنك ستلقى جزءا من الجواب…
فالبال في اللغة العربية، من الكلمات المفاتيح، تقدم غوصا في قعر الميدان الحسّي، وقليلة هي اللغات التي تلتمس مثل هذه ‘الكلمات الكشّافات’ الخليقة بأن تضطلع بدور الناطق بلسان النفس. أكيد، عبارات ‘ما بالك’ ، أو’راحة البال’، وأيضا الـ’ما على باليش’ الجزائرية، عبارات دخلت مجال التداول العام وتسير على درب تعابير الاستخدامات اليومية، ولكن لا ينبغي أن يتحول الديدن والعادة إلى ذريعة للانتقاص من قيمتها المعبرة.
وإذا كنا قد أغلقنا هذا القوس اللغوي اللفظي، فدعني عزيزي أواصل الحديث عن أمور يعتبرها الكثيرون ثانوية غير جديرة بالأولوية فرعية، هذه الأمور، لنجعلها في المقام الأول من اهتماماتنا ـ ولعلّ وعسى ـ من اهتماماتك أنت أيضا.
‘راحة البال’..’ما بالنا’..’ما على باليش’.. عبارات تشكل مداخل إلى عالم النفس قلنا عالم يمكّن من التنفيس من الاحتقان أضفنا… ولكن العبارات تبقى عبارات، والكلمات تبقى كلمات.. أما الموسيقى، فهي الوجه الآخر من التعبير، حيث يقوم التعبير المعنوي مقام التعبير اللفظي، ولا يمتّ التمييز إلى اللغة هذه المرة، بل إلى الفصل بين ما هو ذهني وما ليس بذهني.
لن تفهم عنوان موسيقى الساعة السابعة بمنطق التفسير اللغوي المعجمي، ستفهمه بمنطق إيحائي حيث تعلم أن هذا التوقيت ربطته بإحساس من السكون العارم تولاني في أحد مساءاتي الربيعية في مدينة الرباط المغربية، وأنا أراقب من شرفة فندق معروف يواجه البرلمان، المدينة بأبواق سياراتها، ونفثات عوادم دراجاتها النارية وصخب مارتها وثرثرة رواد مقاهيها وزقزقة بناتها ونكت بنيها ومجادلات شيوخها ونداءات استجداء شحاذيها وحركات شرطيي مرورها… وكل هذا وذاك او قل وكل هذه الحياة وتلك موصول عندي، من شرفة فندقي المنتصب بأبوة وشموخ أمام البرلمان، بنغمة موسيقية كانت تبثها الإذاعة الوطنية المغربية باستمرار في برنامج اسمه ‘مرآة الأثير’، لاحظ شعرية العنوان، نغمة موسيقية قلت، لم أقل أغنية، لم أقل طربا، لم أقل معزوفة بل لجأت إلى كلمة مبهمة تفتقد الدقة، وإن كنت لجأت إلى كلمة مبهمة تفتقد الدقة، فلأن النغمة عينها لا تدخل في أي من التصنيفات الموسيقية المألوفة.
كانت النغمة ترافق صوت المذيعة، وعلمت من مذيعة أخرى من الإذاعة ذاتها أنهم يسمّونها ‘موسيقى تمويجية’، وسررت بالتسمية، موسيقى توصل طبقات المذيعة الصوتية، على إيقاع أمواج تضاف إلى أمواج، أمواج الإذاعة وأمواج البحر.
لم أكتف بسماع الموسيقى وصوت المذيعة، بل ذهبت إلى دار الإذاعة، التي كنت أعرف أصحابها جيدا لكثرة مشاركاتي في برامج الشباب لديها في سنوات مضت، لعلي بذلك ازداد تمكّنا من اللغة العربية – فصعدت إلى أستوديو البث المباشر، الأستوديو رقم أربعة الذي لا يزال هو هو إذا استثنينا التعديلات التي استدعت تزويده بأجهزة رقمية، فسلمت على الفريق التقني وراء الزجاج، كما أشارت إلي بإيماءات من رأسها المذيعة التي كانت لا تزال في غرفة البث تنهي البرنامج الذي كنت اسمعه من شرفتي وأنا أراقب المدينة، والذي لم أتمالك عن التوقف عن سماعه لانشغالي الكلي بالهرولة إلى مبنى الإذاعة لمعرفة عنوان وهاكم عنوان آخر التفت له في هذا المقال الذي يبدو انه كله عناوين، عنوان الأسطوانة التي كانت تبث هذه النغمة التي تدعى ‘موسيقى تمويجية’.
وكنت اعرف اني سأجد هذا العنوان بسهولة، من دون أن أسأل عن شيء حتى، فقد كان ‘القمطر الفني ‘كما يقولون، مكونا هذا الوقت من آلة تلعّب الأشرطة ومن كثرة ارتيادي المكان كنت أعرف جيدا أن الأشرطة مخصصة للأغاني المغربية الطويلة غالبا ولتقارير النشرات الإخبارية، وأيضا لتقارير المراسلين التي أذكر أني وعمري لا يناهز السادسة عشرة كنت وبّخت مذيعة مرة لأنها قالت إنّ المراسل معنا مباشرة بينما الشريط هو الذي كان معنا مباشرة.. فطولبت وقتها بمغادرة غرفة البث فورا والجلوس وراء الزجاج.. أما الجزء الآخر من القمطر الفني، فكانت تشغله آلة لتمرير الأسطوانات، وكنت أعلم أني فيها سأجد ضالّتي المنشودة، وهكذا انتظرت نهاية استخدام التقني إياها، فأخذتها بين يدي ولم يسألني التقني ماذا أفعل وكنت حسبت للأمر حسابه إن حدث ـ رفعت الأسطوانة ونظرت فيها مليا فحفظت العنوان، ثم أرجعتها على الآلة من جديد، ثم بحث عن غلافها فوجدته بجانب الآلة، بحثت عن عنوان شركة التوزيع، فوجدته وحفظته.
ولدى عودتي إلى فرنسا، ذهبت إلى شركة توزيع الأسطوانة في باريس وطلبتها، ودهش صاحب المحل دهشة كبيرة قائلا إنها اسطوانة توزع على الإذاعات دون سواها، ونحن أصلا شركة متخصصة لتوزيع هذا النوع من الموسيقى للقنوات الإذاعية والتلفزيونية. فكيف عرفتها وعرفتنا؟ فرويت له القصة. يبدو أنه أعجب بها، فهو لم يتركني أشتري الأسطوانة بل أعطاني إياها، أسطوانة موسيقى صوت المذيعة.
‘ باحث اكاديمي واعلامي فرنسي