صوملة مصر

حجم الخط
4

(1) سئلت في مؤتمر دولي شاركت فيه الشهر الماضي عن رأيي في مآلات الحالة المصرية، فأجبت بأن كثيراً من الدلائل تشير إلى أن مصر تتجه نحو الصوملة، ما لم تتخذ إجراءات عاجلة لوقف التدهور السياسي والاقتصادي. وبعد الجلسة، تحدثت إلى دبلوماسي مصري مخضرم أحسبه على قدر كبير من الحكمة والعقل، فعلق وهو يبتسم تبسم العارف بأنني أبالغ في توصيف الأمور. واعترف الدبلوماسي بأن الأمور على قدر كبير من السوء، ولكنها ما تزال تحت السيطرة. وقد سمعت من خبير مصري آخر أن الخطر ليس هو الصوملة، وإنما الدولة الفاشية التي بدأت ملامحها تتشكل تحت رعاية الأجهزة الأمنية.

(2)

قلت للدبلوماسي المحنك إنني بالطبع أتمنى لو كان على حق، ولكنني أخشى أن المرء يحتاج إلى كثير من التعامي حتى لا تصدمه حقائق الانحدار المخيف نحو القاع في مصر. فسيناء تحولت إلى ادلب أخرى، وكثير من مدن القناة مثل بورسعيد أصبحت دويلات، والجيش أصبح يتعامل مع المواطنين كميليشيا حزبية. أما الشرطة والأمن، فحدث ولا حرج. حتى القضاء أصبح يتصرف كما لو كان ميليشيا أو جهة منفلتة أبعد ما تكون عن حكم القانون. وفي خضم كل هذا هناك إعلام يفيض بالشر والكذب، ويظهر ‘الوجه القبيح’ لمصر. فإذا لم يكن هذا هو الهلاك والدمار، فكيف يكون؟
(3)

كان هذا قبل أن تصدمنا أحداث أسوان الأخيرة، وما شهدناه من ‘صراع قبلي’ في قلب مدينة مصرية! لقد عشنا بحمد الله حتى سمعنا بأن في مصر ‘قبائل’ تتقاتل كما هو الحال في دارفور والصومال والكونغو، ورواندا. وكما هو الحال في تلك المناطق، فإن ما يسمى بصراع قبلي لا يتم لأن الدولة غابت واندثرت فحسب، بل لأنها على الأرجح تحولت بدورها إلى ‘قبيلة’ بين القبائل.

(4)

لم تكن أحداث أسوان الأخيرة مصادفة، كما لم تكن دارفور مصادفة، بل هي حلقة من تدمير منهجي للدولة المصرية، أو ما بقي منها بعد نهاية العهد المباركي. فقد شهد ذلك العهد تقاسم سلطان الدولة بين المخابرات ورجال الأعمال والمصالح الخارجية، وبالطبع الجيش كمؤسسة اقتصادية. وقد كانت ثورة يناير والتحول الديمقراطي بداية لاستعادة الدولة لشرعيتها ودورها، ولكن نفس العناصر التي مزقت الدولة من قبل قادت هجمة منهجية على كل عناصر القوة الجديدة، حتى تعيد الأمر إلى سابق عهده وأسوأ.

(5)

الاستراتيجية التي اتبعت لتدمير تجربة مصر الديمقراطية هي نفسها التي تم العمل بها لمحاولة إفشال الثورة عبر تحويل الدولة إلى مؤسسة لا تتميز بشيء عن العصابة الإجرامية. فقد تم تفريغ السجون ومراكز الشرطة من مجرمي الحق العام، وتسليطهم على الناس. وتم استخدام إعلام السلطة لنشر الرعب والتخويف من الجريمة طمعاً في أن ينفض المتظاهرون لحماية أسرهم، وهو ما حدث بالفعل لكثيرين. تم كذلك تجنيد البلطجية، راجلين وعلى ظهور البغال والحمير، لإرهاب وفض المتظاهرين، فأصبحنا أمام ‘دولة’ البلطجية بامتياز.
(6)

النهج نفسه استخدم لزعزعة التجربة الديمقراطية، ولكنه هذه المرة تجاوز إفراغ الدولة من أي محتوى أخلاقي إلى تدمير قطاعات واسعة من المجتمع أخلاقياً كذلك. هذه المرة لم يتم فقط تجنيد البلطجية لتدمير الديمقراطية، بل أيضاً تجنيد أحزاب ونقابات وبعض ‘الثوار’، وتحويلهم إلى بلطجية. تلوث الجميع بجريمة تدمير الديمقراطية تحت شعار محاربة الإخوان. وبعد تنفيذ الجريمة اختلف السراق، وأودع بعضهم السجن بجرائم مختلقة من قبل شركائهم في الإثم، لأنهم أرادوا نصيباً من السلطة التي سرقت من الشعب بدون وجه حق. ولكن كبير الحرامية لم يكن يقبل المشاركة. والتصفيات المتبادلة هي منهج معروف وسط عصابات المافيا.

(7)

يعزي كثير من المصريين أنفسهم بأوهام وأساطير عن استقرار وقوة الدولة المصرية، بل اعتاد بعض أنصار النظام السابق تسويق أسطورة أن المصريين يدمنون عبادة أي فرعون يجلس على عرش مصر. ولكن الواقع ينبئنا أنه خلال القرن الذي انصرم، كان الملك فؤاد والرئيس عبدالناصر وحدهما من أنجاهما الموت من الخلع أو القتل. فقد قتل ثلاثة رؤساء وزارة (بطرس غالي، 1910، أحمد ماهر، 1945، ومحمود النقراشي، 1948) إضافة إلى حاكم عام السودان السير لي ستاك (1924)، والرئيس أنور السادات (1981). وقد خلع الملك فاروق والرئيس حسني مبارك، ثم الرئيس محمد مرسي. وقد شهدت مصر انتفاضات وثورات عدة، منها ثورة 1919، وانتفاضات 1977 ثم 1986، إضافة إلى العديد من الانتفاضات المحلية. فالحديث عن دولة مستقرة في مصر وشعب خانع أبعد ما تكون عن الحقيقة.

(8)

إشكالية الدولة المصرية المزمنة نشأت من الفشل في إرساء أسس الشرعية، وحالة ‘الطوارئ’ الأبدية فيها التي نتج عنها ضعف الاقتصاد. فمع كل الحديث عن مكانة مصر ونفوذها، فالثابت أن الدولة المصرية ما تزال عالة على المعونات الخارجية. وليست هناك عظمة مع تسول الدعم، خاصة إذا كان الثمن هو السيادة واستقلال القرار.
(9)

إن أي جهة تعتقد أن النهج المتبع في مصر حالياً سيؤدي إلى استقرار قريب يحتاج إلى مراجعة عاجلة لموقفه، خاصة وأن الدولة المصرية تتداوى بالتي هي الداء، وتعالج أزمتها بتقويض مؤسساتها من قضاء وجيش وإعلام وأجهزة أمنية، وتشويه سمعتها إلى حضيض الحضيض.

(10)

ليست المعارضة، وعلى رأسها الإخوان، بريئة من دم الدولة المصرية، ولكن هذا مبحث آخر سنفرد له معالجة خاصة. ولكن تحميل الإخوان وحدهم المسؤولية في الانهيار الماثل لن يجدي شيئاً، خاصة وأن الإخوان ليس بيدهم من الأمر شيء. وبالعكس، نجد الإجراءات التي اتخذت لضرب الإخوان عبر تقويض العملية الديمقراطية وتدمير الدولة المصرية لم تضر الإخوان شيئاً، بل أفادتهم بفضح إفلاس خصومهم الأخلاقي والسياسي كما نرى من بشاعة ممارساتهم. وقد كان من الممكن تحجيم الإخوان سياسياً بدون تدمير مصر، فالإخوان ليسوا قبيلة تتم إبادتها، وإنما هم فكر لن يمنع أحد أجيال قادمة من اعتناقه بهذا العبث التدميري.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hadib:

    مالك بن نبي، آخر فيلسوف أنجبته الأمة العربية، قال ما معناه أن افكار ابن خلدون (مثل الحكومة الصغيرة الرشيقة، تخفيض الضرائب ومنع تدخل السلطان في التجارة) ظلت بين ظهرانينا لا يستفيد منها الناس الي أن اعاد الغرب تقديمها الينا. مشكلة مصر فكرية في الأساس، وناجمة عن عجز النخب التي يمكن تشبيهها بالحمار الذي لا يستفيد مما يحمله من أسفار. فلو قام ابن خلدون من قبره اليوم لصعق من أن مصر (إحدي البلاد التي تولي القضاء فيها) أصبحت ليست بدولة لديها جيش وإنما جيش لديه دولة Egypt is not a country that has an army, but an army that has a country

    *علي هذا الرابطين يجد القارئ بحثا بالإنجليزية والعربية بعنوان «فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر»، يتطرق الي أحد مكامن الخطأ في المشكلة المصرية.
    http://carnegie-mec.org/publications/?fa=48996

    http://carnegie-mec.org/2012/08/01/above-state-officers-republic-in-egypt/d4sx

    *الفكاهي المصري محمد باكوس انتج مؤخراً فيديو ساخر، بعنوان «الله حي الظابط جي»، يقول فيه ما معناه أن سلوك مؤدي السسيسي يدل علي أن الشعب المصري غير واعي ولذا لا يستاهل رئيس بمقام محمد مرسي. يمكن مشاهدة هذا الفيديو الظريف علي: http://www.youtube.com/watch?v=lSS_Xvcxnqk

  2. يقول - Germany walid kheir:

    كلام سليم في مجمله مع اختلافي مع الكاتب في التفاصيل. فمثلاً الكاتب يدلل علي عدم إستقرار مصر بثورة ١٩١٩ و مظاهرات ١٩٧٧ و تمرد الأمن المركزي عام ١٩٨٦. أحداث ١٩٨٦ لم تكن انتفاضه شعبيه، بل شغب ورائه حيتان الفساد للتخلص من وزير الداخليه أحمد رشدي، احد قلائل الشرفاء الذين تولوا هذه الوزاره القذره، و صاحب العباره الشهيره “إذا وجدتم حشيش في السوق يبقي أنا اللي بأبيعه” كنايه عن قضائه علي تجارة المخدرات. ثانياً، إحتجاجات ١٩٧٧ كانت ضد رفع الدعم و مدفوعه بفلول الناصريين، و لا ترقي بأي حال من الأحوال لثورة ١٩١٩.

  3. يقول محمد العيد عاشوري تونس الخضراء:

    بصراحة ليت الحكام المصريين يقرؤون فيتدبرو مقالك و يعملو به

  4. يقول أ.د. خالد فهمي - تورونتو - كندا:

    شكراً يا دكتورنا العزيز على سلسلة المقالات حول مصر “الكنانة”…

    دولة شبيهة بالصومال أم دولة بوليسية فاشية ففي كل الاحوال فأن السيسي جاء على دبابة صهيونية – أميريكية نفذ كل مخططاتهما في سحق حكم الاخوان وسلب الشرعية الديمقراطية الوليدة في مصرو بالتالي أعادة عقارب الساعة الى الخلف لتكون متواصلة مع أنتهاء حكم مبارك الذي هرم وتريد أسرائيل تجديد الدماء لتكون السيسي في خدمتها…

إشترك في قائمتنا البريدية