من أغرب سمات هذا العصر أن الفوارق الأخلاقية بين حكام الأنظمة الديمقراطية وحكام الأنظمة الاستبدادية قد زالت أو كادت. يكفي أن تنظر قليلا حتى تلحظ أن معظم الحكام في عالم اليوم قد فصّلوا وخيطوا من القماشة ذاتها دون اعتبار للاختلاف بين الأنظمة والثقافات. إذ لا فارق أخلاقيا اليوم بين الحكام في ديمقراطيات مثل أمريكا وبريطانيا والهند والمجر والبرازيل وبين الطغاة المعروفين، من أمثال بوتين، سوى أن سيادة القانون تضيق من هامش حركة «الديمقراطيين» وتضع قيدا على رغباتهم. كما أن هنالك سلطة معتبرة ترصد أفعالهم وأقوالهم: إنها الصحافة الحرة. ولهذا فإن العداء للصحافة الحرة لم يعد حكرا على الطغاة، بل إنه اتسع ليشمل حكاما في عقر الديمقراطيات العريقة.
فإذا كان في وسع الطغاة حبس الصحافيين المستقلين، أو اضطهادهم في الرزق، أو الأمر باغتيالهم في قارعة الطريق، مثلما يحدث في عشرات الحالات كل عام، أو حتى إرسال زبانية لخنقهم ثم تقطيعهم في قنصليات بلادهم في الخارج، إذا كان في وسع الطاغية المعادي للصحافة الحرة فعل كل هذا بسهولة متى شاء وأنّى شاء، فليس لدى الحاكم الديمقراطي الكاره للصحافة، مثل ترامب، أسلحة انتقام سوى أن يتهم الصحافيين المستقلين بترويج الأنباء الزائفة وأن يشتم، تويتريّا، ويتفنّن في الشتم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
إلا أن ترامب تفطن قبل أيام إلى سلاح جديد: فقد قرر تجاهل مذيع سي ان ان، وولف بليتزر، وعدم إدراجه على قائمة المدعوين لمأدبة العشاء السنوية التي جرت العادة أن يستضيف فيها ساكن البيت الأبيض أهم مذيعي نشرات الأنباء في شبكات التلفزيون الكبرى قبيل موعد خطاب حالة الاتحاد. سنّة ثابتة في واشنطن لم يخالفها أي رئيس. ولكن ترامب انتهكها بضمير مرتاح. لماذا؟ لأن سي ان ان تروج الأنباء الزائفة! وما الدليل على زيف هذه الأنباء؟ أنها لا تروق لترامب، بل كثيرا ما تثير حنقه. وكفى بذلك دليلا!
من أغرب سمات هذا العصر أن الفوارق الأخلاقية بين حكام الأنظمة الديمقراطية وحكام الأنظمة الاستبدادية قد زالت أو كادت. يكفي أن تنظر قليلا حتى تلحظ أن معظم الحكام في عالم اليوم قد فصّلوا وخيطوا من القماشة ذاتها
وإذا كانت هذه «الحركات» الترامبية لا تفاجئ أحدا من سكان القرية الكونية، فإن بعضهم قد يفاجأ إذا علم أن الصحافي السابق، خريج أوكسفورد، بوريس جونسون لا يكنّ هو أيضا مشاعر المودة أو التقدير للصحافة الحرة. على أن القصة لم تؤخذ في البداية مأخذ الجد. إذ لمّا اختبأ جونسون في ثلاجة (أي نعم!)، أثناء حملة الانتخابات البريطانية قبل شهرين، مخافة أن يعثر عليه فريق برنامج المذيع الشهير بيرز مورغان، كان ذلك مثار تندّر باعتبار أن هذه الحيلة الصبيانية علامة أخرى من علامات غرابة أطوار هذا الرجل العابث العاثر في مصاعب الجدّ والسياسة عثارا. ولمّا رفض جونسون كذلك تلبية دعوة الصحافي أندرو نيل في تلفزيون بي بي سي (رغم أن بقية زعماء الأحزاب لبوا الدعوة)، فهم هذا الرفض على أنه تهرّب من موقف محرج شخصيا، ومكلّف انتخابيا، نظرا لما اشتهر به أندرو نيل من توقد الذهن ودقة الأسئلة ورشاقة المراقصة والمناورة الحوارية مع السياسيين على طريقة محمد علي كلاي مع المنافسين.
ولكن الحادثة التي حصلت قبل أيام أثبتت أن تهرب جونسون من الإعلام ليس مجرد غرابة أطوار أو جبن انتخابي فحسب. بل إن الأمر أخطر: إنه جزء لا يتجزأ من حكمته السياسية! ذلك أن الصحافيين الذين أتوا، الاثنين، إلى لقاء إخباري بشأن البركسيت في مقر الحكومة في داوننغ ستريت قد فوجئوا بأن مستشاري جونسون للإعلام قرروا منع ممثلي صحف الاندبندنت والميرور وهافنغتون بوست من الحضور. لماذا؟ لأنها صحف «غير صديقة»، أي أنها تتحرى وتتقصى وتلتزم المسافة النقدية اللازمة. هذا بينما تؤيد صحف أخرى، مثل الديلي تلغراف والديلي ميل والصن، الحكومة وتعتنق سياساتها الانعزالية والشعبوية بتزمّت ايديولوجي سافر.
وقد بلغ من شذوذ الحادثة أن المراسل السياسي أندرو غرايس قال إنه: «لم يشهد طيلة أربعين سنة من حياته الصحافية حكومة تعاملت مع الإعلام بهذه الطريقة». وأنسب نعت لها في رأيي أنها طريقة بوليسية. بدليل أن دومينك كامنغز، فيلسوف البركسيت وكبير مستشاري جونسون، قد بث عيونا (بل قيل «شبكة جواسيس» كاملة) في المطاعم لرصد المستشارين الذين قد تسول لهم أنفسهم عصيان أوامره بعدم الحديث إلى الصحافيين! لماذا في المطاعم؟ لأن العادة جرت منذ قرن ونصف بأن يتقابل الصحافيون مع مصادرهم الإخبارية، أي المستشارين السياسيين، حول مائدة الغداء.
كاتب تونسيش
لم ننجح في تقليدهم… لكنهم سينجحون في تقليدنا. مقال جميل سي مالك.
يا (مالك التريكي) عنوان مقالك (ضد الإعلام: الديمقراطيات تتلمذت على الديكتاتوريات) في جريدة القدس العربي، وأول ما لاحظت من نشاطك عندما كنت من موظفي/إعلامي في قناة الجزيرة، أثار لدي الأسئلة التالية:
ما الفرق بين برنامج (THE EDGE) على قناة (CNBC) وبرنامج على قناة (CNN) اسمه (Connect the Dot) يتم بثّه من الإمارات العربية المتحدة،
وهل هذا إعلام، أم إقتصاد، أم استثمار (رأسمالية المال أولاً في الإعلام) في أجواء العولمة والإقتصاد الرقمي الإليكتروني؟!