أتذكر أننا كنا في أواسط السبعينيات من القرن الماضي نتجادل سواء في مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب، أو في بعض الأنشطة الثقافية، بخصوص الشعار الثقافي الذي يحدد هوية الاتحاد أو الجمعيات الثقافية والسياسية. وكان ثمة مقترحان: يقول الأول بـ «ثقافة وطنية ديموقراطية»، ويطالب الثاني بـ «ثقافة ديموقراطية وطنية». كان كل مقترح يومئ إلى تصور معين إلى القضية الوطنية ممثلة بالخصوص حول الصحراء المغربية. فإذا كان التصور الأول الذي دافعنا عنه يقضي بأن البعد الوطني ينبغي أن يحتل الصدارة، باعتباره يرمي إلى وضع حد للنزاع المفتعل حول قضية الصحراء، وأن هناك مدينتين ما تزالان قيد الاحتلال، بالإضافة إلى بعض الجزر، وأن الإجماع الشعبي على القضية الوطنية يجب ألا يلغي البعد الديموقراطي الذي لا يمكن بحال تأجيله بسبب الالتفاف حول القضية الوطنية، بجعلها محورية. بل إن البعد الوطني لا يمكن ان يتحقق على النحو الأمثل إلا بممارسة ديموقراطية.
أما التصور الثاني فكان يرى أن الاستقلال قد تحقق، ولم يبق أي مبرر للحديث عن القضية الوطنية، وأن التركيز يجب أن ينصب على النضال الديموقراطي، وعلى دعم نضالات الشعوب من اجل التحرر من نير الإمبريالية والرجعية. لم يكن هذا النقاش مختلفا عن الذي كان التمييز فيه بين تسبيقنا للعمال أو الفلاحين في الترتيب في الشعارات النضالية التي كانت مرفوعة بخصوص تحالف العمال والفلاحين. تبخرت مع الزمن كل الشعارات فلم يبق مكان لما هو وطني أو ديموقراطي، ولا للفلاحين أو العمال. مع ذلك كانت تلك النقاشات بنت زمانها، وتعكس رؤية للصراع، وفهما معينا للتغيير. ما جرى في المغرب، كان صدى لما يجري في الوطن العربي رغم تغير الظروف وطبيعة الحكم، ونوعية المطالب المرفوعة. فلما كان النظام المغربي يرى أنه بصدد مواجهة من يتربص بحقوقه الوطنية، كانت بعض الدول العربية «الثورية» ترى نفسها في الوضع نفسه، ولكن بكيفية أخرى. إنها كانت ترى أنها في المواجهة مع الإمبريالية، والصهيونية والرجعية العربية. وعلى شعوبها ألا تطالب بما يشوش على نظام الحرب الواحد، أو على الأنظمة العسكرتارية أو المخابراتية، بل عليها أن تصفق للمنجزات الثورية، وتبتهج للمواقف البطولية التي تنتهجها تلك الأنظمة. وكان أن صارت الأنظمة الجمهورية ملكيات بدون تاريخ أسري، وتبخرت شعارات «الممانعة»، ومواجهة الإمبريالية والصهيونية.
لا فرق الآن بين الأنظمة السياسية العربية. تشترك في النهج والمنهج. وحتى نتائج المطالب الشعبية العربية، مع أحداث الربيع العربي، وتغيير الدساتير، والانتخابات، لم تؤد في النهاية إلا إلى تكريس الوضع الذي كان قائما، ولكن بكفية مختلفة. فما الذي يباين بين ما كانت عليه الأوضاع العربية صبيحة الاستقلالات، وبين الآن، وقد مرت عقود على تلك التواريخ. ما تزال دار لقمان على حالها، وقد تحولت من بيت بسيط إلى برج شاهق.
ما قلناه عن الوطنية والديموقراطية ينسحب على «الأصالة» و«المعاصرة». فمنذ ما يعرف في التاريخ العربي الحديث، ونحن نرفع هذا الشعار، وإن تحول مع الزمن إلى «التقليد»، أو «الحداثة»، وما شابه ذلك من الثنائيات، أو تولد في نطاقها. ماذا فعلنا بالأصالة، ونحن ندافع عنها، سواء ارتبطت بالدين، أو بالتراث، أو التقاليد؟ وماذا نجم عن الحداثة وحقوق الإنسان وحرية التعبير، والمرأة؟ لماذا لم ننجح في كل هذا التاريخ، وهو يمتد على حوالي أكثر من قرن الزمان؟ أين الخلل البنيوي؟ هل هو في الآخر، الذي يستهدفنا، سواء كان إمبريالية أو صهيونية، أو غربا سبق أن استعمرنا؟ هل المشكل في المجتمع السياسي؟ أم في المجتمع الثقافي؟ أم في الشعب نفسه؟
أنى لنا أن نتحدث عن الوطنية؟ والقومية والوحدة العربية، في حقبة، ونحن ندافع عن الجغرافية التي تركها الاستعمار بيننا؟ وأنى لنا أن نتحدث عن حقوق الإنسان، والديموقراطية، ونحن نميز داخل مجتمعاتنا بين الأقليات، ونتشبث بالطائفية والعرقية ونطالب بالمحاصصة، في حقبة ثانية؟
لا يمكننا التنكر لتاريخ طويل عاشته الشعوب العربية والإسلامية، بمختلف العرقيات والطوائف والمذاهب والديانات التي كانت تتعايش، وتتسامح، وتتفاعل فيما بينها بما يخدم طموحاتها وتطلعاتها. إنه تاريخنا بإيجابياته وسلبياته. هل يمكننا اعتبار هذا التاريخ تراثا، وتقليدا، ودينا، ينبغي لنا أن نقطع معه على اعتبار أنه تركة لم يبق أي مسوغ لاستمرارها في عصرنا الراهن؟ وماذا عن الجغرافيا التي خلفها الاستعمار، وجعلتنا جزءا من العالم المعاصر الذي كونته وفق رؤيتها وتصورها للعالم؟ هل علينا أن نتبنى أطروحات مفكريها، وعلمائها دون أن يكون لنا موقف منها؟ هل اتخاذ «النموذج» كيفما كانت أصوله التاريخية أو الجغرافية هو الحل الأمثل لمختلف معضلاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
يبدو لي أن هذا هو المشكل الذي عانى ويعاني منه الإنسان العربي في العصر الحديث. إنه لا يعيش أو يفكر كذات لها أسئلتها، وقضاياها التي عليها أن توفر لها الأسباب الملائمة للتفكير فيها بدون عقدة النموذج. إن النموذج هو ما تحقق أمس، وعلينا «استرجاع»ـه، وهذا تصور أول. أما التصور الثاني، فيتخذ نموذج الآخر المختلف تاريخيا وحضاريا، بديلا. في الحالتين معا: نعيش: «ذاتا أخرى»، قوامها الانفصام، والازدواج: فنحن النحن، لسنا نحن، ولسنا الآخر. هذه الإشكالية جعلتنا لا نفكر كذات مستقلة، ولها شرعية وجودها، والتفكير في مآلها.
قد نفسر هذه الازدواجية بسبب التأخر التاريخي الذي وجدنا أنفسنا فيه، والذي أدى إلى الاستعمار الذي عمل على «قولبة» وجودنا بكيفية تجعلنا نعيش نوعا من «الهجانة» التي لا تمكننا من التمييز بين الوجه والقفا. لكن الوقوف عند هذا التفسير يجعلنا نغفل العامل الذاتي في فك عقدة النموذج، وتجاوز الثنائية، والتوفيق في طرح البدائل. لقد مر زمان طويل، وإلى الآن، ونحن نعيش هذه الوضعية التي تقوم على التمييز بين هاتين الثنائيتين الأصليتين باعتبارهما جماع ثنائيات فرعية: الوطنية والديموقراطية، وبين الأصالة والمعاصرة، وما يتفرع منهما. وكل منا يرى أن النموذج الأمثل يكمن في طرف هذه الثنائية أو تلك.
كيف يمكننا أن نكون «أصيلين»، بدون أصالة، ونكون «معاصرين» بدون معاصرة؟ إنه سؤال هوية لا سردية لأنها غير متحققة إلى الآن لأن إكراهات التمييز والدعوة إلى التمايز ما تزال قائمة في التفكير والممارسة. إن فحوى السؤال المطروح تعني الجواب عن سؤال: كيف يمكننا أن نكون «نحن»، وفي الوقت نفسه نكون قادرين على التفاعل مع «الآخر»، دون أن تلغى ذاتيتنا، ودون أن تكون ذات الآخر قادرة على محو هويتنا. وليس لذلك من معنى آخر غير اتخاذ موقف نقدي من التاريخ والجغرافيا، من جهة، ومن الذات والآخر، من جهة ثالثة، ومن أي نموذج مسبق وجاهز، أي أن نكون ضد «الأصالة»، وفي الوقت نفسه ضد «المعاصرة».
أرى أن هذا الجواب يستدعي إعادة قراءة جديدة للتاريخ والجغرافيا، وإعادة قراءة فكر الآخر المختلف عنا تاريخا وحضارة. وهذه القراءة تتطلب وعيا إبستيمولوجيا جديدا، نطرح من خلاله أسئلة جديدة، ونعيد النظر في الأسئلة التي لم ننجح في الجواب عنها، ونبحث في أسباب ذلك. إننا، ولا يمكننا أن ننكر المجهودات التي أنجزت، أخطأنا نقطة الانطلاق لأسباب كثيرة، وعلينا ألا نستمر في ارتكاب أخطاء عدم الوصول.
*كاتب من المغرب
الأصالة تنافي وتناقص المعاصرة لغة ومفهوما واتجاها سياسيا ايضا، والجمع بينهما لا يجمع الا حثالة المجتمع يتنكرون في جلباب او بدلة اوروبية، لينشروا الفساد الذي يسيطر على. حياتهم تحت غطاء الأصالة او المعاصرة، بحسب الظروف.
حياك الله استاذي المحترم. أشرت في المقال الى مرور قرن من الزمن. وبالرجوع الى المشاهد التي التقطها المصورون للمجتمع المغربي في الازقة و الاسواق بعد 1912 و مقارنتها بمشاهدة المجتمع المغربي حاليا نلاحظ أن المعاصرة هي الغالبة. قبل سنة 1912 لم يكن في المغرب شبرا واحدا من الطرق المعبدة ولا تلميذ واحد حاصل على البكالوريا ولا مهندس و لا ولا ، بينما اليوم صار المغاربة ينافسون أقرانهم في أرقى الجامعات العالمية.