ضوضاء دبلوماسية باسم رسم معمار جديد للمنطقة العربية وتناسي القضية الفلسطينية

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

عندما تتحدث مع الفلسطينيبن الغائبين والمغيبين عن الحراك الدبلوماسي النشط في المنطقة، فإنهم يتوقعون شيئا «كبيرا» سيحدث، وزادت العملية الأخيرة في بني براك ورمات غان التي نفذها فلسطيني من جنين وقتل فيها خمسة إسرائيليين من مخاوف القاطنين في الضفة الغربية، وخاصة من يتحركون على الشوارع بين المدن الرئيسية والتي تقطعها مستوطنات تحتل التلال فوق القرى والبلدات الفلسطينية، فالمستوطنون في نشاط مستمر، وهم يستفزون سكان القدس الشرقية ويستعرضون عبر المتطرفين مثل ايتمار بن غفير عضلاتهم في ساحات المسجد الأقصى، المنطقة الساخنة التي تسخن أكثر في شهر رمضان. وخلف المخاوف الفلسطينية التي لم يحظ رئيس سلطتها الوطنية إلا بزيارة من عاهل الأردن عبدالله الأسبوع الماضي وبمرور سريع من وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في طريقه للنقب، النقطة الساخنة الأخرى والتي شهدت عملية أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عنها إلى جانب عملية ثالثة في الخضيرة. وجاء بلينكن لحضور اجتماع للدول العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل قبل عامين إلى جانب مصر التي كانت أول من أقام علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عام 1979. ولوحظ أن قرار مصر إرسال وزير خارجيتها كان متأخرا، ولم يذكر في إعلان المشاركين فيه وهي المغرب والإمارات والبحرين بالإضافة إلى إسرائيل المضيفة والولايات المتحدة. وقد قيل الكثير حول أهمية اللقاء بالنسبة لإسرائيل، لأنه جاء بعد لقاء ثلاثي بين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت وولي عهد أبو ظبي، الشيخ محمد بن زايد في شرم الشيخ. والمفارقة في لقاء النقب أنه جرى في سديه بوكير، الكيبوتس الذي أقيم في عمق صحراء النقب ودفن فيه ديفيد بن غوريون، الذي أعلن عن قيام دولة إسرائيل عام 1948. ولم يكن بن غوريون يؤمن بالسلام مع إسرائيل وتوفي عام 1973 في وقت لم تعترف أي دولة عربية بإسرائيل. وبعد نصف قرن التقى الوزراء العرب بوزيري خارجية إسرائيل وأمريكا يوم 27 آذار/مارس وظهروا ممسكين بأيدي بعضهم البعض وسط الابتسامات العريضة، ثم قاموا بتناول الكباب معا. وقالت مجلة «إيكونوميست» (2/4/2022) إن القمتين التوأمين كانتا جزءا من فورة دبلوماسية أوسع، بعضها متأصل في الشعور بأن أمريكا لم تعد شريكا موثوقا به. وأظهر الاجتماع في شرم الشيخ أن شركاء أمريكا يمكنهم تنسيق مواقفهم. وكان التجمع في إسرائيل فرصة للتعبير عن هذه المخاوف مع بلينكن. كما أن الاجتماعين يظهران ما وصلت إليه علاقات دول المنطقة مع أمريكا، حيث سافر بلينكن إلى إسرائيل لمدة ثلاثة أيام بينما كانت الحرب مستعرة في أوكرانيا.

إيران

وحاولت إسرائيل تسويق اللقاء على أنه إنجاز للدبلوماسية الإسرائيلية وانفتاحها على العالم. ودعا المشاركون في «القمة» إلى لقاءات سنوية وفي أماكن مختلفة على أمل توسيع حلف التطبيع وضم دول أخرى. وبهذا المعنى فقد كان اللقاء فرصة لهذه الدول التعبير عن مخاوفها من إيران. فلطالما عبرت دول الخليج عن تذمرها من أن أمريكا لم تحمها من الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية. فمنذ كانون الثاني/يناير، استهدفت المنشآت النفطية في السعودية وقتلت مدنيين في الإمارات. وتعتقد إسرائيل وزعماء الخليج أن أمريكا على وشك العودة إلى الاتفاق النووي الذي أبرم في عام 2015 مع إيران، والذي تخلى عنه دونالد ترامب في عام 2018. ويخشى قادة هذه الدول من أنه قد يؤخر، لفترة وجيزة خطط إيران النووية ويمنحها مكاسب اقتصادية تنفقها على نشاطاتها الإقليمية. وعبر كبير المفاوضين الأمريكيين روبرت مالي عن تحفظه بشأن احتمالات التوصل إلى صفقة. يقول: «يمكن أن تكون قريبة، ويمكن أن تكون قريبة لفترة طويلة جدا، ولا يمكنك الوصول إليه». ونقلت عن دبلوماسي إسرائيلي قوله إن قمة النقب كانت تهدف إلى «ضمان أنه، سواء وقع الأمريكيون والإيرانيون على اتفاق أو تم تفجير كل شيء، ستظل لدينا استراتيجية مشتركة مع الإدارة حول كيفية التعامل مع إيران بعد ذلك».

أوكرانيا

وتزامن لقاء الوزراء في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تحاول دفع الدول العربية المنتجة للنفظ لزيادة مستويات ضخ النفط واستقرار أسعاره بعد العقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الغربيون على روسيا بسبب غزو أوكرانيا إلا أن معظم هذه الدول ومن ضمنها إسرائيل تذرعت بالحياد أو بالإلتزام باتفاق أوبك بلاس الذي حدد حصص الدول الأعضاء. إلا أن لكل دولة من هذه الدول مصالحها الخاصة، ورغبتها في الضغط على أمريكا، فالإمارات مثلا غاضبة من عدم تعاطف جو بايدن معها عندما تعرضت لهجمات الحوثيين، والسعودية تريد اعترافا بولي العهد ومكالمة من بايدن ومطالب أخرى تتعلق بملف جمال خاشقجي الذي قتل في اسطنبول عام 2018. وفي الوقت الذي رفضت فيه تلقي مكالمات من بايدن إلا أن السعودية قدمت دعوة للرئيس الصيني لزيارة الرياض الشهر المقبل. ومن جهة أخرى، لا تريد إسرائيل تعريض تعاونها العسكري مع روسيا في سوريا للخطر، حيث تشن ضربات جوية ضد إيران ووكلائها. والإمارات، سابع أكبر منتج للنفط في العالم، عضو في ما يسمى باتفاقية أوبك بلاس، والتي تلعب فيها روسيا دورا رئيسيا. قال وزير الطاقة الإماراتي هذا الأسبوع إنه سيرفض القيام «بشيء أحادي الجانب» لزيادة الإنتاج.

لا نتائج

ولم تكن قمة النقب سوى عملية رمزية، صورت إسرائيل على أنها خرجت من عزلتها وأنها باتت تلعب دورا دبلوماسيا على المسرح الإقليمي-التطبيع والدولي، من خلال لعب وساطة بين روسيا وأوكرانيا، بدون ان تؤدي هذه الجهود لإغضاب بوتين. فقد أشارت تقارير صحافية أن إسرائيل رفضت قبل الحرب بيع أوكرانيا نظام القبة الحديدية وبرنامج التجسس بيغاسوس لاختراق الهواتف الروسية، وعندما اكتشفت موسكو الأمر اشتكت لإسرائيل التي قررت عدم بيع نظام التجسس لكييف. وترى «إيكونوميست» أن اللقاء كان مرضيا لإسرائيل، فالأجواء التي سادت اللقاء كانت على خلاف لقاءاتها مع مصر والأردن اللتان وقعتا اتفاقيات تطبيع عام 1979 و 1994 حيث كانت القمم العلنية نادرة ومتكلفة حالة حدوثها. وبالمقابل فقد اتسم لقاء النقب بطابع غير رسمي علامة على تغير المناخ في مناطق الشرق الأوسط. في العام الماضي، أدت إزاحة بنيامين نتنياهو بعد 12 عاما كرئيس للوزراء، بتنسيق من نفتالي بينيت ويائير لابيد، رئيس الوزراء ووزير الخارجية الآن، إلى تحسين العلاقات الإقليمية لإسرائيل، وليس فقط مع الدول العربية. بل ومع تركيا التي توترت علاقاتها في العقد الماضي مع إسرائيل ومصر والإمارات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى دعمها القوي للإسلام السياسي. وهي الآن حريصة على إصلاح تلك الخلافات. ففي 9 آذار/مارس، استضاف رجب طيب اردوغان، رئيسها، نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في أول زيارة من نوعها منذ عام 2007. وقبل شهر كان في أبو ظبي لتناول الطعام مع ولي العهد الإماراتي. وأعطى تغيير الحكومة في إسرائيل لاردوغان فرصة لتغيير لهجته تجاهها. وكذلك الحال بالنسبة لتصدير الغاز الطبيعي المدفون تحت مياه البحر المتوسط لإسرائيل. قد تتحسن العلاقات الاقتصادية بين تركيا والإمارات أيضا. في أماكن أخرى، دفنت مصر ودول الخليج نزاعها مع قطر، التي أغضبتهم بدعم الإسلاميين في جميع أنحاء المنطقة. حتى أن الإمارات تتودد إلى بشار الأسد، دكتاتور سوريا، على أمل تقليص اعتماده على إيران.

الغائبون

ولم يشارك الأردن باللقاء رغم توجيه دعوة له، وبالطبع السعودية التي لم تقم علاقات مع إسرائيل. ولديها مخاوف مشابهة من إيران. وكانت بالتأكيد موجودة في الروح، كما يقول دبلوماسي إسرائيلي: «لا تدخل غرفة مع الإماراتيين والبحرينيين من دون موافقة السعوديين». يتوقع العديد من السعوديين أن يعترف محمد بن سلمان، ولي العهد، بإسرائيل بمجرد أن يصبح ملكا. كما غاب بالطبع الفلسطينيون. لم يقتصر الأمر على عدم دعوتهم، ولكن نزاعهم الطويل مع إسرائيل، الذي كان في يوم من الأيام قضية رئيسية لدبلوماسيي الشرق الأوسط، لم يحظ بأكثر من إشارة عابرة. وأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» (28/3/2022) أن قرار عقد القمة في النقب وليس القدس يعكس حساسية وضعية المدينة المقدسة للقادة العرب. وحضور قمة في القدس سيفسر على أنه رضى تكتيكي من هذه الدول بالرواية الإسرائيلية عن وضعية المدينة التي يأمل الفلسطينيون أن يكون جزءها الشرقي المحتل عاصمة لدولتهم. وقالت إن المسؤولين ربما ناقشوا سرا إمكانية تزايد العنف الشهر المقبل، وحلول شهر رمضان. ولم يناقش أي مسؤول مشارك في القمة موضوع الفلسطينيين الذين عبروا عن خيبتهم من التطبيع. ونقلت عن المحلل الفلسطيني غسان الخطيب قوله إن «العرب بعملهم هذا هم يلاحقون وهما لن يخدم قضيتهم أو قضيتنا». وعلى العموم فقد جاء اللقاء وسط محاولات اصطفاف بدون أن تقدم إجابات سهلة عندما يتعلق الأمر بإيران. إذا كانت أمريكا لا تعرف جوابا واحدا، فلن يعرف شركاؤها الإقليميون أيضا. وعلى المدى القصير، من المحتمل أن يعملوا معا لتعزيز التعاون العسكري والدفاعات الصاروخية. اقترح المشاركون في النقب جعله منتدى منتظما يعقد سنويا في منطقة صحراوية. ويجري الحديث عن نظام اتصالات يعطي دول التطبيع الفرصة لتحذير بعضها من أي مخاطر بالإضافة لزيادة الإستثمارات التجارية وفي قطاع التكنولوجيا. وبين محاولة تصوير إسرائيل كقوة دبلوماسية وتكنولوجية ومقبولة عربيا، رغم استطلاعات الرأي التي ترى أن العرب لا يدعمون التطبيع، بدا وكأن الأنظمة العربية لم تعد تخشى أو تخاف من إغضاب الشارع العربي. وسارعت دول عربية لشجب عملية بني براك التي نفذها ضياء حمارشة، في وقت واصلت فيه القوات الإسرائيلية الاعتقالات والاغتيالات في يعبد، موطن حمارشة وجنين. كثيرة هي الرسائل التي أفرزها الحراك الدبلوماسي العربي-الإسرائيلي من زيارة بشار الأسد، الرئيس السوري إلى أبو ظبي وتردد دول عربية بشجب العدوان الروسي في أوكرانيا ومحاولة أمريكا تعبئة الدول ضد فلاديمير بوتين، وعدم سماع الصوت الفلسطيني وسط الضوضاء الدبلوماسية، ولعل قرار الأردن بدء الصيام في يوم الأحد واختيار فلسطين الصيام يوم السبت دلالة أخرى عما هو قادم. وما يجري هو معمار جديد في الشرق الأوسط يستثني القضية الفلسطينية من ألوياته، حسبما قال وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد الذي نظم المؤتمر «ما نقوم بعمله هنا هو صناعة تاريخ، وبناء معمار إقليمي جديد يقوم على التقدم والتكنولوجيا والتسامح الديني والتعاون الأمني والإستخباراتي». وأضاف أن «المعمار الجديد والقدرات التشاركية التي نقوم ببنائها تزعج وتردع الأعداء المشتركين، أولا وأخيرا إيران وجماعاتها الوكيلة عنها». وعلقت صحيفة «وول ستريت جورنال» (27/3/2022) أن إسرائيل وشركاءها العرب الجدد يقومون بتسريع المحادثات المتركزة حول أنظمة الدفاع الجوية والصاروخية التي تهدف لمواجهة إيران وترسانتها من الأسلحة متوسطة المدى والمسيرات القتالية. ونقلت الصحيفة عن مسؤول أمريكي قوله إن السعودية التي لم تقم بالتطبيع مع إسرائيل أقامت علاقات عسكرية سرية وثيقة مع إسرائيل. وراقبت السعودية والإمارات المنشآت النفطية في أراضيها تتعرض للهجمات من الجماعات التي تدعمها إيران في اليمن والمنطقة وبرد رمزي من أمريكا. وتزامن اللقاء مع تدهور الوضع الأمني في إسرائيل، وهجمات في بئر السبع والأحد في الخضيرة، وسط إسرائيل. وفي النهاية، يؤشر المشهد الجيوسياسي الجديد في المنطقة إلى تراجع المحرمات لدى أنظمة عربية، ومخاوف من انقلاب في العلاقة الأمريكية بالشرق الأوسط، بعد الخروج المتعجل من أفغانستان والحرب الأوكرانية التي تهدد بعودة النظام الدولي إلى نظام من قطبين الصين وروسيا من جهة وأمريكا من جهة أخرى، ووجدت دول المنطقة نفسها عالقة بين قطبين، كل يحاول التاثير على المنطقة، فلا أمريكا لديها القدرة على إقناع دول الخليج لتغيير مواقفها ولا روسيا تملك التأثير الكافي. والفلسطينيون فضلوا في المعادلة الجديدة الصمت خشية إغضابهم كل الأطراف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية