نشرت الكاتبة والروائية الأردنية أمل الحارثي على صفحتها، إعلانا أبدت فيه دهشتها، عن أحد المراكز البحثية يعلن فيه أعمال المركز، التي تتوزع بين تأليف كتاب جديد باسمك للنشر، واقتراح عناوين وأفكار للكتب، واقتراح خطة وتقسيم للكتاب، وكتابة كتب جامعية فكرية ودينية وروايات وغيرها، نظير أسعار بسيطة. كانت دهشتي من دهشتها، رغم نشاطها الثقافي المعروف، والأدبي أخيرا، حيث قدمت روايتها الأولى التي عنوانها «من قاع البئر» وأهدتها لي لأني يوما اقترحت عليها أن تكتب الرواية، فهي تقدم حكايات رائعة عن النساء بلغة جميلة، وقدرة على الحكي من جهة، وعلى التصوير أيضا. قلت ربما جاءت دهشتها لأنها بذلت جهدا في كتابة الرواية، ففاجأها الأمر وتساءلت في نفسها، كيف لشخص أن يتخلى عن متعة الكتابة، ويجعل آخرين يفعلون له ذلك.
الحقيقة أن هذه المسألة قديمة وتتسع الآن.. موضوع قديم ويزداد الحديث عنه، وعن حالة بعض الباحثين يجدون من يساعدهم، وربما يكتب لهم الرسالة الجامعية، نظير مبالغ مالية. لقد حدث أني كنت أيام القدرة على تلبية دعوات حضور بعض المناقشات الجامعية، أندهش جدا من صاحب الرسالة الذي يقف أكثر الوقت، لا يرد على أسئلة أحد أعضاء اللجنة حين يشير إلى مراجعه الأجنبية، وهو لا يقرأ بلغة أجنبية مثلا، فكيف ومن أين أتى بما يستشهد به من أقوال. كان واضحا أنه أخذها من كتاب لباحث آخر، ولم يشر إلى اسم الباحث. كان الذي يتردد في السر أنه حتى لم يقرأ الرسالة التي كتبها له آخرون، أو ساعدوه فيها، جيدا، ولم أكن أصدق. رأيت بعض المشاهير بعد ذلك على السوشيال ميديا، بعد أن جعلتني الصدفة أرى بعضهم على شاشة التلفزيون، وهم يتحدثون في موضوع فلسفي أو أدبي أو نقدي شغلهم في رسالتهم، فيقولون أكثر الآراء سذاجة، وكلها حافلة بالخطأ، مما يثير السؤال كيف كتب رسالته التي يتحدث عنها. ومن باب الضحك رغم أنها واقعة حقيقية حدثت معي في وقت مبكر جدا عام 1978، حيث سافرت للعمل في المملكة العربية السعودية، وكان لمدير المكتب مساعد سعودي نسيت اسمه للأسف، رآني مرة في الصباح انتظر سيارة العمل لتصحبني إلى المكتب، فأخذني في سيارته. في الطريق سألني عن مؤهلي الدراسي فأخبرته، فقال لي «أنا أريد مؤهلا مثله، كم يمكن أن أدفع لأحصل عليه» ابتسمت وشرحت له الدراسة في الجامعة وكيف تكون ولا مجال لذلك، رغم أن ذلك كان وقتا مبكرا جدا، ولم تكن بعد قد انتشرت ظاهرة كتابة الرسائل العلمية نظير أموال، إلا أني لا أنساه كأنه كان يتنبأ بما ستصير إليه بعض الأحوال.
في السنوات الماضية كان لي صديق من الإسكندرية يعمل أستاذا في الجامعة، وما أكثر ما حدثني عن رسائل كتبها هو أو غيره، لبعض الباحثين عربا ومصريين. لم يعد الأمر مدهشا في ما يخص بعض الرسائل الجامعية، بل صار أمرا عاديا لا يقف عنده أحد. المثير هو عالم الرواية والإبداع. قرأنا من قبل أن هناك شعراء كتبوا قصائد وأغاني جميلة لشعراء آخرين، غناها مغنون مشاهير مثل عبد الحليم حافظ وحتى أم كلثوم. بعض الشعراء فعلوا ذلك لغيرهم في بداية حياتهم، لأنهم يحصلون على مقابل مادي من الشاعر الذي يوضع اسمه على الأغنية. هذا الأمر قل الآن وتقريبا انتهى، فالسوشيال ميديا تفضح كل ما خفي، حتى لو أخفاه صاحبه، لكن أستطيع أن أقول إن الأمر اتسع مع فن الرواية، التي صارت مغرية للكثيرين جدا الآن، وصارت هي الكعبة الوحيدة التي يحلم الجميع بزيارتها. لا أنسى أني منذ عامين أو ثلاثة أعوام، رأيت إعلانا في صحيفة سعودية لشخص يقول إنه مستعد أن يكتب الرواية لمن يشاء، نظير مبلغ مالي حدده هو ونسيته، أي أن الأمر صار في العلن، قبل إعلان هذا المركز البحثي الذي أدهش الكاتبة أمل الحارثي. أكثر من مرة أقرأ أو أرى على الشاشات، كاتبا يتحدث عن روايته ولا يعرف ما فيها، وحين يسأله أحد عن قراءاته يقول لماذا يقرأ وهو يكتب. هو يكتب فقط. أكثر من مرة أقرأ صفحات ينشرها كتابها على السوشيال ميديا، يطلبون رأي القراء قبل الانتهاء من الرواية، ليعيدوا كتابة الفصول بشكل يعجب القراء. أكثر من مرة أقرأ رواية وتكون الصدفة قد وضعت أمامي قبلها رواية أو فيلما سينمائيا أجنبيا، فأراها نقشا منه في الكثير جدا من صفحاتها. والمذهل أنها رواية جيدة فنيا، لكن معرفة مصدرها تجعلني اتساءل هل كتبها صاحبها أم كتبها له أحد؟ الأغلب كتبها له أحد. ابتعدت عن الكتابة في هذا الموضوع بعد أن فعلتها مرة مع رواية، ما جعل البعض ينزعجون من رأيي، لأن صداقاتهم الشخصية قوية مع الكاتب الافتراضي، الذي أعتبره أنا كذلك، رغم اسمه على الغلاف. فكرت وهذا أفضل لكاتب مثلي يريد الهدوء في حياته، أن يفعل النقاد ذلك فهذا دورهم. بالمناسبة الكاتب العماني سليمان المعمري يقوم بهذا الدور في كشف السرقات بامتياز، وأحسده على صبره. وطبعا لو فتحت الباب للحديث عن السرقات الآن لن أنتهي. السرقات في تاريخ الأدب العربي والأجنبي كثيرة على طول التاريخ، وهناك أبحاث حول ذلك أكثرها في الأدب القديم. صحيح مرت بسلام مع الزمن، وظلت القصائد تُنسَب لمن سرقها، أو أضافها لنفسه، لكن هذه الكتب شهادة لا تختفي. تقوم الدنيا لو أشار أحد إلى مشهد في رواية مأخوذ من أخرى أو من فيلم، ويختفي السؤال لماذا تقوم الدنيا على من اكتشف ذلك، ولا تقوم على من فعل ذلك. كتبت في هذا الأمر رأيي، وهو أن السرقة يجب أن لا تلحق بأحد يكتب عن فكرة كتبها غيره من قبل، فالأفكار محدودة في تاريخ الإبداع. البعض يصل بها إلى خمس وثلاثين فكرة. أفكار حول الحب والفراق والسجن والسفر والديكتاتور والغربة وغيرها. لكن السرقة تكون حين يتم نقل مشهد بعينه من رواية أو فيلم إلى أخرى. يتساهل البعض ويسمون هذا تناصا، رغم أنه تلاص! كذلك تكون السرقة في الأبحاث العلمية، حين يتم الاستشهاد بصفحات طويلة من كتاب آخر لمؤلف آخر دون إشارة إليه. القانون الذي عرفته من زمان وكان يصل إليّ في تعاقدي على ترجمة رواية لي إلى لغة أجنبية، أدركته من بند في هذه العقود يقول، إذا كان هناك أكثر من ثمانية أسطر مأخوذة من مؤلف آخر، رجاء ذكرها حتى ندفع للمؤلف الأصلي حقوقه. طبعا هناك مؤلفون ماتوا منذ عشرات السنين ولم تعد لهم حقوق، لكن يبقى الحق المعنوي أن يتم ذكر اسمه. السرقات ستتسع في الزمن المقبل وسيكون وراءها لص لا يمكن معاتبته أو انتقاده، وهو الروبوت واستخدام الذكاء الاصطناعي. هكذا يرى البعض، وأزيد سيصبح التأليف سهلا لا يبذل فيه الكاتب جهدا روحيا، بل ستتسع مساحة العقل في شحن الروبوت بالأفكار ليعبر عنها، ثم في مراجعة ما يكتبه وإعادته إليه ليعيد صياغته، وهكذا سيتحول الكاتب إلى «صنايعي» فاقد الروح، وستغرق الروايات والقصص الفضاء، وسيكون السؤال الكوميدي عند لجان الجوائز مثلا، تُرى من يستحق الجائزة، الكاتب الذي اسمه على غلاف الرواية أم الروبوت؟ لكن رغم كل هذه التوقعات التي بالفعل سيشهدها الزمن، ستظل هذه الكتابات مفتقدة لروح الإبداع وشجن وألم الكتابة. أجل. الكتابة موسيقى الروح مهما ظهر من تقنيات خادعة. أما اللصوص فلن ينتهوا، والفارق أن السوشيال ميديا جعلت السرقة عملا تجاريا مشروعا، لكنها ستظل أحد تجليات التفاهة.
كاتب مصري