ضمن أنشطة «كراسات السيماتك» … عروض متميزة لتجارب سينمائية مختلفة

«كراسات السيماتك» هو برنامج تدريبي في النقد السينمائي، تابع لمركز الفيلم البديل «سيماتك»، والذي يمتد من يونيو حتى ديسمبر 2014، بواقع ورشة أسبوعية كل شهر، يتم خلالها تقديم عرض أسبوعي لأفلام يقوم باختيارها مجموعة مختلفة من النقاد الذين يقومون بتدريب المشتركين بالورشة. وجاءت عروض أسبوع شهر يونيو من اختيار الناقد العراقي «قيس الزبيدي» والناقد «الطاهر الشيخاوي» من تونس. أقيمت العروض بسينما «زاوية» بوسط القاهرة، بمُشاركة المتدربين والجمهور لأفلام تمثل مدارس سينمائية متباينة فكراً وتقنية، وهي … «التعصب» لجريفث 1916، «المدرعة بتومكن» لإيزنشتين 1925، «فتاة سوداء» لعثمان سمبين 1966، «لولا تركض» من إخراج توم تيكفر. إضافة إلى ثلاثة أفلام قصيرة … التونسي «يد اللوح» لكوثر بن هنية 2013، العراقي «ميسي بغداد» لساهم خليفة 2012، و»نزهة في الشمس الرمادية» للمصرية منى لطفي، إنتاج 2012.

حِس «جريفث» الأخلاقي
«التعصب» هو الفيلم الثاني لجريفث بعد «مولد أمة 1915»، ويبدو أن شبح الحرب العالمية الأولى كان له أثر كبير على المنحى الذي اتخذه جريفث في هذا الفيلم، الذي يناقش فيه آفة التعصب لدى الإنسان في عدة عصور مختلفة من تاريخ الإنسانية. المعالجة الفيلمية للفكرة التي أراد جريفث إيصالها تعد في غاية الطموح … فمن خلال تناول فكرة التعصب عبر 4 حكايات تنتمي لأزمنة مختلفة، كانت حكاية العصر الحاضر ــ وقتها ــ (الفتى وزوجته وطفلهما) هي شِبه الإطار العام للحكايات كلها … بداية من بابل نبوخذ نصر مروراً بالمسيح، ومذبحة (بارثولوميو 1572) بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا، حتى عام إنتاج الفيلم، وقيام جمعية من النساء بالوصايا على سلوك البشر، وتدمير حياتهم، مقابل مُثل عليا لا يجدنها إلا في مخيلاتهن المريضة.

تكنيك السرد الحكائي
يبدأ جريفث الفيلم ببيت شعري لـ «وايتمان» ثم بامرأة تجلس أمام «مهد» وتقوم بهدهدة طفل لا يظهر وجهه (الحياة الإنسانية) التي تتأرجح دوماً بين السعادة والألم، وفي الخلفية تجلس ثلاث نساء في جانب مظلم، وكأنهن شاهدات على ما يحدث. البداية الرمزية تتكرر وكأنها الضابطة لإيقاع الفيلم، حيث يتم التنقل بين القصص والحكايات الأربع، مع بعض العبارات النصيّة، التي تحمل قدراً كبيراً من البلاغة، لتصف الانتقال أو التنقل بين المواقف السيئة التي يمر بها الإنسان خلال تاريخه، نتيجة تنويعات الشر، التي تتلون وفق وهم الحضارة التي يظن الإنسان أنه وصل إليها.
عن طريق توازي الحكايات وتداخلها يتم السرد القصصي، لتنتهي الحكايات بانتصار الأشرار بالطبع، وموت النبلاء والبسطاء والعاشقين، بخلاف إنقاذ الفتى من الإعدام في اللحظات الأخيرة، ليبدأ مع زوجته حياة جديدة … التداخل ما بين انهيار مملكة بابل على يد الفرس، إنهيار الآلهة «عشتار» والحرية التي كان يمنحها نبوخذ نصر لرعاياه في عبادة ما يشاؤون، مقابل غزو الفرس وفرض عبادة «مردوخ»، ثم الإبادة الجماعية التي حدثت للبروتستانت على يد الكاثوليك في فرنسا، نتيجة الوشايات والاستئثار بالسلطة، ثم دعوة المسيح ونهايته المعروفة، وصولاً إلى الوضع الاجتماعي القاسي الذي دمر حياة الفتى وزوجته، رغم ظهور بارقة أمل في النهاية بإنقاذه من حُكم الإعدام، ليستأنف حياته مرّة أخرى. لتأتي المواعظ المتتابعة في المشاهد الأخيرة، وأمنيات جريفث نفسه، بالاستماع وتنفيذ وصايا المسيح، والمناداة بوقف الحروب، وتحويل السجون إلى حدائق يلهو بها الأطفال. فالوازع الديني والحِس الأخلاقي هو ما جعل الفيلم يدور بالكامل في ظل هذه النظرة، مما جعل الفيلم يميل إلى أمنيات ميتافيزيقية، يرى أنها الحل الوحيد.
النوع الفيلمي
من مميزات الفيلم أنه لم يخضع لنوع فيلمي ما، فالحكاية التاريخية (بابل ومذبحة بارثولوميو) والحكاية الدينية (قصة المسيح) وأخيراً الاجتماعية والبوليسية (قصة الفتى وزوجته) جاءت في تضافر ينفي فكرة النوع الفيلمي، ليصبح الفيلم في لغة اليوم «عبر نوعي» إن جاز التعبير. هذه النظرية التي ابتدعها المنتجون في البداية، ثم نظريات الفيلم بعد ذلك. فالتداخل النوعي هنا جاء بشكل واضح، وناجح إلى حد كبير، حتى لو لم يقصده جريفث بمفهومنا الحديث لنظريات النوع الفيلمي.

المونتاج المتوازي
نظراً لطبيعة السرد، فقد استحدث جريفث فكرة المونتاج المتوازي لسرد أحداث متفرقة تحدث في تواز بصري وتناوب درامي، خاصة في النهاية، عندما تسارع الإيقاع الدرامي عند محاولات إنقاذ الفتى من تنفيذ حُكم الإعدام، موزاة بانهيار مملكة بابل، والقضاء على عشتار إلهة التسامح، ولقطات من مذبحة البرتستانت. فالفتى الذي يصعد سلالم المشنقة يقابله المسيح وهو يسير مُتعثراً بصليبه، وهو ترادف مقصود ومقارنة بين وضع الإنسان البائس في عصر جريفث، والمسيح نفسه!
اللقطة العامة واللقطة القريبة
ــ من منجزات جريفث قدرته على توظيف «اللقطة القريبة»، واستخدام الإضاءة بشكل جمالي مقصود في «اللقطة العامة» ليُظهر أدق تفاصيل المكان، سواء في حكاية بابل أو مشهد الحفل في الحكاية الواقعية، وحتى تظهر هذه التفاصيل جاء توزيع الإضاءة بمساحات كبيرة، وقد يكون من الممكن إضافة إلى ذلك أنه استخدام عدسة قصيرة، لتتيح مجال رؤية أوسع، وحتى يبدو كل من مقدمة الكادر وخلفيته في درجة الوضوح نفسها، وهو أمر يحتاج الى بحث حول مدى كفاءة العدسات في ذلك الوقت.
ــ أما اللقطات القريبة التي ترسم انفعالات الشخصيات الدقيقة، فلم تأت إلا في حالة المقهورين والبؤساء … كفتاة الجبل في عصر بابل، وزوجة الفتى، في أمنياتها وصلاتها إلى العذراء، وصديقة رئيس العصابة بعد قتلها له. اللقطة القريبة أيضاً تم استخدامها للإيحاء بحالة من البراءة، كما في وجه الطفل وهو يضحك. ولقطة (اليد) لتوحي بتوتر زوجة الفتى عند مُحاكمته، التي جاءت على شكل لقطات الـ cut away بخلاف ذلك جاءت أغلب اللقطات إما متوسطة أو أمريكية، وهو ما وسم به الشخصيات الشريرة، بخلاف لقطة قريبة حينما تأملت «راعية» جمعية النساء وجهها، وتأكدت أن عهد شبابها ولى، لتبدأ رحلة انتقامها.

«فتاة سوداء» … التأريخ لسينما القارة الإفريقية
يعتبر فيلم «فتاة سوداء» أول فيلم روائي يؤرخ به للسينما الإفريقية، وهو من تأليف وإخراج السنغالي «عثمان سمبين». وهو عمله الأول بالطبع، ومن إنتاج مشترك بين السنغال وفرنسا عام 1966، بعد فيلمين روائيين قصيرين … «رجل العربة 1963» و»الحقول 1964». كما فاز «فتاة سوداء» بالجائزة الكبرى لمهرجان قرطاج في دورته الأولى عام 1966. فكرة «سمبين» تدور بعد حالة المد التحرري الذي طال القارة السمراء في ستينات القرن الفائت، وتتناول حياة فتاة فقيرة تعيش في منطقة عشوائية، تضطرها الظروف القاسية للعمل، لتجلس في أحد الميادين بين مجموعة من النسوة يعرض أنفسهن للعمل كخادمات، وتأتي امرأة فرنسية وتأخذها لتعمل على رعاية أطفالها الثلاثة. تنشأ بين الفتاة وشاب قصة حب، لم تجن منها سوى بعض اللحظات والصور الفوتوغرافية، التي سترافقها في رحلتها مع سيدتها إلى فرنسا. تفرح الفتاة بهذه الرحلة لأنها ستشاهد باريس وشوارعها ومحالها وأضواءها التي لا تنطفئ، إلا أن الواقع يناقض أحلامها، لتجد نفسها تقوم بكل أعمال المنزل منذ الصباح وحتى المساء، وكأنها محكوم عليها بعقوبة تقضيها في حجرتها الضيقة. تنتاب الفتاة الكآبة وصولاً إلى الاكتئاب، وتبدأ في حوارها الداخلي الذي يسرد فخ التناقض الذي وقعت به، لتتمرد على تنفيذ أوامر سيدتها، حتى تأتي لحظة لا تستطيع معها الحياة، فلا تجد إلا تقديم روحها قرباناً لحلمها الخائب.
طرد الروح الشريرة
هل من الممكن تأويل شريط الفيلم (البصري والسمعي) من ناحية الرموز والإشارات التي صاغ منها «سمبين» عمله الروائي الأول؟ سنحاول لما تحمله هذه الرموز من دلالات تتناقض من خلالها وتتكشف العلاقة بين المُستعمِر والمُستعمَر … الموسيقى والأغنيات السنغالية/القناع الخشبي/مقبرة شهداء حرب التحرير/الزي الوطني للفتاة السمراء، في مقابل … الموسيقى والملابس الفرنسية/إيقاع الحياة في فرنسا حيث الغرف الضيقة والجدران الخالية سوى من الوجه الخشبي الذي أهدته الفتاة لسيدتها لتعلقه فوق الحائط، هذا القناع الذي أعاده الرجل الفرنسي، عندما انتحرت الفتاة السمراء، فقط هذا القناع وحقيبة ملابسها، التي بها بعض الصور الفوتوغرافية مع حبيبها الشاب.
فمن مظاهر تمرد الفتاة عندما اكتشفت خسارتها الفادحة أنها عاشت ذكرياتها مع الشاب، في فلاش باك وكأنها تسخر من أحلامها، عندما أبلغته أنها ستسافر إلى باريس، وبدأت تمارس مظاهر فرحتها في فرح طفولي، حتى انها رقصت فوق النصب التذكاري للشهداء، وسط صراخ الشاب بأن تتوقف ولا تدنس هذا الرمز المقدس. تتذكر الفتاة، فتخلع شعرها المُستعار حيث كانت تتشبه بالفرنسيات، وتسوي شعرها كفتيات بلدها، وترتدي زيها الوطني، وتسترد القناع الخشي بالقوة، لأنه ملكها في الأساس، وبعد اكتمال طقوسها هذه، تقوم بالانتحار.
ففكرة وحالة الإحساس بالاستعمار لم تنته بعد، الفتاة لم تتحرر من هذا الإحساس، وإن كان حلمها الذي دارت في فلكه هو أن تتحقق خارج بلدها، وفي دولة المحتل. (الأمر أشبه بحكاية سمبين نفسه، الذي سافر إلى فرنسا، وظل عشر سنوات حبيس العمل في ميناء مارسيليا، قبل أن يتوجه للسينما).
التراث الشعبي
واجه سمبين إحساسه بالاستعمار من خلال تراثه الشعبي، وكأنه تعويذة لطرد الأرواح الشريرة. فصاحب البيت الذي كانت تعمل به الفتاة يعود إلى بلدتها ومعه حقيبتها وقناعها الخشبي، عارضاً النقود على أمها التي ترفض، ليأخذ شقيق الفتاة الأصغر القناع ويضعه فوق وجهه، ويسير خلف الرجل في رحلة عودته، ليرتعب الرجل ويبدأ في الهرولة، حتى يصل إلى سيارته المرتكنة بميدان واسع مقارنة بالشوارع الضيقة التي بها منزل أسرة الفتاة، لينتهي الفيلم بالطفل وهو يهبط بالقناع عن وجهه في بُطء، بعد تأكده من رحيل الرجل المُرتعب.
الأسلوب التوثيقي
في بعض المشاهد، خاصة التي تدور في بلدة الفتاة تبدو اللقطات وكأنها توثق لحياة هؤلاء … الشوارع الضيقة المُتربة/الزحام حول الكاتب العمومي للبلدة/البيوت المتراصة والمتلاصقة/الجالسون أمام أبواب المنازل، خاصة مع مصاحبة الموسيقى والأغنيات المحلية. على العكس من مشاهد الفتاة في الشقة الباريسية، حيث رتابة الإيقاع للإيحاء وتجسيد حالة الاغتراب والخيبة التي تعيشها الفتاة.

«يد اللوح» لـ «كوثر بن هنية»
الفيلم التونسي «يد اللوح» لمخرجته «كوثر بن هنية» يحكي عن طفلة تعيش مع أمها بعد وفاة والدها، ولا تريد الذهاب إلى الكُتّاب، فتقوم بحيلة طفولية بتثبيت يدها بـ (صمغ) في كرسي خشبي كبير. حتى يصبح ملتصقا بها وتتحرك به في رحلتها إلى الكُتّاب، لتقوم أمها بقطع مسند الكرسي الخشبي، لتصبح حركة الطفلة أكثر تحرراً، حتى تتخلص منه الطفلة بعد عناء، وتصبح لعبتها في تنفيذ رغباتها، لتضع في يدها (الصمغ) وتصافح طفلا في سنها لا تريده ان يرحل عنها، مثل والدها التي تعرف أنه صعد إلى الجنة رغم كذب الجميع عليها بأنه في رحلة عمل.
تتوالى المواقف الساخرة خاصة من الشيخ الذي يقوم بتحفيظها القرآن، فعندما تجلس الطفلة فوق الكرسي وسط الأطفال، يضطرب الشيخ لأنها أصبحت تنظر إليه من أعلى وهو يجتلس الأرض، فما منه إلا الإتيان بكرسي خشبي مرتفع، حتى يُحافظ على نظرته إليها من أعلى! إضافة إلى الطبيب العجوز، الذي لا يستطيع التحدث بسبب التدخين، والذي يُصر على مواصلته، رغم صوته المبحوح والمُتحشرج، وهو لم يستطع مغالبة ضحكاته.
الفيلم بسيط وعميق في الوقت نفسه، ورغم الجو الساخر للفكرة، إلا أنه يتناسب وتفكير طفلة تحاول الهرب من مآذق الطفولة بشجاعة أكثر من الكبار.

«ميسي بغداد» لـساهم خليفة
طفل يقف على ساق واحدة ليحرس مرمى رفاقة في مباراة كرة قدم بمنطقة صحراوية على حدود العاصمة بغداد، الفريق يعشق ميسي، ونظراً لساقه المبتورة يطرده رفاقه ويأتون بفتاة بدلاً منه لحراسة مرماهم، ولا يتواصلون معه سوى من خلال التليفزيون الموجود ببيته، ونظراً للعطل الذي أصابه، أصبحوا لا يلقون إليه حتى بالسلام، وهو يقف مع أبيه في السوق يبيع الطماطم. ويسأل أبيه إصلاح التليفزيون، فيُخاطر الرجل ويذهب به إلى بغداد لإصلاحه ومعه ابنه، ليلقى الرجل رصاصة طائشة، ويتوسل بأن يعود الابن إلى البيت، فرفاقه يتنظرون مباراة ميسي المُرتقبة، وينفذ الطفل الوصية، حتى تهدده الأم بفصل التيار الكهربائي عن المباراة إن لم يقل لها أين أبيه، وفي عبارة مؤلمة يقول إنه سيذهب لأخذ جثة الأب بعد انتهاء المباراة، لتنهار المرأة باكية، وتتصاعد الصيحات لهدف ميسي المعروض بالتليفزيون.
الفيلم يحاول أن يجسد فعل الموت الاعتباطي، الذي أصبح أمراً عادياً في العراق، فالموت في الفيلم يفقد جلاله، ويصبح شيئا ضمن الأشياء التي يمكن مقابلتها بلا سبب وكأنه محتوم. لن نشاهد مصوّب الطلقة التي أصابت الأب، لم نشاهد سوى أجساد رجال يهرولون بعد سقوط الأب، دون حتى الالتفات إليه هو وطفله المذعور بجواره ــ كان من الممكن إنقاذه ــ وهو ما ساعد على حالة اللامبالاة تجاة رجل توشك روحه على الصعود.

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية