وصل التوتر الإسرائيلي الإيراني أعلى مدياته قبل أيام، وذكّر المراقبين بالأزمة التي تلت اغتيال العالم النووي الإيراني الأبرز محسن فخري زادة في تشرين الأول/نوفمبر الماضي، الذي اتهمت طهران الموساد باغتياله وتوعدت بالرد في الزمان والمكان المناسبين. إذ تصاعدت التهديدات الإسرائيلية مع وقائع مؤتمر فيينا المنعقد لتهيئة الأجواء لعودة إدارة الرئيس بايدن للاتفاق النووي الذي انسحب منه سلفه الرئيس دونالد ترامب، مما حدى بحكومة بنيامين نتنياهو إلى تصعيد لهجتها وإطلاق التهديدات ضد إيران وبرنامجها النووي بشكل سافر، لذلك ربط العديد من الخبراء وبينهم جهات إسرائيلية بين الموساد الإسرائيلي والحادث الأخير الذي وقع في منشأة نطنز النووية الإيرانية.
تشوش المواقف
لا أحد يعرف على وجه الدقة ما حدث في منشأة نطنز النووية الإيرانية يوم الاحد 11 نيسان/ابريل الجاري، إذ تضاربت الأخبار، فقد أعلنت طهران نبأ مفاده «وقع حادث في منشأة التخصيب في نطنز» بعد يوم واحد من إعلان منظمة الطاقة الذرية الإيرانية: «إعادة بناء مركز تجميع أجهزة الطرد المركزي من الجيل الجديد في نطنز بعد نحو عشرة أشهر من هجوم الثامن من حزيران/يونيو 2020» مؤكدة أنه أصبح جاًهزا للاستخدام. كما أعلنت مصادر رسمية إيرانية عن بدء ضخ غاز اليورانيوم في أجهزة الطرد المركزي المتطورة من الجيل التاسع في المنشأة والتي تعرف بـ «آي آر9» وبدء القيام بـ «اختبار ميكانيكي» لها.
وكانت وسائل إعلام إيرانية قد نقلت تصريح المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمال وندي الذي قال؛ إن «مشكلة وقعت بشبكة توزيع الكهرباء بالمنشأة» وأضاف، إن «الحادث لم يوقع إصابات بشرية أو يتسبب في تلوث إشعاعي».
لكن الصحافة الغربية سارعت لتغطية أخبار الهجوم، إذ كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية نقلا عن مصادر مخابراتية، إن الهجوم على منشأة نطنز الإيرانية نجم عن انفجار دمر بشكل كامل نظام الطاقة الداخلي الذي يزود أجهزة الطرد المركزي تحت الأرض التي تخصب اليورانيوم، وأوضحت الصحيفة نقلا عن المصادر ذاتها أن إيران قد تستغرق تسعة أشهر لإعادة العمل في تخصيب اليورانيوم في المنشأة. بينما نقلت هيئة البث الإسرائيلي «كان» عن مصادر مخابراتية، لم تكشف عن جنسيتها، قولها إن جهاز الموساد الإسرائيلي شن هجوما سبرانيا على منشأة نطنز النووية الإيرانية.
وسارعت الجهات الرسمية الإيرانية في اليوم الثاني إلى إعلان تفاصيل أكثر عن الحادث، إذ صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية، سعيد خطيب زاده، في مؤتمر صحافي في طهران، الاثنين 12 نيسان/ابريل الجاري، متهما إسرائيل بالوقوف خلف الهجوم بقوله «بهذا العمل، حاول الكيان الصهيوني الانتقام من الشعب الإيراني» ولمَّح إلى أن هدف الهجوم هو إفشال المحادثات الجارية في فيينا التي تسعى فيها إيران لإقناع الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على طهران والعودة إلى الاتفاق النووي.
وأشار تقرير غوردن كوريرا مراسل الشؤون الأمنية في «BBC» إلى إن بعض التقارير الإسرائيلية تحدثت عن هجوم سبراني قد يكون السبب في الحادث، لكن إيران تحدثت عن «متسللين» وتقارير عن انفجار في مولد الطاقة. يبدو أن ثمة شيئا واحدا تتفق عليه كل التقارير وهو أن «حادثاً» أثر على شبكة توزيع الطاقة في منشأة نطنز، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي وأحدث الكارثة.
بعد مرور ثلاثة أيام على الضربة التي تعرضت لها شبكة توزيع الكهرباء في منشأة نطنز، بعثت إيران برسالة إلى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، أكدت فيها أن «مثل هذا الإجراء في موقع نووي قد ينجم عنه خطورة تسرب المواد المشعة، وهذا مصداق على الإرهاب النووي». إذ سلم الأربعاء 14 نيسان/أبريل كاظم غريب آبادي مندوب إيران الدائم لدى المنظمة الدولية للطاقة الذرية في فيينا الشكوى إلى رافائيل غروسي.
من جهة أخرى ذكرت جهات إيرانية غير رسمية نقلا عن مصادر مخابراتية معلومات تفيد بأن إيران استطاعت تحديد هوية الشخص الذي عطّل تدفق الطاقة الكهربائية في منشأة نطنز النووية، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي في الموقع. وذكرت هذه المصادر أنه «تم التعرف على الشخص. ويتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لإلقاء القبض على هذا الشخص الذي تسبب في انقطاع التيار الكهربائي في أحد المباني في موقع نطنز».
هجمات متكررة
تعرض البرنامج النووي الإيراني والعاملون فيه إلى العديد من الهجمات، وقد أدت الهجمات التي اتهمت بتنفيذها جهات إسرائيلية إلى اغتيال عدد من المهندسين والباحثين في البرنامج النووي الإيراني، كما ان منشآت البرنامج النووي لم تسلم من الهجمات الإرهابية المتكررة. الضربة الإخيرة التي نفذت يوم 11 نيسان/ابريل الجاري في منشأة نطنز الواقعة في صحراء اصفهان 250 كم جنوب طهران، مثلت خرقا جديدا أصاب هذه المنشأة الاستراتيجية التي تركزت عليها الهجمات المتكررة، وذلك لانها تمثل قلب برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني.
فقد أرخت أولى ضربات الحرب السبرانية عالميا في هذه المنشأة، إذ تمثلت هجمات الحرب السبرانية السابقة بالتسلل إلى مواقع المعلومات وسرقتها أو التلاعب بها أو تسريبها، لكن الهجوم على منشأة نطنز الذي نفذ في حزيران/يونيو 2010 أدى إلى انفجارات ودمار مادي نتج عن هجوم سبراني بواسطة فايروس ستوكسنت «Stuxnet « الذي طورته شركات أمريكية وإسرائيلية عام 2005 وتم استخدامه في هجوم على المنظومة الإلكترونية لمعجلات تخصيب اليورانيوم الإيرانية، ما أدى إلى اصابتها بأضرار جسيمة أدت إلى خروج العديد من هذه الوحدات من الخدمة وتأخر البرنامج النووي حينذاك لعدة أشهر.
كما أعادت الهجمة الأخيرة إلى الأذهان الهجوم الذي أصاب بنايات منشأة نطنز الذي وقع في حزيران/يونيو 2020 إذ تبنت جهة غير معروفة أطلقت على نفسها اسم «نمور الوطن» مسؤولية القيام بتفجير في بنايات خدمية في منشأة نطنز النووية، لكن، وبحسب التصريحات الرسمية الإيرانية أن الضربة لم تعيق برنامج التخصيب النووي الإيراني، واتهمت الحكومة الإيرانية الموساد وبعض المؤسسات الرسمية الإسرائيلية بالوقوف وراء الهجوم الذي وصفته بالإرهابي.
مفاوضات مؤتمر فينيا
يبدو إن للهجوم الأخير الذي وقع في منشأة نطنز علاقة قوية بانعقاد مؤتمر فينا بين دول «5+1» وايران يوم 6 نيسان/ابريل الجاري والذي يسعى المشاركون فيه لتقريب وجهات النظر للعمل على تفعيل الاتفاق النووي من جديد. وبدت إيران متمسكة بموقفها الرافض للجلوس إلى مائدة المفاوضات مع الولايات المتحدة ما لم يتم إلغاء حزم العقوبات التي فرضتها عليها إدارة ترامب، التصريحات التي تزامنت مع عقد المؤتمر أشارت إلى إن مشاكل الاتفاق النووي في طور الحل، إذ وصف السفير الروسي لدى المنظمة الدولية للطاقة الذرية في فيينا، ميكائيل أوليانوف، المحادثات التحضيرية بأنها «ناجحة» وأضاف إن «الخبراء شرعوا في العمل فورا». ولكنه نبه إلى أن «العودة إلى الاتفاق لن تحدث في مدة وجيزة، وأن الأمر يتطلب وقتا لا نعرف ما إذا كان طويلا أم قصيرا، ولكن الأهم أن المحادثات من أجل بلوغ هذا الهدف بدأت».
أما المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، فقد بدا حذرا في تصريحاته، إذ قال في مؤتمر صحافي في واشنطن «لا نتوقع نجاحا سريعا، فهذه المحادثات ستكون صعبة مثلما يتوقع الجميع». لكن روبرت مالي المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، قال قبل أيام من عقد المؤتمر إن هدفه هو أن يرى «إذا كنا سنتفق على خريطة طريق تؤدي إلى العودة إلى التزام الطرفين» وأن الولايات المتحدة تعرف إن عليها أن «ترفع العقوبات التي لا تتناسب مع الاتفاق المبرم مع إيران».
وبدت الحكومة الإيرانية متفائلة بالنتائج، إذ صرح المتحدث الرسمي باسمها، علي ربيعي، بالقول إن طهران ترى أن «الموقف واقعي وواعد». وأضاف «نحن واثقون بأننا على الطريق الصحيح، وإذا ثبُتت إرادة وجدية ونزاهة الولايات المتحدة، فقد يكون ذلك مؤشرا على مستقبل جيد للاتفاق النووي».
لكن يبدو إن ضغوطا أوروبية مختلفة تمارس ضد إيران لإضعاف موقفها والضغط عليها في المفاوضات الجارية في فيينا، إذ قرر الاتحاد الأوروبي يوم 12 نيسان/ابريل الجاري فرض عقوبات على ثمانية مسؤولين أمنيين إيرانيين لدورهم في قمع تظاهرات تشرين الثاني/نوفمبر 2019 على ما جاء في بيان للمجلس الأوروبي. هذه الخطوة أثارت انتقادات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الروسي سيرغي لافروف اللذان صرحا في مؤتمر صحافي في طهران على هامش زيارة لافروف الأخيرة لإيران، فقد قال ظريف «ليعلم الأمريكيون أن لا العقوبات ولا أعمال التخريب ستزودهم بأدوات للتفاوض، وأن هذه الأعمال من شأنها أن تجعل الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة لهم». أما لافروف فقد دعا الولايات المتحدة لرفع العقوبات المفروضة على طهران، وانتقد بقوة الاتحاد الأوروبي الذي «يهدد الجهود الجارية راهنا» وأضاف» إذا كان القرار اتخذ عمدا في خضم محادثات فيينا الهادفة إلى إنقاذ الاتفاق النووي، فهذا ليس مؤسفا بل هو خطأ أسوأ من جريمة».
مع كل هذا التوتر لم يتضح الموقف الذي ستتخذه إيران من إسرائيل، ولا آليات الرد أو مكانه، لكن توقعات المراقبين تشير إلى إن إيران ستلجأ مرة أخرى إلى «ضبط النفس» ولن يتعدى ردها بعض العمليات المحدودة التي يمكن أن تنفذ ضد المصالح أو الوجود الدبلوماسي الإسرائيلي في مختلف دول العالم، لأن حكومة طهران ما زالت تمني النفس بالعودة للاتفاق النووي المصحوب برفع العقوبات والانفراج الاقتصادي الذي تنتظره.